153

وأشفقت من استرسال الفكر في اللغات؛ ألفاظها وتراكيبها وأساليبها واختلافها بين الأمم، وفي الأمة الواحدة، بل اختلافها باختلاف المتكلمين قاطبة، ومن التفكير في أسرار الفصاحة والبلاغة. أشفقت من هذا المجال الفسيح الهائل فرجعت إلى الصديقتين الصغيرتين التي لا تكلم إحداهما الأخرى، ولكن تصاحبها وتلاعبها وتصادقها، فقلت: ما يدريك؟ لعل رجوعهما إلى الفطرة المتوحدة في العقل والعاطفة، وعجزهما عن اللغة التي تختلف فيها الأمم ويختلف فيها الناطقون، أدعى إلى الود بينهما! لقد أمكن التصادق بغير التكلم أياما، وأغنت الفطرة في حركاتها ونظراتها عن التعبير في هذا المجال. رأيت رأي العين صديقين لا يتكلمان.

السبت 16 محرم /28 أكتوبر

الأشخاص والقوانين

بدا لي وأنا أفكر في أحوال الأمم، أن معايير الفساد والصلاح فيها هذا المعيار: الأمة الصالحة ترى القوانين لا الآحاد، وتكبر السنن لا الأفراد، ويستوي في قانونها وفي إنفاذها القانون الصغار والكبار، والضعفاء والأقوياء، ديدنها ما قال الصديق: «الضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له، والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه.» كل واحد فيها، أو أكثر بنيها، يخضع للقانون، ويدعو إليه، ويعين على إنفاذه، شعارها الآية الكريمة:

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، وقول الرسول الكريم لمن شفع عنده لسارقه: والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

والأمة الفاسدة قوانينها سطور معطلة، ودعاوى مبطلة، إلا قليلا. أهواء الأقوياء قوانين عندها، وشفاعات العظماء شرع لديها. كل محسن يرجو أن يثيبه واحد أو طائفة أكثر مما يرجو ثواب القانون. وكل مسيء يحذر فردا أو حزبا أكثر مما يحذر القانون، أو يرجو عظيما أو عظماء لينجوه من جزاء القوانين.

اعرض على نفسك من تعرف من الأمم، أو الجماعات في أمة واحدة، تجد تصديق هذا القول، وتعرف أن أبين مقاييس الصلاح والفساد في أمة أن يعلو الناس على الشرع أو يعلو الشرع على الناس، وإن شئت فقل: أن تحكم الأمة بشرع عادل جامع، أو بهوى جائر مفرق.

الأحد 17محرم/29 أكتوبر

العسر واليسر، أو البساطة والتعقيد والتركيب

كنت أقرأ اليوم كتاب «حضارة الهند» لجستاف لوبون، ترجمته العربية، فمررت بصور شتى هندوكية وإسلامية، فقلت لرفيق في السفينة: إني أميز بين الصور الإسلامية وغيرها بالنظرة الأولى، إن سألتني عن خصائص كل فن فلا علم لي، ولا خبرة؛ ولكن لا أتردد في أن أقول لصورة في هذا الكتاب وغيره من صور الآثار في الهند: هذه إسلامية وهذه هندوكية. في الأولى بساطة ويسر، وفي الأخرى تركيب وعسر، الأولى جمالها في مرآها الواضح تحيط به العين، وتسكن إليه النفس، والثانية تلقاك بنقوش متداخلة وصور متراكبة، وتزاحم الخطوط والهيئات وفيها تجهم لا جمال، وعبوس لا ابتسام، وهيبة لا أنس . الأولى قصيدة مطبوعة يهش لها الفكر والأخرى بديعية مصنعة متكلفة تشغل الفكر بمحسناتها ولا تثير العاطفة.

Неизвестная страница