الفصل السادس عشر
تاريخ الفكر في الغرب - إلا أقله - هو تاريخ العقل النظري، وتاريخ الفكر في الشرق - إلا أقله - هو تاريخ الإدراك الصوفي والحاسة الجمالية؛ فللغرب نزعة عقلية منطقية علمية إلا ريثما يثور على نفسه، وللشرق نزعة روحانية تصوفية فنية إلا ريثما يثور على نفسه، والنزعتان تتجاوران متكاملتين في الشرق الأوسط، فلئن أخطأ من قال عن الشرق والغرب إنهما شيء واحد، فكذلك أخطأ من قال عنهما إنهما نقيضان لا يلتقيان في رقعة واحدة؛ لأنهما قد اجتمعا في الشرق الأوسط، وكذلك هما مجتمعان في كرة أرضية واحدة، والأصوب أن يقال إنهما نزعتان متكاملتان في كل فرد، ثم في كل أمة بنسب تختلف في فرد عنها في فرد آخر، وفي أمة عنها في أمة أخرى، بل إن النسبة بينهما في الفرد الواحد وفي الأمة الواحدة لتختلف في مرحلة من العمر عنها في مرحلة أخرى، فإذا ما أسرفت أمة في ميلها نحو منطق العلم مثلا، كان الأرجح أن يجيئها من يذكرها بأنه لا بد للإنسان من دفء العاطفة، وكذلك حين تسرف أمة في حياتها العاطفية، يغلب أن يظهر من بنيها من يحاول إلجامها بشكائم العقل ومنطقه.
ففي الغرب الذي يتميز بالعقل النظري أكثر مما يتميز بالحدس المباشر، الذي يرى الحقيقة رأسا بغير وساطة الأدلة وخطوات الاستنباط، في هذا الغرب نفسه من الفلاسفة من ينهضون للحد من سلطان العقل لكي يتاح للإدراك الحدسي - أو إن شئت فقل الإدراك الوجداني - أن يدرك من الحقائق ما ليس في وسع العقل أن يدركه، ونسوق لذلك مثلا «هنري برجسون»، الذي راعه أن يلقي الناس بزمامهم إلى العقل دون غيره، فينتهوا إلى إثبات ما يثبته العقل وإنكار ما ينكره، على حين أنه يصلح لشيء ولا يصلح لشيء آخر، ولا بد من وسيلة إدراكية أخرى ندرك بها بواطن الأمور ما دام العقل مقتصرا في إدراكه على ظواهرها، وهذه الوسيلة الأخرى هي «الحدس» المباشر.
فبالحدس يدرك الإنسان الكل جملة واحدة، وبالعقل يدرك الأجزاء وما بينها من علاقات، بالحدس يدرك ماهية الشيء وجوهره من حيث هو كائن موجود لذاته وبذاته، وبالعقل يدرك أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بينه وبين سائر الأشياء. نعم، إن في مقدور العقل أن يفهم الحقائق الساكنة، أعني الأشياء التي تتصف بالقصور الذاتي، والتي تدوم على حالة واحدة بعينها، أما الحياة في تيارها الجارف السيال ففوق مستطاع العقل إدراكها، في مقدور العقل أن يتناول مركبا فيحلله إلى أجزائه ثم يركبه وهكذا، ما دامت أجزاء المركب باقية على حالها بغير زيادة تضاف إليها ولا نقص يأخذ منها، ولكن الحياة ليست على هذا السكون وهذا الثبات، بل هي دائبة السير على مر الزمن، وتظل تضيف إلى نفسها في كل لحظة جزءا جديدا؛ لأن كل لحظة زمنية فيها الماضي كله مضافا إليه هذه اللحظة الجديدة، فإن أراد العقل أن يفهم الحياة أو مر الزمان، أفلتت منه هذه الإضافات التي تستجد في كل لحظة، ولو كان العقل قادرا على فهم الحقيقة كلها كاملة منذ الأزل لكان معنى ذلك أن الحقيقة بدأت كاملة منذ الأزل، وليس الأمر كذلك في حالة الحياة مثلا، وهي التي تزيد - كما قلنا - على مر الزمن.
فهل كتب على الإنسان أن يفهم الحياة وأن يفهم غير الحياة من الحقائق التي ما تنفك نامية مترقية ما دام عقله لا يدرك إلا ما هو ثابت على حالة واحدة؟ هل كتب عليه ألا يرى الحياة إلا في صورها الظاهرة التي تتبدى في سلوك الكائنات الحية حركات في المكان، فلا يتاح له أن يخرج إليها في محرابها ليراها وهي في نشاطها المبدع الخلاق؟ ألا إنه لو كان العقل هو وحده أداة المعرفة، ولا أداة لنا سواه، فسيظل سر الحياة مغلقا خافيا على البشر إلى أبد الآبدين. لكن لا، إن سيال الحياة الذي يأبى أن يكشف عن سره لذكاء العقل، إنما يسفر عن نفسه للبصيرة، أو الحدس أو اللقانة أو ما شئت أن تسمي هذه الملكة التي تتيح لصاحبها أن يواجه الحقيقة مواجهة مباشرة لا تستنبط كما يفعل العقل ولا تستدل.
إن كمال الإنسان مرهون بأن يسير الحدس مع العقل جنبا إلى جنب، فبالعقل يفهم البيئة المادية المحيطة به فهما يعينه على العيش، وبالحدس يدرك ما خفي عن العقل من حقائق كر الحياة وحرية الإدارة وما إليها. إن مجال العقل هو العلوم التي تستند إلى الملاحظة والتجربة، ثم استخراج القوانين الطبيعية التي تمكننا من الانتفاع بالظواهر على النحو الذي نريد. وأما مجال الإدراك الحدسي فهو الفلسفة؛ لأنها إذ تترك للعلم بحث الظواهر، تحاول هي أن تنفذ إلى البواطن، فالعلم مثلا يعامل الجسم الحي كما يعالج الجماد، ومهما بلغ من التوفيق في فهم المادة، فلن يكتب له النجاح في فهم معنى الحياة عن طريق الدراسة البيولوجية؛ لأن البيولوجيا - كسائر العلوم الطبيعية - تعنى بظواهر الأشياء، وها هنا يبدأ واجب الفلسفة؛ فعليها أن تبحث في الكائن الحي دون أن تبتغي لنفسها غاية عملية، وأن يكون الحدس وسيلتها إلى الإدراك، ولا يجوز لها أن تصطنع طريقة العقل في البحث؛ لأن هذا من طبيعته لا يبحث إلا في المادة الجامدة، ذلك هو ميدانه، وكل امتداد له خارج ميدان المادة الميتة هو توسع في اختصاصه غير مشروع، فلم يخلق العقل ليفكر في أي شيء من شأنه الحركة والتغير كالحياة المتطورة مثلا ؛ لأنه إزاء الحقيقة النامية عاجز؛ إذ من شأنه أن يجزئ موضوع بحثه ليبحث في كل جزء على حدة، ولو أراد عالم أن يحلل كائنا حيا إلى أجزائه ليعود فيركبه كائنا حيا من جديد، كما يحلل قطعة من الخشب مثلا إلى عناصرها ثم يركبها خشبا مرة أخرى، لوجد نفسه إزاء كومة من أشلاء هيهات أن تعود كما كانت كائنا حيا. كلا، ليس العقل ومنهجه هو ما يسعفنا إذا ما أردنا أن نفهم الحقيقة المتطورة المتغيرة المترقية، وكيف يستطيع ذلك وهو نفسه أداة خلقتها الحياة في ظروف معينة ليعمل في حدود معينة؟ إنه إن حاول ذلك كان كالجزء الذي يزعم أنه أعم من الكل وأشمل، وكالحصاة التي تقذفها أمواه البحر على الشاطئ، تريد أن تصور الموجة التي حملتها إلى هناك ...
هكذا يتحدث فيلسوف من الغرب إلى ذويه، وقد سقناه مثلا لما زعمناه، وهو أن غلبة التفكير العقلي النظري على ثقافة الغرب لا تنفي أن يظهر الفيلسوف الذي يحاول أن يوازن الميزان.
الفصل السابع عشر
أما بعد، فإن لكاتب هذه الرسالة مذهبا في الفلسفة يتابعه وينتصر له، ولا يدخر وسعا في عرضه وتأييده، وخلاصته في أسطر قلائل هي أن الإنسان إذا ما تكلم فإنما يقع كلامه في أحد صنفين: فإما هو كلام يساق للتعبير عن خطرات النفس ومكنون الضمير، أو هو كلام يقال ليشار به إلى الطبيعة الخارجية كما تتبدى للحواس، فإن كانت الأولى كان الكلام من قبيل الفن، مهما يكن مضمونه؛ لأنه عندئذ سيجري مجرى الفن من حيث هو تعبير ذاتي قاله قائله ليبسط به ما قد أحسه بوجدانه، فإن وافقه الناس على ما قد ورد فيه كان خيرا، وإلا فلا سبيل إلى إقناع الناس به إذا هم لم يجدوا من أنفسهم ما يحملهم على قبوله. وأما إن كانت الثانية، فإن الكلام عندئذ بمثابة القضايا العلمية التي يتحتم على قائلها أن يبين لسامعها كيف يكون إثبات صدق تلك القضايا على الطبيعة كما يراها المتكلم والسامع من وجهة نظر واحدة.
وما دمنا قد فرقنا بين الكلام الذي يكون فنا أو كالفن، والكلام الذي يكون علما أو كالعلم، فقد أضحى الطريق أمامنا واضحا كلما نشب بين الناس اختلاف في الرأي أو ما يشبه الاختلاف؛ لأننا قبل أن نحاج من يعارضنا في قول نقوله، سنتبين بادئ ذي بدء ما طبيعة هذا القول الذي نحاج فيه؛ أهو من قبيل التعبيرات الذاتية التي يكون الإدراك الحدسي أساسها ومدارها؟ أم هو من قبيل العبارات العلمية الموضوعية التي تكون الحواس والعقل مصدرها وعمادها؟ فإن كانت الأولى بطل الحجاج من أساسه؛ لأن الحجاج لا يكون لشيء أساسه الذوق، وإنما يكون الحجاج فيما يقال على سند من الحواس والعقل؛ لأن المتعارضين ها هنا سيقيسان صدق القول والبطلان بمعيار مشترك.
Неизвестная страница