أخذه الشك فنازعته نفسه وتجاذبته العوامل المختلفة بين أن يضحي بجاهه العريض وشهرته الواسعة - إذ كان أستاذ العلوم الدينية بالمدرسة النظامية ببغداد - وبين أن يخرج عن كل هذا إلى حياة الزهد والعزلة بعدما أيقن أن «نيته في التدريس غير خالصة لوجه الله ... وأن كل ما فيه من العلم والعمل رياء وتخييل»، فأدى به طول التردد وحدة الصراع النفسي إلى المرض، فالتجأ إلى الله، فأجابه الله وسهل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، فترك بغداد وعاش عيشة العزلة عشر سنوات تعلم في أثنائها التصوف لا عن طريق العلم والكتب فحسب، بل عن طريق العمل أيضا، وأخيرا عاد إلى طوس مسقط رأسه بخراسان، بعد أن استأنف التدريس مدة يسيرة ومات بها عام 1111م.
يحكي لنا الغزالي ذلك عن نفسه في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهو في هذا الكتاب يميز بين مرحلتين من مراحل الطريق الذي وصل به إلى الله، أما المرحلة الأولى - وهي مرحلة الكشف الإلهي الذي نجاه الله به من غائلة الشك - فيقول فيها: «فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن كل ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف؛ فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة.» والجملة الأخيرة من هذا النص هي خلاصة ما نريد أن نجعله علامة مميزة لثقافة الشرق الأوسط كلها، وهي أن ثمة طريقين للإدراك لا طريقا واحدا، أحدهما هو الأدلة العقلية المجردة، وذلك هو أساس العلم، والثاني هو اللمسة الذاتية المباشرة، وذلك هو أساس الإيمان وأساس التصوف وأساس الفن على حد سواء.
وأما المرحلة الثانية من مراحل توبته، ففيها يقول إنه بعد أن استعرض أقوال المتكلمين والفلاسفة: «أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم ... وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون «الجسم» صحيحا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكران، بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه شيء من السكر ... فعلمت يقينا أنهم (أي الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك ...»
هذه التفرقة التي وصفها الغزالي وصفا ينبض بالتجربة الوجدانية الحية، بين العلم العقلي بشيء وأن يحيا الإنسان ذلك الشيء حياة حقيقية، هي نفسها التفرقة بين نظرة العالم من جهة ونظرة الفنان من جهة أخرى، وقد تمثلت الأولى على الأغلب في ثقافة الغرب، وتمثلت الثانية على الأغلب في ثقافة الشرق الأقصى، وتجاورت النظرتان في الشرق الأوسط.
الفصل الخامس عشر
هما إذن نظرتان ينظر الإنسان بأي منهما إلى نفسه وإلى العالم، أو ينظر بكلتيهما، بهذه مرة وبتلك أخرى؛ ذلك أن الإنسان إذ يقف إزاء الحقيقة الخارجية، فإما أن ينظر إليها خلال ذاته فيشبهها بنفسه تشبيها يدمج الطرفين في كائن واحد، وتلك هي وقفة الفنان والمتصوف ومن لف لفهما؛ وإما أن ينظر إليها وكأنه متفرج يتابع ما يجري أمامه على مسرح الحوادث فيصفه وصفا يصلح لنفسه ولغيره من الناس على حد سواء، بل إنه ليشبه نفسه هذه المرة بما يرى بحيث يجعل من نفسه حدثا من الأحداث يلاحظ ويوصف كما تلاحظ سائر الأحداث وتوصف؛ وتلك هي نظرة العالم ومن يجري مجراه في التفكير؛ وثالث الفروض أن يجمع المرء بين النظرتين ليفرق بهما بين أمرين، فإن كان موضوع النظر وجدانا ينبض به قلبه إزاء الكون، نظر إليه بالنظرة الأولى فكان فنانا أو متصوفا، وإن كان موضوع النظر ظواهر الأشياء الخارجية، نظر إليه بالنظرة الثانية فكان عالما أو ذا نزعة علمية، وبديهي أن كل إنسان ينظر بالنظرتين معا حسبما يكون موضوع النظر، لكن أحد الأطراف قد يغلب عند فرد بالقياس إليه عند فرد آخر، فمن الناس من يجعل معظم النظر إلى ذاته ومنها ينتقل إلى سواها ليصبه على غرارها، ومنهم من يجعل معظم النظر إلى عالم الأشياء الخارجية ومنها ينتقل إلى ذاته ليفهمها على نحو ما قد فهم تلك الأشياء، ثم من الناس من يتعادل عنده الطرفان أو يكادان، ولقد زعمنا لك أن النظرة الأولى هي طابع الشرق الأقصى، وأن النظرة الثانية هي طابع الغرب، وأما تآلف النظرتين فهو مميز تميزت به ثقافة الشرق الأوسط .
ونزيد هذه التفرقة توضيحا فنقول إنه محال على الإنسان - مهما تكن نظرته إلى نفسه وإلى العالم الخارجي - أن يقف عند مدركاته المباشرة كما تأتي مجزأة على لحظات الزمن المتتابعة وموزعة على نقاط المكان المتفرقة، فالعين تتلقى لمعة من الضوء هنا ولمعة من الضوء هناك، والأذن تسمع رنة من الصوت الآن ورنة بعد لحظة، والأصابع تلمس هذا هنا وذلك هناك وهلم جرا؛ فهل نقف عند كل واحدة من تلك الانطباعات كأنما هي حقيقة مستقلة قائمة بذاتها؟ ذلك ما أقول عنه إنه محال على الإنسان أن يقتنع به، وإلا لوجد نفسه أمام خضم هائل من الجزئيات المتفرقات التي لا ينتظمها عقد ولا ينسقها بناء؛ إذن فماذا هو صانع إزاءها، إنه يجاوزها إلى مبدأ أعم يطويها تحت جناحه، وها هنا يكون الاختلاف الأصيل بين نظرة ونظرة، وبين ثقافة وثقافة؛ فمن الناس من ينتهي إلى مبدأ شامل يضم هذه الجزئيات المتفرقة الفرادى، ثم يقول عن ذلك المبدأ إنه هو الحق الثابت الدائم الأزلي الأبدي الخالد. لماذا؟ لأنه يقول إنه قد عاينه معاينة ببصيرته، وشاهده شهودا بوجدانه، ولا سبيل إلى الشك فيما تعاينه على هذا النحو وتشاهده، ولكن من الناس أيضا من ينتهي إلى مبدأ شامل يدرج تحته هذه الجزئيات الحسية المتفرقة، غير أنه لا يدعي لهذا المبدأ سوى أنه فرض يفترضه ويعرضه للتحقيق وإثبات الصدق، بما يشاهده وبما يجريه من تجارب، ووسيلته إلى ذلك هي أن ينتزع من هذا الفرض المفروض نتائجه التي تترتب عليه، ثم يعود إلى عالم المحسات لينظر: هل هذه النتائج صادقة على الواقع أو غير صادقة؟ فإن كانت الأولى ظل محتفظا بالمبدأ الذي افترضه لنفسه ليفسر به الجزئيات المتفرقة، وأما إن كانت الثانية فهو لا يتردد في التنكر لفرضه وإنكاره، ليحل محله مبدأ آخر يفترضه لتفسير وقائع العالم المحسوس كما تقع لبصره وسمعه؛ ولهذا تجد تاريخ المعرفة عند هذا الفريق الثاني متغيرا متبدلا، يفرغ من مرحلة ليبدأ في سيره مرحلة جديدة؛ لأنه يرفض مبدأ كان قد افترضه ثم ثبت له بطلانه فنبذه ليفرض مبدأ آخر، على حين تجد تاريخ المعرفة عند الفريق الأول على كثير جدا من الثبات والدوام، وفيم يكون التغير إذا كان المبدأ الأول المأخوذ به متصفا بالثبات والدوام؟
إن الفريقين من الناس حين يجاوزان حدود الجزئيات المحسة لينصرف كل منهما إلى المبدأ العام الشامل، يكونان عندئذ على اختلاف في طبيعة ذلك المبدأ وكنهه، فأما أحدهما فيرى نفسه إزاء حقيقة أدركها إدراكا ناصعا لأنه شاهدها بروحه - إن صح هذا التعبير - لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع التعبير عنها بكلمات مستقيمة المعنى كهذه الكلمات والعبارات التي يتفاهم بها الناس في حياتهم اليومية وفي أمور معاشهم؛ لذلك تراه يلجأ إلى العبارات والكلمات التي تومئ وتوحي، لا التي تصف وتحدد، ومن هذا القبيل تجد جميع الكتب والأسفار الدينية والصوفية في الثقافة الشرقية، وتلك هي لغة الفن. وأما الفريق الآخر فيرى نفسه إزاء حقيقة يفرضها لنفسه فرضا لكي يستنبط منها النتائج؛ ولذلك فهو مضطر أن يسوق تلك الحقيقة في عبارة محددة دقيقة، ومن هذا القبيل تجد جميع الكتب العلمية في ثقافة الغرب، وتلك هي لغة العلم النظري، حتى لتبلغ بها الدقة والتحديد أن تستغني عن الكلمات المألوفة في لغة الحديث الجارية - لما يحيط بها من غموض - برموز ترمز بها إلى المعنى المحدد المراد على سبيل الاصطلاح الذي لا يحتمل اللبس.
الشرق والغرب كلاهما متفق على أن العين ترى والأذن تسمع، لكن ما هذا الذي تراه الأعين وتسمعه الآذان؟ يجيبك الشرقي: إنه آيات يتبدى فيها الواحد الأبدي ويتجلى، ليصبح بآياته مرئيا مسموعا، لكنه هو وحده الخالد الباقي، وأما هذه الآيات الدالة على وجوده فإلى زوال سريع أو بطيء على حد سواء. ويجيبك الغربي: إنه ظواهر يرتبط بعضها ببعض على صور مطردة، فإذا نحن كشفنا عن هذا الاطراد فقد كشفنا عن القوانين التي تسير الأشياء على سننها ... هكذا يجيب كل من الفريقين، فإذا سألت صاحب الجواب الأول: ما برهانك؟ لم يكن لديه برهان يقدمه سوى أن تروض نفسك رياضة حتى تستطيع أن تدرك ما قد أدركه؛ فليس الإدراك الوجداني مما تقام عليه البراهين، لكنه يمارس ويعانى، ويختبر بالنفس، وهل يستطيع محب أن ينقل إليك لوعة قلبه بالبرهان؟ ... أما إذا سألت صاحب الجواب الثاني: ما برهانك على أن قانون الجاذبية مثلا يفسر كل الظواهر الفلانية؟ وجدت عنده ما يقوله على سبيل البرهان.
ثقافة الشرق هي من قبيل ما يستطيع صاحبه أن يقطع بيقينه لأنه قد أحسه بقلبه، وثقافة الغرب هي من قبيل ما يطلب على صدقه البرهان لأنه قائم على التفكير النظري والمنطق العقلي، فإن تكلم الأول جاء كلامه مرتعشا بهزة الوجدان الشاعر، وإذا تكلم الثاني جاءت عبارته باردة في رمزها؛ لأن حرارة العاطفة عندئذ تشينها وتعيبها. كلام الأول ناطق بما تضطرب به النفس من داخل، وكلام الثاني رامز إلى ما يشار إليه من ظواهر الخارج.
Неизвестная страница