فسرت ميمونة؛ لأن عبد الرحمن بدأ بذكرها، فأجابت على الفور: «كيف لم أرها وقد وقفت نفسي لخدمتها منذ أن وصلت، لعلمي أن ذلك يرضي الأمير ولم أفارقها إلا ساعة في هذا الصباح لاشتغالها في غرفة القهرمانة مع الأمير هانئ!» قالت ذلك وهي تتظاهر أنها تقوله بسذاجة وسلامة ضمير، وأصغت بكل جوارحها لما عساه أن يبدو من عبد الرحمن بعد سماعه ذلك الخبر.
أما هو فأحس بشيء من الغيرة وتذكر أن والدة مريم إنما ادخرتها له، وفكر في اختلاء هانئ بمريم على تلك الصورة، فلم ير سببا غير الحب المتبادل بينهما، فحدثته نفسه لأول وهلة أن يمنع هانئا من ذلك، ولكن حبه لهانئ ورغبته في أن يستمر الوفاق معه إلى نهاية تلك الحرب - كما شرطاه على نفسيهما - غلب على ذلك الشعور، وتصور ما هم فيه من الأمر العظيم والخطر الشديد، فأسر في نفسه أنهم إذا فرغوا من هذه الحرب فائزين وظل هانئ على ما شرطه على نفسه من البسالة والثبات ساعده على الظفر بها، فتجلد عبد الرحمن وأجاب ميمونة وهو يظهر عدم المبالاة: «لكن هانئا خرج الآن من عندها، وشاهدت مريم مع القهرمانة، وقد سرني ارتياحها للإقامة في الخباء، فأرجو أن تعيريها اهتمامك؛ لأني موص بإكرامها ولي في ذلك غرض أرجو أن تساعديني على تحقيقه.»
فلما سمعت ميمونة قوله استغربت ما يكتمه من أمر هذه الفتاة، وتأسفت لذهاب سعيها هباء منثورا، ولكنها أرادت أن تتحقق من الأمر، فبالغت في التجاهل وإظهار السذاجة، وقالت: «أؤكد يا مولاي أني فاعلة ما تريده، وفي الحقيقة إن هذه الفتاة من نوادر الخلق جمالا وعقلا ورزانة وهي قريبة إلى كل قلب، لا يستطيع جلسيها إلا أن يحبها فإذا كنت لا أكرمها إكراما لمولاي الأمير فإني أفعل ذلك حبا لها ولا بأس إذا أحبها الأمير أكثر من سائر نسائه؛ لأنها أهل لذلك.»
فخشي عبد الرحمن إذا طال الحديث أن يبدو منه ما لا يريد التصريح به، فابتدرها قائلا: «لقد خرج بنا الحديث عن الموضوع، ما الذي دعوتني من أجله الآن؟»
فأظهرت الاهتمام وقالت: «دعوتك لأمر هام وكان يجب ألا أتحدث عنه وربما كان فيه وحده ما يغنيني عن الأدلة على حبي للأمير عبد الرحمن وتفاني في خدمته فاعلم يا مولاي أني بثثت العيون من بعض الأفراد الذين تركتهم لخدمتي لاستطلاع أحوال العدو بعد سقوط بوردو، فعلمت أن الكونت أود ورجاله متربصون لكم في مضيق دردون على مقربة من هذا المكان، والمضيق في طريقكم إلى نهر لوار.»
ولم يكن عبد الرحمن غافلا عن أخبار عدوه؛ لأن جواسيسه كانت في كل الأنحاء وأكثرهم من أهل البلاد الأصليين وخصوصا اليهود فإنهم كانوا يبذلون كل رخيص وغال في سبيل مساعدة المسلمين انتقاما من المسيحيين، وطمعا في الغنائم كما تقدم، فلم يكن خبر أود ودردون ليخفى على عبد الرحمن ولا كانت ميمونة تجهل اطلاعه عليه ولكنها تجاهلت وأظهرت الاهتمام بأمر الجند، وأوهمته أنها اطلعت على السر بسعيها الخاص ولو علمت أنه يجهل ذلك الخبر لبالغت في كتمانه ، فسايرها عبد الرحمن وأظهر أنه فرح بذلك الخبر كي يحفزها على مصارحته بأخبار أخرى، فقال لها: «بورك فيك يا ميمونة قد تحققت الآن من حبك لنا وسعيك لنصرنا، وأرجو ألا تغفلي عن مثل هذه الأخبار.»
لم تكن ميمونة تجهل اطلاع عبد الرحمن على ذلك الخبر من قبل، ولكنها تجاهلت التماسا لما يبرر لها استقدامه في ذلك الصباح لتطلعه على حب هانئ لمريم إيقاعا للفتنة بين الأميرين، وقد ساءها أن حيلتها لم تأت بالفائدة المطلوبة، ونسبت إخفاق مسعاها إلى سعة صدر عبد الرحمن وطول أناته، فأضمرت أن تحول سهام مساعيها نحو هانئ؛ لأنه شاب لا يصبر على الغيظ، وغرضها الأول إيقاع الفتنة بين القائدين وفي خصومتهما فشل الجند الكبير، فعزمت على تدبير الحيلة في وقت آخر، ولما سمعت ثناء عبد الرحمن على سعيها في خدمته ابتسمت ونظرت إليه نظرة عتاب ودلال واستعطاف ولولا رزانة عبد الرحمن وقوة إرادته لخرقت تلك النظرة صدره إلى قلبه، ولهاجت فيه لواعج الغرام وأنسته الجند والنصر الذي يسعى إليه، لما في عينيها من عوامل الجاذبية وما حول فمها من الملامح الفتانة وما في مجمل ذلك من السحر الآخذ بالألباب، ولا غرو إذا عبر الشعراء عن تلك الجاذبية بالسحر؛ لأن أثرها لا يمكن تعليله بغير السحر، وربما عبر عنه بعض علماء الطبيعة اليوم بالكهربائية، فمن كان حسنه جذابا قالوا إن كهربائيته قوية.
الفصل الثاني والعشرون
من شق الحائط
فلما نظرت ميمونة إلى عبد الرحمن تلك النظرة فهم أنها تعاتبه على ذلك القول ولسان حالها يقول له: «إني قتيلة هواك، متفانية في خدمتك.» فسره افتتانها به رغبة في الإفادة منها لما ينفع الجيش، فابتسم لها وهش وفي ظنه أنه بذلك يزيدها تفانيا في خدمته، وهي كلما رأت منه عطفا بالغت في إظهار الافتتان به، فلما علم عبد الرحمن أنها فرغت من التصريح بالخبر الذي استقدمته لأجله نهض وهم بالخروج، فنهضت ميمونة وهي تقول: «لولا علمي بالمهام الكثيرة التي تتعلق بذهابك أيها الأمير لتوسلت إليك أن تبقى هنيهة أخرى فهل أنت عازم على الذهاب لملاقاة العدو قريبا؟ وإذا ذهبت فهل تتركني هنا؟»
Неизвестная страница