وكانت مريم مطرقة، فلما سمعت كلامه رفعت بصرها ونظرت إليه - بعينين قد أذبلهما الغرام وتلألأ فيهما ماء الحب - نظرة تغني عن خطاب، فلم يتمالك هانئ عند ذلك أن قال: «فهمت الجواب.»
فضحكت القهرمانة وأمسكت بيد مريم وأجلستها وقالت وهي تحاول الجلوس: «ما أسرع ما فهمت جوابها وهي لم تتكلم.»
فجلس هانئ وهو يلتف بعباءته ويصلح عمامته وكان قد أبدلها بالخوذة في ذلك الصباح وقال: «لقد دلني قلبي يا خالة.»
ثم التفت إلى مريم وقال: «لا تخافي يا مريم، إنني لم آت لأزعجك وإنما جئت لأتحقق مما حدثتني نفسي به، حتى إذا صدق ظني وخدمني حظي وقفت نفسي لخدمتك وجعلتك أسعد الناس، إلا إذا كان هذا الخبر يسوءك.»
فتنهدت مريم تسكينا لما جاش في صدرها من الخفقان مما لم تعهده من قبل، وهمت بالكلام فمنعها الحياء، وكانت لا تبالي إن لقيت الرجال في ساحة الوغى، فكيف تلعثم لسانها بين يدي رجل يتمنى رضاها ويتوقع كلمة منها ليتغنى بها ويجعلها تعويذة له ولكن هو الحب يذل النفوس ويلعثم ألسنة الفصحاء، وظهر من خلال شفتي مريم مع ذلك أنها تكتم أمرا تود التصريح به لولا الحياء، فأدرك هانئ ذلك فيها فتوجه بكليته نحوها وقال وقد أخذ الهيام منه مأخذا عظيما: «قولي، يا مريم، لا تخافي ولا تكتمي عني شيئا فإن خالتي القهرمانة لا يستحى منها، بل هي خزانة أسرارنا، قولي هل تحبينني؟»
فالتفتت إليه وتجلدت وقالت: «وما الفائدة من الحب إذا لم يكن متبادلا، وأنتم معشر الأمراء قد تعودتم اقتناء النساء بالعشرات، والحب لا يكون صحيحا إلا إذا كان بين اثنين ليس معهما ثالث.»
فبغت هانئ لهذا التعريض وهو لا يرى له محلا وقال: «لست من هؤلاء يا مريم، وهذه الخالة تعلم أني بلغت هذه السن ولم أتخذ زوجة ولا جارية ولا سرية، اسأليها تنبئك فإنها مطلعة على أحوال سائر الأمراء في هذا الجند، فإن لكل واحد منهم خباء لنسائه وجواريه، وأما أنا فلا خباء لي ولا أحببت امرأة ولا فتاة ولم يكن يخطر ذلك ببالي قبل أن رأيتك في صباح الأمس فعزمت على أن تكوني نصيبي في هذه الدنيا، وتأكيدا لذلك فإني أعاهدك من هذه الساعة على أني لا أميل إلى سواك فهل تعاهدينني أنت أيضا؟»
فأبرقت أسارير مريم وأشرق وجهها، وتجلت في عينيها وحول فمها ابتسامة طار عقل هانئ لها، وخفق قلبه سرورا وقال: «ولكن لي شرطا واحدا عليك وعلى نفسي وهو أني لن أتمم شيئا قبل الفراغ من هذه الحرب فإذا عدنا منها فائزين، ونحن فائزون، بإذن الله، كان ما نتمناه فهل تعاهدينني على ذلك؟»
فقالت وهي مطرقة حياء: «وذلك هو الشرط الذي أشرطه أنا أيضا؛ لأنني إذا فزت بك، أكون عند ذلك قد نلت السعادتين.»
فقال: «فلنتعاهد إذن على هذا الشرط.» ومد يده نحوها ببطء وهي ترتجف من شدة التأثر، فأمسكها بيده وضغط عليها فأحس كلاهما بتيار كهربائي ارتعدت له فرائصهما، ثم نهض هانئ وهو يقول: «لا بد لي من الذهاب الساعة إلى المعسكر لنتأهب للقاء العدو، وأعدك أني سأبلو في ساحة القتال بلاء الأبطال لعلمي أن ذلك يسرك فادعي لي بالنصر.»
Неизвестная страница