فمشت مريم وقد التفت بثوبها وأصلحت نقابها الأسود وتعهدت شعرها استعدادا لاستقبال القهرمانة قيمة الخباء.
فدخلت باب الخباء في أثر الخصي، فرأت نفسها في دهليز انتهت منه إلى شبه قاعة فيها مصباح أضيء بالزيت وقد علقوه بحبل في سقف الخباء بين عمودين من أعمدته، ولم تشك مريم في أنه من مصابيح إحدى الكنائس في البلاد التي فتحوها، وكانت أرض الخباء مفروشة بأبسطة ثمينة، وكان بالخباء معظم ما يحتاجون إليه من الآنية الضرورية كأن أهله مقيمون هناك منذ أعوام.
فلما دخلت القاعة سبقها الخصي وأخبر القهرمانة، فتقدمت لاستقبال ضيفتها، وكانت القهرمانة مفرطة في البدانة، ثقيلة الحركة، عريضة الوجه، كبيرة العينين، خشنة الصوت، متدلية الخدين، غليظة الشفتين، قد نبت على شفتها العليا وحول ذقنها شعر متفرق مستطيل، وقد غطت صدرها وعنقها بالقلائد والعقود وفيها الذهب بين مرصع وغير مرصع، وحول زنديها الأساور والدمالج، وفي أذنيها الأقراط وفي رجليها الخلاخل، حتى ليكاد الناظر إليها وهي تمشي وتتوكأ على فخذيها يتوهم أنها تنوء تحت أثقال تلك الحلي، مع أن دلائل القوة ظاهرة في ضخامة وجهها ووضوح تقاطيعها، وكان بينها وبين عبد الرحمن قرابة نسائية، وقد ألقى إليها مقاليد خبائه وفوض إليها تدبير شئون نسائه وجواريه، وفيهن القوطيات والصقلبيات والروميات والبربريات وغيرهن، فلما رأت مريم وما هي فيه من الجمال والهيبة وخفة الروح أحبتها، فاستقبلتها ورحبت بها وخصوصا بعد أن علمت برغبة عبد الرحمن في إكرامها، وكانت مريم قد استوحشت من منظر تلك القهرمانة، فلما سمعت ترحابها استأنست بها، وهمت بتقبيل يدها فامتنعت وقالت لها: «أهلا بك يا حبيبتي ما اسمك؟»
قالت: «اسمي مريم.» ولفظت الراء غينا.
فاستلطفت تلك اللثغة منها ودعتها إلى الجلوس على البساط، ثم نادت بعض الخدم فجاءوها بالطعام، وكانت لم تذق طعاما من صباح ذلك اليوم، فأكلت ثم جلست والقهرمانة تحادثها وتسألها أسئلة كثيرة ومريم تجيبها وهي في شغل بما جال في خاطرها من أمر هانئ، وكلما تذكرته خفق قلبها وأسرعت ضرباته فلما رأتها القهرمانة قلقة منقبضة، حسبت ذلك من أثر الوحشة، وتذكرت ما أوصى به عبد الرحمن من إكرامها، ففكرت في طريقة تدخل البهجة في نفسها، وبعد أعمال الفكرة مدة ومريم صامتة قالت العجوز: «يظهر أن حديث العجائز لم يرق لك وقد أوصاني الأمير بإكرامك ورعايتك، ولعل من أسباب شعورك بالوحشة قرب عهدك بالأسر ويسوءك أنك أخذت من أهلك، فاعلمي أنك ستكونين عندنا كأنك بين أهلك، وإني سأدعو لك من نساء هذا الخباء امرأة أصلها من أهل هذه البلاد، وقد تعلمت العربية، وهي بارعة الجمال ولها منزلة رفيعة عند الأمير فأظنك إذا لقيتها استأنست بها.» قالت ذلك وصفقت فدخل خصي من الصقالبة وتأدب في موقفه فقالت له: «قل لميمونة إن القهرمانة تدعوك إليها.» فخرج الخصي فالتفتت القهرمانة إلى مريم وقالت: «أظنك تستأنسين بميمونة؛ لأنها من أعز أهل هذا الخباء على الأمير وهي في الأصل من جواري لمباجة بنت الدوق أود صاحب هذه البلاد، أظنك تعرفين حكايته مع المنيذر الإفريقي أحد أمراء المسلمين الذي كان واليا في الجبال على حدود إسبانيا وكان قد أبرم مع الدوق أود معاهدة لا تعرف فحواها، ولكننا علمنا أن أود زوج ابنته للمنيذر المذكور، فخشي أميرنا عبد الرحمن مما ينطوي عليه ذلك الاتفاق، فلما مر بالجبال وهو قادم لهذا الفتح قتل المنيذر واستولى الجند على أمواله ونسائه وأرسلوا امرأته لمباجة إلى الخليفة في دمشق، فكان من نصيب الأمير عبد الرحمن ميمونة هذه، ويقال إنها كانت أعز جواري لمباجة إليها وأشبههن بها جمالا وقدا وتعقلا، وسترينها الساعة.»
الفصل الخامس عشر
ميمونة
ولم تتم القهرمانة كلامها حتى دخل الخصي ولم يتكلم فعلمت أن ميمونة قادمة في أثره، ثم دخلت ميمونة وعليها ثوب أرجواني واسع الكمين طويل الأردان ينسحب وراءها مع طول قامتها واعتدالها، ولها شعر ذهبي طويل قد ضمته حزمة واحدة وأرسلته على ظهرها، ولو تأملته جيدا لرأيته ذهبيا ناصعا، وإذا تفرست فيه وأنت إلى جانبها رأيت فيه ميلا إلى الشقرة اللامعة، ومع ذلك فقد كانت سوداء العينين واسعتهما طويلة الأهداب سوداءها، وترى في عينيها لمعانا يدل على الذكاء والدهاء أكثر مما يدل على الصدق والوفاء، وكانت صغيرة الأنف مطمئنة الفم، رقيقة الشفتين، بارزة الذقن، بيضاء البشرة، وخصوصا العنق مع صفاء اللون، فلم تتمالك مريم عند وقوع نظرها عليها من الإعجاب بما يتجلى على وجهها من الهيبة والجمال، ورأت نفسها مظلمة منقبضة بما التفت به من الكساء الأسود.
فلما دخلت ميمونة ووقع نظرها على مريم هشت لها وابتسمت ابتسامة انفتح لها قلب الفتاة، وأحست للحال بأنس أنساها ما كانت فيه من القلق، وأجابتها بابتسامة يتوسم المتفرس فيها غير ما يتوسمه في ابتسامة تلك، ولا يميز ذلك إلا الناقد البصير، دنت ميمونة من مريم وحيتها ورحبت بها كأنها كانت على موعد من لقائها أو كأنها تعرفها من زمن طويل، فازدادت مريم استئناسا وطمأنينة ونسيت ما سبق إلى ذهنها من التهيب عند مقابلة القهرمانة، أما هذه فإنها عندما دخلت ميمونة خاطبت مريم قائلة: «هذه هي ميمونة التي أخبرتك عنها الساعة فأرجو أن تستأنسي بها وترتاحي إلى مجالستها.» وأشارت إلى ميمونة وقالت: «هذه ضيفة الأمير عبد الرحمن قد بعث بها إلينا وأوصانا برعايتها.»
فجلست ميمونة إلى جانب مريم وهي تقول: «أهلا بالضيفة الكريمة، من أين أتيت يا حبيبتي؟» قالت ذلك بكلام عربي تخالطه لهجة إفرنجية، فأدركت مريم من ملامح وجهها ومن لهجتها أنها إفرنجية الأصل كما قالت لها القهرمانة فأجابتها: «قد كنت في جملة أهل بوردو الذين قضي عليهم بالوقوع في أسر هذا الجند.»
Неизвестная страница