مراتب إمامة المصلين
من الأحاديث حديث أبي مسعود واسمه عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
وغالبًا ما تأتي كلمة القراءة في السنة بمعنى الحفظ، إلا أن تأتي في موضع يفهم منه القراءة بمعنى القراءة، ولكن دائمًا إذا أطلقت كان معناها الحفظ، فقدم هنا الأقرأ وهو الأعلم بكتاب الله ﷿، وإذا كان القوم يحفظون كتاب الله ﷿ فالأقرأ هو الأكثر حفظًا، والأجود قراءة فيتقدم على غيره.
إذًا: أقرؤهم لكتاب الله، وهو الذي يحفظ القرآن كله، مقدم بالشرع على من يحفظ ثلاثة أرباعه، أو نصفه وهكذا؛ إذ الإمامة ليست مجالًا للتنافس بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين من يحفظ ومن لا يحفظ، وبين من صوته حسن وصوته رديء، ولكن الله ﷿ قد علمنا على لسان النبي ﷺ من الذي يقدم، فهذا الذي يقدم كأنه وافد القوم على ربه ﷾.
ولذلك إذا أحسن فله ولمن خلفه، إذا أساء فعليه وليس على من خلفه.
وهم يقدمونه بين أيديهم لربهم ﷾، لذلك لا يقدمون من يختارونه بل الذي يختاره ربهم سبحانه والذي يقدمه النبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي أي مكان يقدم للإمامة أقرأ القوم، فإذا كان الناس يريدون اختيار إمام لهم فعليهم بأقرئهم وأحفظهم لكتاب الله فهو مقدم على غيره.
فإذا تقدم وصار إمامًا راتبًا، ثم جاء من هو أحفظ منه فالحق للإمام الراتب، وهذا مكانه وسلطانه ولا يؤخر لغيره إلا أن يختار هو أن يقدم غيره على نفسه.
أما أن يكون الإنسان إمامًا في مكان ثم يذهب إلى مكان آخر وينحي الإمام ويتقدم عليه، فلا يجوز له ذلك؛ قال ﷺ: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).
قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
أي: أما إذا استووا وكان الكل حفاظًا لكتاب الله فيقدم الأعلم بسنة النبي ﷺ، الذي يحفظ سنة النبي ﷺ ويفقهها، فعلم القرآن سوف يجعله يجيد القراءة، وعلم السنة سيعرف منه فقه هذه القراءة وفقه هذه الصلاة، فلو أحدث في الصلاة سيستخلف من خلفه ويتأخر هو ليتوضأ مثلًا.
وإذا أساء في الصلاة سوف يعرف كيف يتصرف في صلاته، ولا يحصل هرج ومرج بين الناس؛ لأن الذي يؤمهم يفقه كتاب الله، ويفقه سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذا عمل الناس بما قاله رسول الله ﷺ يكون الأمر فيه راحة للجميع، حتى لو كنت أنا أرى في نفسي أنني أفضل منه ولكن الشرع قدمه علي، فأنا أحكم بالظاهر، وأمر الباطن إلى الله ﷿ يحكم فيه يوم القيامة.
فإذا استووا في العلم بالقرآن والسنة وحفظها، فأقدمهم هجرة، وهذا لما كانت الهجرة موجودة في عهد النبي ﷺ.
ثم إن استويا في الهجرة، فالأكبر سنًا، فليست البداية بالسن، بل بالعلم بكتاب الله ﷿ والحفظ والإتقان.
قال: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).
هذا من الأدب الشرعي: أن المسلم لا يؤم الرجل في سلطانه، وسلطان الرجل هو المسجد الذي يصلي فيه، أو المكان الذي يصلي فيه إن كان مصلى في مكان عمل أو غيره واعتاد الناس أن فلانًا وهو أقرؤهم هو الذي يصلي بهم الصلوات، في هذا المكان، فهو أحق به، وإذا جاء غيره فلا ينحيه ولا يتقدم عليه، لأن الشريعة قدمت إنسانًا فهو يحترم ذلك، فإذا أذن له أن يتقدم عليه جاز له أنه يتقدم عليه.
والأولى ألا يعود الإنسان نفسه على أنه كلما ذهب إلى مكان يريد أن يكون إمامًا، فلا تكن طبيعة في نفسك أنك كلما ذهبت إلى مكان تنتظر من الناس أن يقدموك، الأفضل ألا تفعل ذلك، واترك الناس يؤمهم إمامهم الراتب في هذا المكان؛ لأن نفس الإنسان أمارة بالسوء، تهيج الإنسان، أنا أحسن من فلان، أنا أؤم أكثر منه، أنا أولى منه بهذه الإمامة، فإن الأنانية تهلك الإنسان! عود نفسك إذا كنت إمامًا في مكان وذهبت إلى مكان آخر وكان الإمام أقل منك في العلم أو الحفظ أو السن أن تصلي وراءه، وكان الصحابة يفعلون ذلك، مثل مولى أبي أسيد ﵁ كان ابن عمر يذهب للمكان الذي هو فيه ومعه بعض الصحابة ويقدمهم فلا يتقدمون عليه، وهم أفضل منه وأقدم في الصحبة للنبي ﷺ وهو ممن بعدهم، ولكن عرفوا قدر صاحب المكان.
لو أصر الإمام على أن يقدم هذا الآخر جاز له أنه يتقدم ويصلي بالناس، لكن الأمر أن كل إنسان يحتاج لأن يربي نفسه على التواضع.
وإذا وجدت أنك إمام في مكان والناس يكرهونك فلا داعي لهذه الإمامة ولا تحدث نفسك بأنك أفضلهم، فإن النبي ﷺ ذكر في الحديث: أن من الذين لا ترفع صلاتهم ولا تقبل صلاتهم (من أم قومًا وهم له كارهون).
فعلى المؤمن أن يصلي لله ﷿ حتى تقبل صلاته، وإذا لم تقبل صلاته إلا وهو مأموم فليكن مأمومًا، فليكن الأمر على الوجه الذي يريده الله ﷾.
في الحديث ذكر لنا أدبًا آخر، قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) السلطان هو مكان إمامته سواء كانت إمامة كبرى كالحاكم الذي يحكم بشرع الله ﷿، فيؤمهم وإن لم يكن أحفظ الناس، هذا في الولاية الكبرى.
الإمام في الولاية الصغرى هو الإنسان في مسجده، أو من فاتته الصلاة في الجماعة فصلى في بيته بأضيافه مثلًا، هنا قد يكون الضيوف أحفظ من صاحب البيت، ولكن السنة قدمت صاحب البيت.
فمثلًا: صاحب البيت يحفظ الفاتحة و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١] لا غير، وأنت تحفظ القرآن كله، فصاحب البيت أولى منك، ولا تحدث نفسك بأنه سوف يقدمك؛ فإن النبي ﷺ قدمه عليك لأنه صاحب المكان، لكن لو أنه ألح عليك بأن تتقدم فلا حرج.
فإن كان صاحب البيت لا يحفظ الفاتحة فلا يجوز أن يكون لك إمامًا، بل يصلي وحده وصل وحدك إذا أصر أن يكون هو الإمام، ولكن إذا قدمك فتقدم لأنه لا يحفظ الفاتحة، وكذلك إذا كان يلحن فيها، واللحن هو أن يقرأ قراءة تغير معنى الكلام، وقد شرحنا ذلك في فقه الصلاة، وأنه القراءة التي تغير المعنى في فاتحة الكتاب خاصة.
قال: (ولا يقعد في بيته على تكرمته): أدب آخر من الآداب العظيمة: المسلم متواضع في نفسه، والإنسان كلما تواضع رفعه الله ﷿، وكلما استكبر وضعه الله ﷾.
التواضع من الضعة، وهو أن يحقر نفسه، وكل إنسان يرى أن نفسه لها منزلة، لكن مطلوب منك شرعًا أن ترى نفسك عبدًا لله ﷿، وأن تتواضع، قال النبي ﷺ: (من تواضع لله رفعه الله).
مطلوب من الإنسان أن ينظر إلى خلقه، ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق:٥ - ٧].
انظر مما خلقت حتى لا تستكبر، تعلم من نفسك أنك كنت نطفة تستقذرها أنت، فلذلك يذكرك ربنا حتى لا تنسى نفسك أبدًا، ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطارق:٥ - ٨].
فإذا ذهبت لإنسان في بيته فلا تر لنفسك فضلًا عليه، وقد تكون من أهل الفضل، ولكن قد دخلت بيته فصار له فضل عليك، هو الذي دعاك حتى تأكل وتشرب في بيته.
الإنسان عندما يتذكر في نفسه أن فلانًا دعاه، وفلانًا تفضل عليه بذلك، يعرف فضله عليه، فعندما يدخل بيته يغض البصر، ويستأذن عليه في بيته ولا يزعج أهل البيت، ولا يستعمل جرس البيت حتى يسمع الشارع كله.
إذا دخلت بيته تغض البصر، وتنتظر أين سيدخلك؟ لا تسبقه، لا تجلس حتى يجلسك، واجلس حيث يجلسك، أقل شيء اجلس واجعل ظهرك للباب، ولا تبقى وجهك للباب تنظر للداخل والخارج.
فيقول هنا: (لا يقعد في بيته على تكرمته) يعني: في المكان الذي هو يحب أن يجلس فيه لا تقعد أنت فيه إلا إذا أذن لك.
17 / 3