وأما من ماثل حادثًا أو احتاج .. فلما مر من أنه يلزم للمثل ما ثبت لمماثله من الحدوث، وأن الاحتياج وصف ذاتي للحوادث، وأنه لا يتصف به إلا حادث وقد علم ضرورة أن الحادث لا يُحدث، فلو كان مولانا حادثًا .. لما أوجد العالم، فبإيجاده له عُلِمَ ضرورة وجوده وقدمه، ويلزم منه أنه باق، مخالف لغيره، قائم بنفسه. ويلزم منه أنه واحد؛ إذ لو كان له ثان في الألوهية .. لأدى إلى عجزهما -كما هو معلوم من براهين التمانع والتوارد، والعاجز لا يوجد- وإلى حدوثهما أيضًا، إذ العجز وصف ذاتي للحوادث، ولا يتصف به إلا حادث تعالى الله علوًا كبيرًا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء:٢٢].
ودليل حدوث العالم: أنه منحصر في (أعراض) وهي: ما قام بغيره كالحركة والسكون وعِلْم الحادث والجهل والألوان.
وفي (أجرام) وهي: ما قام بنفسه وملأ فراغًا؛ لأن الزائد إن كان صفة .. فهو العرض، أو موصوفًا فهو الجرم، ولا يصح اجتماعهما، ولا الخلو عنهما.
لكن زاد الفلاسفة ثالثًا سموه بـ (المجردات)، أي: عن التحيز والصورة، أي: لا جرم ولا عرض، وهو: النفوس البشرية، والأرواح الملكية، والعقول، وهي عندهم قائمة بنفسها غير متحيزة، متعلقة بالبدن تعلق تحريك وتدبير، غير داخلة فيه، ولا خارجة عنه. وتبعهم الغزالي وبعض الصوفية في النفوس البشرية خاصة.
ولا يلزم من هذا مماثلتها للبارئ تعالى؛ لأنها إنما شاركت في نفي العَرَضِية والجِرمية، كمشاركة كلامنا النفسي لكلامه تعالى في كون كل منهما ليس بحرف ولا صوت، والمماثلة إنما تكون بالمشاركة في الأمور الوجودية النفسية.
واختار كثير من المحققين الوقف في هذا الثالث، وهو أسلم.
أما الأعراض .. فحادثة مُشاهدةً فيما شوهد وجوده بعد عدم، أو عدمه بعد وجود كالحركة والسكون والعلم والجهل والألوان، والأول عين الحدوث، والثاني علامته؛ إذ من جاز عليه العدم استحال عليه القدم، إذ القديم لا يقبل العدم، إذ لو قبله .. كان جائز الوجود وجائز الوجود لا بد في وجوده من فاعل؛ لا ستحالة ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بمرجح، أي: فاعل، ومن احتاج لفاعل .. هو حادث، لا قديم.
أو قبولًا فيما لم يشاهد وجودُه بعد عدم، ولا عدمه بعد وجود، كسكون الجبل
1 / 57