بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.
سألني بعض إخواني -ممن أجله وأعظمه- عمل شرح لمختصر أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي ﵀، فرأيت إجابته إلى ذلك، ورجوت فيه القربة إلى الله تعالى.
إذ كان هذا الكتاب يشتمل على عامة مسائل الخلاف، وكثير من الفروع، التي إذا فهم القارئ معانيها وعللها، وكيفية بنائها على أصولها: انفتح له به من طريق القياس والاجتهاد ما يعظم نفعه، ويسهل به فهم عامة مسائل كتب الأصول لمحمد بن الحسن رحمة الله عليه.
1 / 195
لأني لا أذكر مسألة تتشعب منها مسائلُ من الفروع إلا نبهت على طرقها ووجوهها، مع ذكر شيء من نظائرها، ليكون الكتاب جامعا لعلم الأصول والفروع معا، وليعم نفعه وتكثر فائدته.
وأتحرى في جميع ذلك الاختصار والإيجاز، وأستمد من الله المعونة والتوفيق، إنه أقوى معين.
1 / 196
كتاب الطهارة
باب ما تكون به الطهارة
[مسألة: لا تكون الطهارة إلا بالماء أو بالصعيد إذا عدم الماء].
قال أبو جعفر: (قال أبو حنيفة ﵀: لا طهارة للصحيح إلا بالماء، أو بالصعيد في غير الأمصار وغير القرى إذا عدم الماء).
قال أبو بكر: الأصل فيه: قول الله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبًا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا﴾.
فلو اقتصر على قوله: ﴿فاغسلوا﴾ لاقتضى عمومه جواز غسل هذه
1 / 197
الأعضاء بسائر المائعات، لشمول اللفظ لها، لكنه لما قال في سياق الآية ﴿فلم تجدوا ماء فتيمموا﴾: دل على أن حكم الغسل المأمور به مقصور على ما جعل التيمم بدلا منه، وأبيح استعماله عند عدمه.
فإن قال قائل: لو لم يكن في شرط إباحة التيمم ذكر عدم الماء، لكان في قوله تعالى: ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورًا﴾. وقوله: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به﴾. وقول النبي ﷺ في البحر: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتته": ما يوجب أن تكون الطهارة بالماء دون ما سواه من المائعات.
قيل له: إنما حكم دلالة الآية والخبر الذي ذكرت مقصور على جواز استعمال الماء للطهارة، فأما أن يدل على نفي الطهارة بغيره، فلا، إذ
1 / 198
الحكم الذي تضمنته إنما هو إثبات الطهارة، لا نفيها، فالمستدل به على نفيها: مغفل لحكم الدلالة.
[مسألة: حكم الوضوء بالنبيذ].
قال أبو جعفر: (ويجوز عند أبي حنيفة الوضوء بنبيذ التمر خاصة، دون ما سواه من الأنبذة في غير الأمصار، وفي غير القرى عند عدم الماء، وقال أبو يوسف: لا يتوضأ به، وقال محمد: يتوضأ به، ثم يتيمم).
قال أبو بكر: القياس يمنع عند أبي حنيفة جواز الوضوء بالنبيذ لاتفاق فقهاء الأمصار على امتناع جوازه بالخل والمرق وسائر المائعات التي لا يتناولها اسم الماء على الإطلاق، إلا أنه ترك القياس فيه لدلالة لفظ الآية والأثر.
وذلك لأن من أصله: أن الأثر مقدم على النظر، وإن كان وروده من طريق الآحاد، وأنه لا يعترض بالقياس على خبر الواحد بعد أن يكون
1 / 199
وروده من الجهة التي تقبل فيها أخبار الآحاد لو لم يعارضه القياس.
فإذا لم يبق للحادثة طريق يوصل إلى معرفة حكمها إلا النظر والأثر، وتعارضا، كان الحكم للأثر، وسقط معه اعتبار النظر.
هذا مع تعاضد الأثر الوارد في إباحة الوضوء بالنبيذ من دلالة فحوى خطاب الآية.
وقد روى جواز الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء عن ابن عباس وعكرمة وأبي العالية ﵃.
1 / 200
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: ركبت مع أصحاب رسول الله ﷺ البحر ففني ماؤهم، فتوضؤوا بالنبيذ، وكرهوا ماء البحر.
وما نعلم أحدًا من الصحابة روي عنه خلاف ذلك.
فأما الأثر الذي ذهل إليه أبو حنيفة ﵀ في جواز الوضوء بالنبيذ: فهو حديث عبد الله بن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال له ليلة الجن: "أمعك ماء؟ قال: لا فقال: أمعك نبيذ؟ قال: نعم، فتوضأ به، وصلى الفجر".
روي هذا الخبر عن عبد الله من أربع طرق:
1 / 201
رواه ابن عباس، وأبو رافع، وأبو وائل، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث
- فأما حديث ابن عباس ﵄، فأخبرناه عبد الباقي بن قانع في الإجازة قال: حدثنا الحسين بن إسحاق قال: حدثنا محمد مصفى قال: حدثنا عمر بن سعيد عن ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش، عن ابن عباس عن ابن مسعود ﵃ أنه خرج مع رسول الله ﷺ ليلة الجن، فقال له رسول الله ﷺ:
أمعك ماء يابن مسعود؟ قال: معي نبيذ في إداوة. قال رسول الله ﷺ "صب علي منه"، فتوضأ رسول الله ﷺ وقال: "هو شراب، وطهور".
وحدثنا سليمان بن أحمد الطبراني قال: حدثنا أحمد بن رشدين المصري
1 / 202
قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا ابن لهيعة بإسناده، مثله.
- وأما حديث أبي رافع فأخبرنا عبد الباقي بن قانع إجازة قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي بشر السراج ومحمد بن عبدوس قالا: حدثنا محمد بن عباد المكي قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال له ليلة الجن: أمعك ماء؟ قال: لا قال: أمعك نبيذ؟ قال: نعم، "فتوضأ به".
وحدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي ﵀ قال: حدثنا علي بن عبيد قال: حدثنا العمري قال: حدثنا محمد بن عباد المكي قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، بإسناده مثله.
- وأما حديث أبي وائل: فحدثنا أبو بكر الجعابي قال: ثنا أبو العباس الفضل بن صالح الهاشمي، حدثنا الحسين بن عبيد الله العجلي قال: حدثنا أبو معاوية محمد بن حازم، عن الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود ﵁ قال: كنت مع النبي ﷺ ليلة الجن، فأتاهم فقرأ عليهم القرآن، وقال لي رسول الله ﷺ في بعض الليل: أمعك ماء يا ابن أم عبد؟ قلت: لا والله يا رسول
1 / 203
الله، إلا إداوة فيها نبيذ، فقال رسول الله ﷺ: "تمرة طيبة وماء طهور"، فتوضأ به رسول الله ﷺ.
- وأما حديث أبي زيد: فحدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا سليمان بن داود العتكي قال: حدثنا شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبد الله بن مسعود ري الله عنه أن النبي ﷺ قال ليلة الجن: ما في إداوتك؟ قال: نبيذ: قال "تمرة طيبة، وماء طهور".
وقد روى هذا الحديث عن أبي فزارة الثوري وشعبة إسرائيل والجراح وأبو وكيع بن الجراح وأبو العميس عتبة بن عبد الله
1 / 204
وفي بعضها أنه قال: "تمرة طيبة، وماء طهور، فتوضأ منها وصلى".
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدثنا أسد بن عاصم قال: حدثنا الحسين بن حفص عن سفيان الثوري عن أبي فزارة العبسي قال: حدثن أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عله وسلم ليلة الجن فحضرت صلاة الفجر، فسألني فقال: أمعك وضوء؟ فقلت يا رسول الله! مع إداوة فيها شيء من النبيذ، فقال: "تمرة طيبة، فتوضأ منها وصلى الفجر".
قال أبو بكر: والمخالف لنا يعترض على هذه الآثار من وجوه أربعة:
1 / 205
أحدها: دعواهم مخالفتها للأصول من الكتاب، والاتفاق.
لأن قول الله ﷿: ﴿فلم تجدوا ماء فتيمموا﴾، يقتضي عندهم أن يكون الماء المفروض به الطهارة، هو ما يتناوله اسم الماء على الإطلاق، وذلك معدوم في نبيذ التمر.
ولاتفاق الفقهاء على امتناع جواز الوضوء بكثير من المائعات التي لا يتناولها اسم الماء على الإطلاق.
والوجه الثاني: الطعن في سند هذه الآثار، من جهة أن أبا فزارة غير مشهور بالرواية، وأن أبا زيد لا يدري من هو، وكذلك رجال حديث ابن عباس وأبي رافع.
والثالث: من جهة ما عارضها من حديث علقمة أنه قال: قلت لعبد الله بن مسعود ﵁: هل كنت مع النبي ﷺ ليلة الجن؟ فقال: "ما كان معه منا أحد".
والرابع: تسليم الرواية وتأويلها على الوجوه الموافقة للأصول.
- فأما الجواب عن الوجه الأول، وهو دعواهم بمخالفتها لظاهر الآية والاتفاق، فدعوى عارية من البرهان؛ لأن ظاهر الآية معنا، وذلك لأن قوله: ﴿فلم تجدوا ماء فتيمموا﴾: إنما يقتضي ظاهرة إباحة التيمم عند
1 / 206
عدم كل جزء من الماء، ولا يقتضي إباحته عند وجود شيء منه.
لأن قوله: ﴿فلم تجدوا ماء ﴿: اقتضى ماء منكورا، وذلك بتناول كل جزء من الماء على حياله، سواء كان منفردًا بنفسه أو مخالطًا لغيره.
وقد يصح أن يقال: إن في نبيذ التمر، وإن كان أجزاء التمر هي الغالبة عليه.
كما أن ماء لو وقعت فيه نجاسة يسيرة: جاز أن يقال: إن في هذا الماء نجاسة، وكما أن لبنًا لو صب فيه ماء يسير، جاز أن يقال: إن فيه ماء، وإذا كان غير ممتنع أن يقال: في نبيذ التمر ماء، كان من مقتضى الآية حظر التيمم معه.
وعلى أن المائية التي في النبيذ إنما هي من الماء دون التمر، لأن التمر ليس بمائع، وهذه المائية غير موجودة فيه.
فالمعترض على الآية، وعلى الخبر المروي في جواز الوضوء بالنبيذ، مؤكد لصحة قولنا، ومن هذه الجهة قلنا: إن دلالة فحوى الآية تقتضي جواز الوضوء بالنبيذ، لما ذكرنا من أن الماء الذي أبيح التيمم عند عدمه: ماء منكور، وأن وجود جزء منه يمنع التيمم، فلو اكتفينا بدلالة الآية على صحة ما قلنا، لكان فيه غنى.
فإن قيل: فيلزمك على هذا جواز الوضوء بسائر الأنبذة، بل بسائر المائعات التي فيها شيء من أجزاء الماء.
قيل له: إنما يلزمنا ذلك لو لم نقم الدلالة عليه؛ لأن كلامنا في ذلك
1 / 207
لم يخرج مخرج الاعتلال، فيلزمنا عليه المناقضة، لأجل وجوده مع عدم الحكم على ما يعتقده من لا يرى القول بتخصيص العلة.
وإنما استدللنا به من جهة دلالة اللفظ، ولا يمتنع أحد من تخصيص ما كان هذا وصفه من دلائل الأسماء.
وبهذا المعنى وقع الفصل بيننا وبين من قبل خبر الشاهد واليمين، في اعتراضه على قول الله تعالى:﴾ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ﴿.
وذلك لأن في هذه الآية حظر قبول شهادة شاهد واحد، لأنه قال:﴾ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ﴿، فمنع أن نقبل عند عدم الرجلين إلا رجل وامرأتين، فمتى عدمنا الرجلين، وقبلنا شاهدًا واحدًا مع يمين الطالب، فقد خالفنا حكم الآية؛ لأن الله تعالى أوجب قبول شهادة الرجل والمرأتين عند عدم الرجلين.
1 / 208
والشاهد واليمين لا يتناولها اسم الرجل والمرأتين، فلذلك لم نجز قبول الشاهد واليمين على معنى يخالف الآية.
وأما قوله:﴾ فلم تجدوا ماء فتيمموا ﴿: فإن ظاهرة يقتضي جواز التيمم عند عدم كل جزء من الماء، ولا يصح التيمم عند وجود نبيذ التمر، إذ كان فيه جزء من الماء، وهو الذي اقتضت الآية بطلان التيمم معه.
* واحتجوا أيضًا في رد الخبر: بأن ليلة الجن كانت بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة، فكانت ناسخة له.
فقلنا لهم: إن الآية نفسها تمنع جواز التيمم مع وجود النبيذ الذي فيه جزء من الماء، على ما تقدم من بيانه.
وعلى أنه ليس فيما ذكروا ما يمنع الوضوء به، بل يدل ذلك على جواز الوضوء به؛ لأن النبي ﷺ قد توضأ به في حال لم يكن قد نقل فيه عن الوضوء بالماء إلى بدل، فدل أنه توضأ به على معنى أنه بقى فيه حكم الماء، لا على جهة البدل عنه، والتيمم إنما ورد حكمه
1 / 209
على وجه البدل عن الماء، فلا حكم له مع وجود النبيذ الذي هو مبقى على حكم الأصل، الذي هو الماء.
فإن قيل: فجوز الوضوء به مع وجود الماء إن كان الوضوء به مفعولًا على حكم الماء، الذي هو الأصل.
قيل له: لولا قيام الدلالة على امتناع جواز الوضوء به مع وجود الماء، لأجزنا الوضوء به، لكن الدلالة منعتنا.
ومما يدل على أن فرض الوضوء بالماء كان قائمًا في ذلك الوقت. غير منقول إلى البدل، أن النبي ﷺ طلب من الماء للطهارة به، فلما أخبره بكون النبيذ معه، قال: "تمرة طيبة وماء طهور".
فأخبر أنه توضأ به على أنه الماء المفروض به الطهارة، لا على جهة البدل عنه.
* وأما دعواهم مخالفته للأصول من جهة اتفاق الفقهاء على امتناع جواز الوضوء بسائر المائعات التي لا يتناولها اسم الماء على الإطلاق. فإن ذلك على خلاف ما ظنوا؛ لأن خبر الوضوء بالنبيذ إنما يعترض على قياس الأصول التي ذكروها، ولم يعترض على الأصول نفسها، وقد بينا فيما سلف أن أخبار الآحاد إذا وردت من الجهات التي تقتضي قبولها والعمل بها - لو لم يعارضها القياس-، فهي إذا وردت معارضة للقياس كانت مقدمة عليه، وكان القياس متروكًا لها.
1 / 210
وهذا نظير ما نقوله في أكل الناسي، أنه لا يوجب الإفطار، للأثر الوارد عن النبي ﷺ فيه، والقياس يوجب الإفطار فتركنا القياس للأثر.
وكما قلنا في إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة، للأثر والقياس يمنع منه، فتركنا القياس للأثر، وكان عندنا أولى منه.
ونظائر ذلك كثيرة، فلسنا ندفع أخبار الآحاد بقياس الأصول، لكن لا نقبلها في مخالفة الأصول نفسها.
* والخبر المخالف للأصول مثل قول مخالفنا في عبيد ستة، أعتقهم المريض ثم مات، ولا مال له غيرهم، فقال مخالفنا: إنه يقرع بينهم، فنعتق اثنين بأعيانهما، ونرد الباقين إلى الرق، وتأول فيه ما روى عمران بن حصين ﵁ في رجل أعتق ستة أعبد له عند موته، لا مال له
1 / 211
غيرهم، فأقرع النبي ﷺ بينهم، فاعتق اثنين، وأرق أربعة.
وهذا الخبر مقبول عندنا، محمول على معنى لا يخالف الأصول، وقد بيناه في مسألة القرعة من هذا الكتاب.
وحملة مخالفنا على وجه مخالف للأصول.
وإنما صار المعنى الذي ذهب إليه مخالفنا: مخالفنا للأصول أنفسها، لا على المعنى الذي قلناه في قبول خبر نبيذ التمر، والوضوء من القهقهة ونحوهما، من قبل أن الناس متفقون على امتناع رفع الحرية عمن وقعت عليه القرعة.
وهذا لأن المريض كان مالكًا لا محالة لثلث كل واحد منهم، جائز التصرف فيه من غير حق لأحد، فنفذ عتقه فيه، فكانت القرعة رافعة لما استحقه من العتق، وهذا معنى متفق على بطلانه، فمن أجله صار مخالفًا للأصول أنفسها.
ومن جهة أخرى إنه استعمل القرعة على وجه يخفق بها بعضهم، وينجح البعض، فصار في معنى الميسر والقمار اللذين حرمهما الله بنص كتابه؛ لأن رجلًا لو قال لرجل: "أقارعك على أرضك وأرضي، أو
1 / 212
"أقارعه على رق من خرجت عليه القرعة منهما": لم يصح ذلك، والقرعة المستعملة في العبيد هي هذا بعينه، فسقطت، لمخالفتها للأصول.
* ومما ترده الأصول من الأخبار: خبر المصراة إذا استعمل على ما ذهب إليه المخالف؛ لأنه يوجب أن من اشترى شاة بصاع تمر، ثم حلبها، ثم وقف على التصرية، أنه يردها ويرد معها صاع تمر، وحصة اللبن أقل من صاع تمر، وهذا رد للأصول من وجهين:
أحدهما: إلزام لمشتري أكثر مما لزمه من الغرم.
والثاني: أنه يأخذ صاعًا عن أقل منه.
* وأما طعنهم في خبر الوضوء بالنبيذ من جهة أن أبا فزارة غير مشهور بالرواية، وأن أبا زيد من مجهول، فإنه جهل من قائله، وذلك لأن أب فزارة مشهور، واسمه راشد بن كيسان العبسي، وله أحاديث مروية قد نقلها عنه الأئمة، وكان أحد الزهاد، فيما حدثنا ابن قانع في كتاب "الطبقات".
وإنما الوصول إلى معرفة عدالة من لم نشاهده من الرواة: من جهة
1 / 213
نقل الفقهاء وأهل العلم عنه، من غير طعن منهم عليه في روايته، ولا تهمته بالكذب، وأبو فزارة ممن نقل عنه الأئمة، ولم يطعن أحد منهم في نقله، ولا اتهمه برواية حديث يوجب تهمته.
وأما أبو زيد: فمشهور من عاملة التابعين قال يعقوب بن شيبة "سمع أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود ﵁، وقد أدرك جماع من أصحاب رسول الله ﷺ، وهو من الطبقة الأولى من الكوفيين بعد الصحابة".
* وأما حديث ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس ﵄: فمستقيم السند، لا نعلم أحدًا منهم طعن عليه في روايته، أو اتهم بالكذب في نقله.
وكذلك حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود ﵁.
1 / 214