شرح مختصر الصارم المسلول - محمد حسن عبد الغفار
شرح مختصر الصارم المسلول - محمد حسن عبد الغفار
Жанры
شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - ترجمة عن شيخ الإسلام ابن تيمية
لقد كان شيخ الإسلام نادرة من النوادر، فقد شابه الصحابة رضوان الله عليهم في جمعه بين العلم والعمل، وجهاده باللسان وبالسنان، وقد فاق أقرانه في شتى المجالات، فما من فن من الفنون إلا وله فيه الحظ الأوفر، فهو فارس الميدان في مجال الجهاد في سبيل الله، وفي مجال مناظرة أهل البدع، وفي مجال الفقه والحديث والتفسير واللغة وغير ذلك، فرحمه الله رحمة واسعة.
1 / 1
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقبل أن نبدأ الكلام على هذا الكتاب الجليل العظيم: (الصارم المسلول)، وهذا الكتاب من أنفع ما كتب في هذه المسألة، كتاب: (الصارم المسلول) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضًا هذا الاختصار الجيد للإمام البعلي فلا بد أن نمر على الشيخين ونتكلم عنهما بترجمة وجيزة.
فشيخ الإسلام ابن تيمية هو علم الأعلام، والإمام الهمام، وفارس الميدان، وإن صح التعبير فهو كما يقولون: فريد عصره، ووحيد دهره، وهو البحر الذي لا ساحل له، كما سئل عنه ابن القيم فقال: هذا البحر الذي لا ساحل له.
ولا بد أن نتكلم عن ابن تيمية في كل شيء، نتكلم عنه خلقًا ودينًا ونسكًا وعبادةً وعلمًا وشجاعةً وكرمًا وسخاءً وجهادًا في سبيل الله.
1 / 2
مولد شيخ الإسلام ونشأته
ولد شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (٦٦١هـ) ونشأ في أسرة عريقة امتلأت بالفقه والحكمة والعلم، وامتلأت بالكرم والسخاء والشجاعة، فلذلك نبتت لنا هذه النبتة، هي نبتة شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ولد في حران وجلس فيها حتى سن السابعة من عمره، ثم بعد ذلك لما هجم التتار عليهم فرقوهم أوزاعًا فرحلوا إلى الشام، وكان أبوه عبد الحليم من علماء الحنابلة، وكان من علماء الحديث، وكان مدرسًا لعلم الحديث في الشام، وهو الذي أجلسه مجلسه بعدما أصبح شابًا يافعًا حافظًا لعلم الحديث، فانتقل والده بسبب التتار إلى الشام.
وهذا الطفل الصغير كان كريمًا شجاعًا ناسكًا عابدًا لله جل في علاه.
فقد ظهرت نجابته أولًا في المناظرة بينه وبين أبيه عندما عاتبه على الرحيل من حران، فقال لوالده: لم تترك حران؟ فقال: التتار لا يتركون أخضر ولا يابسًا إلا أتوا عليه وأكلوه وأنهوا أمره وقتلوا من في البلدة، فناظره بكلمات واستدل بآيات يستدل بها كثيرًا في هذا الكتاب، فقال لأبيه: ألم يقل الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة:١٤]، فلا بد من الجهاد، والله ينصر المجاهدين في سبيله.
لكن قدر الله الرحلة إلى دمشق، فلما رحل إلى دمشق كانت فاتحة الخير عليه.
1 / 3
أخلاق شيخ الإسلام
قبل أن نتكلم على أهم ما في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية وهي حياته العلمية، نتكلم عن صفات اعتلى بها، وهي صفاته الخُلقية، هو شيخ الإسلام الخلوق الذي حباه الله، فقد كان ذا أخلاق سامقة يرتفع بها، فكان كريمًا سخيًا على ضيق يد، فلم يكن يعرف الفرق بين الدرهم والدينار كما وصفه كثير من المؤرخين، أي: لم يكن ينشغل بالدرهم والدينار، كما قال الذهبي: كان زاهدًا ورعًا كريمًا مع زهده ومع فقره وضيق حاله، ولقد أتى بكرم الأخلاق أولًا، كما قال النبي ﷺ: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فلا يمكن أن تحتووا الناس بأموالكم، لكن لا بد أن تحتووا الناس بأخلاقكم الكريمة، فكان كريمًا بأخلاقه مع الناس.
ولما طلع نجمه، وبزغت شمسه في الأوطان جميعًا، كانت الجوائز تنهال عليه، فإن جاءته جائزة من السلطان بمال فرقها عن بكرة أبيها على إخوته وأصدقائه وعلى إخوانه وطلبة العلم ومشايخه، فكان كريمًا سخيًا.
1 / 4
عبادة شيخ الإسلام وورعه وتقواه وصبره على الأذى
وقد كان عابدًا ناسكًا، وعبادة شيخ الإسلام ابن تيمية إذا محضت النظر فيها قلت: هذا الرجل قبر من قبور الصحابة انشق وخرج منه هذا الصحابي.
فقد كان عابدًا لله جل في علاه بالعبادة الظاهرة، والعبادة الباطنة، عبادة الجوارح: بالجهاد في سبيل الله باللسان وبالسنان، وكان عابدًا بالجوارح قوامًا لليل صوامًا للنهار، وعبادته في الباطن هي أجل العبادات التي قدمها ابن تيمية لنا نبراسًا نأتسي به.
ويدل على ذلك كلام ابن القيم حين قال: كان إذا ادلهم بنا الخطب واشتد بنا الكرب ذهبنا إلى ابن تيمية فنظرنا إلى وجهه فذهب عنا كل شيء.
سبحان الله! جعل الله رؤيته ذكرًا لله، وجعل الله في رؤيته الأمان لعباد الله جل في علاه، قال: إذا ادلهم بنا الخطب واشتد بنا الكرب، واشتد الخوف في قلوبنا ذهبنا إلى ابن تيمية، فنظرنا إلى وجهه فازددنا طمأنينة.
سبحان الله! وهذا من شدة ورع هذا الشيخ الكريم، ومن شدة عبادته وقربه من الله جل في علاه، ولك فيما قاله بيان جليٌ لشدة ورع وتقوى هذا الرجل وعبادته لله جل في علاه، فمن المعلوم أنه عندما يبزغ نجم عالم، أو طالب علم، أو رجل جعله الله نبراسًا لأناس يأتسون به، لا بد من الحسد والحقد أن يغلي في الأوساط، ولا بد من بتره وقتله وطمس هويته، فكان ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأعظم لشيخ الإسلام لـ ابن تيمية؛ لأن الحساد كثر ل شيخ الإسلام؛ لأنه كان وحيد عصره بحق كما قال ابن دقيق العيد كما سنبين.
فكانت الوشاية كثيرة على شيخ الإسلام ابن تيمية، فكانوا يسجنونه ويجلدونه ويعزرونه ويعذبونه، حتى مات مظلومًا في سجن القلعة، فشيخ الإسلام ابن تيمية لما سجنوه قال كلمات تحفر في الصدور بماء الذهب، وهي تدل على عبادة هذا الرجل وقربه من الله جل في علاه ويقينه في أن ربه جل في علاه هو الرب القادر الكريم المليك لهذا الكون كله، الذي يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فقال: ماذا يريد أعدائي بي لو سجنوني فسجني خلوة بربي، أي: المراقبة والإحسان والتفكر والتدبر وذكر القلب؛ لأن ذكر القلب هو الذي يرتقي بالعبد، قال ﷿: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ [الإسراء:٢٥].
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
فـ شيخ الإسلام اعتنى بذكر قلبه، فكان يقول: لو سجنوني فسجني خلوة بربي، ونعم الأنيس جل في علاه.
ثم قال: ولو قتلوني فقتلي شهادة.
فهو يعلم أنه في وظيفة عظيمة في هذه الدنيا، وهي العبادة لله جل في علاه، ونشر دين الله جل في علاه، وتعبيد العباد لرب العباد.
ثم يقول: ولو نفوني فنفيي سياحة.
أي: أنظر في هذا الكون الشاسع، وأنظر إلى ربوبية الله جل في علاه، وعظمة خلق الله جل في علاه.
وكان ابن تيمية يتقرب من الله جل في علاه بالذكر الخفي حتى في أبواب العلم، قال: كنت إذا استغلقت علي مسألة ذهبت إلى مسجد مهجور أخلو فيه بربي، كما قال ابن القيم: إنه كان مسجدًا مهجورًا وكان يمرغ نفسه بالتراب، فهو بذلك يبين أن بوابة الدخول إلى الله هو الذل لله، ورسول الله ﷺ كان يتذلل لربه ويخضع، فهو لما كان في غزوة بدر واشتد الأمر عليهم، وكاد المسلمون أن يفتنوا رفع يديه متذللًا خاضعًا متمسكنًا لربه جل في علاه حتى سقط الرداء وهو يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدت).
فـ ابن تيمية كان يفقه ذلك ويعلم أن بداية الطريق الصحيح هو الذل التام والخضوع التام لله جل في علاه، وكيف لا؟ وهو الذي بين لنا أن ركني العبادة هما: غاية الحب، مع غاية الذل، فكان يمرغ نفسه في التراب ذلًا وخضوعًا لله جل في علاه، ثم يدعو مبينًا أن النعمة بأسرها بيد الله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣] فقال: اللهم يا معلم إبراهيم، ولذلك كان دائمًا ما يقول: ليس مني شيء ليس بي شيء، الكل من الله جل في علاه، وكان يقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
وهذه الدعوة تدل على دقة نظر ابن تيمية وشدة تقربه من الله جل في علاه، فهو يخضع ثم ينسب النعمة لباريها، حتى ينال ما يريد من ربه جل في علاه.
1 / 5
جهاد شيخ الإسلام باللسان وبالسنان في سبيل الله
كان شجاعًا يجاهد في سبيل الله باللسان وبالسنان، ولك أن تعلم أن في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية انتشر مذهب الأشاعرة على أنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا النووي وغير النووي وقبل النووي وبعد النووي فكلهم كانوا في دمشق يعلمون أن المذهب الحق هو مذهب الأشاعرة، ويحسبون أنه مذهب أهل السنة والجماعة، ناهيك عن انتشار النصارى واليهود، وناهيك أيضًا عن وجود الرافضة والشيعة والصوفية، وغير هؤلاء.
فناضل شيخ الإسلام ابن تيمية وناظر كل مبتدع ضال في بدعته، فكان يناظرهم جميعًا، ومن شدة تحريه لسنة النبي ﷺ ونشر الدين الصحيح، والتأصيل العقدي السديد الصحيح كما كان عليه السلف الصالح، فإن رسائله كلها التي سجن من أجلها تبين لك كيف انبرى لهؤلاء الفرق المتعددة المبتدعة؛ ليبين لهم العقيدة السديدة عقيدة السلف.
ومن هذه الرسائل: الرسالة الحموية، والرسالة الواسطية، فكل هذه الرسائل التي صنفها ابن تيمية كانت ردًا على هؤلاء المبتدعة، وكان يبين فيها العقيدة الناصعة البيضاء عقيدة السلف الصالح.
فكان يناظر باللسان، وكان يجاهد في ساحة الوغى، فلم يكن عالمًا متقاعسًا بل كان يجاهد باللسان وبالسنان.
أما جهاده بالسنان: فهو لما وقف قازان على أبواب دمشق وكاد يدمر كل دمشق، قام شيخ الإسلام ووقف في وجهه معلنًا أنه عبد لله جل في علاه لا يخاف إلا من الله، فقال لصاحب القلعة أو لأمير البلدة الذي كان يتحصن في القلعة: لا تسلم القلعة، وإن لم تجد من السيوف والرماح، وحتى لو قاتلت بالأظافر وبالأحجار فلا تسلم القلعة، ثم ذهب إلى قازان وكان قد أسر من المسلمين وأسر أيضًا من الذميين، فكلمه كلامًا شديدًا بلهجة شديدة، لا سيما وأن قازان كان قد أعلن وأشهر إسلامه بين الناس، فاشتدت عليه الوطأة من شيخ الإسلام ابن تيمية حتى ارتجف ورعب قلب قازان، فسلم له الذميين قبل المسلمين ثم سلم له المسلمين ورحل عن الشام، فلما عاودته وساوسه مرة ثانية أن يأتي ويقتحم الشام واجتمعت التتار لهلاك المسلمين، ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية يستنفر الناس، ومنهم: قلاوون؛ لأنه كان أميرًا للمؤمنين في تلك العصور، وكان في مصر فذهب إليه وقال له: والله إن لم تكن حاكمًا للشام ومصر، واستنفروك في الدين فعليك النصر لزومًا ووجوبًا، من قول الله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال:٧٢] فاستنفر السلطان قلاوون الناس وحثهم على القتال وكانت المعركة في رمضان، وكان شيخ الإسلام يقول: كان رسول الله ﷺ يأمر أصحابه بالفطر في ساحة الوغى؛ ليتقوى المسلمون على أعدائهم، وكان يقول لكل أمير يستنهضه أو يستحثه على القتال: قاتلوا والنصر لكم، فقال له رجل: لمَ لم تقل: إن شاء الله، فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية بقلب ثابت راسخ مستيقن بربه جل في علاه: أقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
هذا يقين بالله جل في علاه، ولا تبعد إذا قلت: إنه قسم على الله، وكم من امرئ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، وقد كان النصر للمسلمين بسبب هذا الشيخ الذي كان شجاعًا في ساحة الوغى.
1 / 6
علم شيخ الإسلام وفقهه وسعة حفظه
ندخل في أهم ساحات شيخ الإسلام ابن تيمية ألا وهي ساحة العلم، حق لنا أن نقول: إن ابن تيمية عالم فريد وحيد لم يأت مثله بعده؛ لأنه كان بحرًا في العلوم وكان حبرًا لهذه الأمة، ما من علم نجم في الساحة إلا وتعلمه ابن تيمية، وما جلس أصحاب كل علم مع ابن تيمية إلا قالوا: ما أتقن ابن تيمية إلا هذا العلم، في الفلسفة في المنطق في اللغة حتى إنه عودي؛ لأنه أخذ مآخذ على سيبويه، وسيبويه فحل اللغة فـ ابن تيمية استدرك عليه، ولذلك كانوا يأتونه من كل حدب وصوب، يتعلمون منه اللغة، وكان يعلم العقائد المختلفة عقائد اليهودية والنصرانية، وألف في ذلك التصانيف النافعة التي ترد على هذه العقائد، فألف كتابًا رد فيه على النصارى واسمه: (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح)، وألف كتابًا في الرد على الإثني عشرية وعلى القدرية واسمه: (منهاج السنة).
وأيضًا ألف الرسائل الكثيرة التي ترد على الأشاعرة، والفتاوى كلها موجودة تبين لنا كيف رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه العقائد، فـ ابن تيمية كان بحرًا للعلوم ظهرت نجابته من صغره، فما قرأ شيئًا إلا حفظه، كما قيل عن الشافعي: إنه كان إذا فتح المصحف يضع يده على الصفحة التي لا يقرؤها حتى لا يحفظها فتختلط عليه بالصفحة التي يحفظها.
كذلك كان ابن تيمية إذا أخذ الورقة فقرأها يضعها، ويأت بها عن بكرة أبيها حفظًا، فسمع بنجابة ابن تيمية الطفل الصغير شيخ محدث حلبي، فذهب إلى دمشق وقال لبعض المعلمين: أين هذا الطفل الذي تسمونه ابن تيمية؟ فقال: عندما يمر مع الصبيان سأعرفك به، فجلس الرجل ساعة حتى مر ابن تيمية، فقال المعلم: أرأيت هذا الطفل الذي معه اللوح الكبير؟ هذا ابن تيمية، فذهب الحلبي إليه فقال: يا بني! تعال، فجاءه، فقال الحلبي: ما هذا؟ قال: هذا اللوح أكتب فيه قال: امسح ما فيه، فمسح ما فيه، فقال الحلبي: سأملي عليك بعض الأحاديث فهل تكتبها؟ قال: أكتبها، فأملى عليه متون أكثر من عشرة أحاديث وهو يكتب، فبعدما كتبها ابن تيمية قال: تردد علي هذه الأحاديث؟ فرددها عليه كأحسن ما يكون، فلما سمع هذه الأحاديث من هذا الطفل البارع النجيب وهو يسردها حفظًا بعدما كتبها في اللوح ونظر إليها مرة واحدة اندهش اندهاشًا عجيبًا، ثم قال: امسح يا بني ما كتبت، فمسح الأحاديث، فقال: أملي عليك الأسانيد وهذه أعظم من الأولى؛ لأن متون الأحاديث لها نور، ومن السهل جدًا أن تحفظ المتون، ولذلك أسهل كتاب على وجه الأرض يحفظ هو كتاب الله؛ لأن الله تعالى يسره لكل مدكر متذكر، فالقرآن سهل جدًا أن تحفظه، وكذلك الأحاديث؛ لأن لها نورًا يدخل في القلوب.
فهذا الحلبي انتقى بعض الأسانيد المشكلة وأملى عليه هذه الأسانيد وهو يكتب الأسانيد، فبعدما كتب الأسانيد شيخ الإسلام ابن تيمية، قال الحلبي: تقرؤها علي؟ فوضع اللوح وسرد عليه هذه الأسانيد حفظًا، فقال: اعتنوا بهذا الطفل.
وانظروا إلى الإنصاف، فهو رجل عالم محدث يمكن أن يغار ويقول في نفسه: هذا الرجل قد يأخذ مني الأضواء فلا بد أن يطمس وأن يشوه وتدفن نجابته، ولكن كان من الذين يعملون للدين، فالعمل للدين له رونق آخر، فقال الشيخ المحدث: اعتنوا بهذا الطفل فلم أر مثله، فسيكون له شأن عظيم.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية علم الأعلام والفارس الهمام، فشيخ الإسلام ابن تيمية حافظته القوية وسرعة الحفظ جعلت ابن كثير يقول: الدنيا ما فيها إلا ثلاثة لا رابع لهم، فقال: أولهم وأبرعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني: ابن دقيق العيد، مع أن ابن دقيق العيد يعتبر من طبقات شيوخه، ثم ثلث بـ السبكي.
والسبكي كان بارعًا حافظًا فقيهًا أصوليًا.
وقال ابن كثير أيضًا: ثلاثة من الناس ما رأيت مثلهم: ابن تيمية والمزي وابن دقيق العيد، وأحفظهم للمتون هو ابن تيمية، ولذلك قال ابن عبد الهادي: -الإحاطة لله فقط- حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وهذا الذي قاله الذهبي في ذيل طبقات الحنابلة، فقد قال: حديث قال فيه ابن تيمية: لا أعرفه فليس بحديث؛ لسعة اطلاع الرجل، فـ ابن دقيق العيد يبين لنا أن ابن تيمية كأن الكتب الستة والمسند أمام عينيه، يأخذ ما شاء وينتزع ما شاء من الأدلة.
وكان ينتزع الآيات ويستدل بها على المسائل كأبرع ما يكون، فهو يستحضر الدليل في وقته، بينما الواحد منا لو سئل يظل يفكر ويذكر ويقول: ذكروني بالآية، والثاني يقول: ما هو متن الحديث؟! أما شيخ الإسلام فقد كانت الأسئلة تنهال عليه ويستحضر الدليل وينتزعه من كتاب الله جل في علاه ومن سنة النبي ﷺ، مع استحضار أصل الدليل.
والمزي قليل من يعرفه، قال ابن كثير: وأفقههم في المتون ابن دقيق العيد يعني: كان أفقه ما يكون، فله كتاب إحكام الأحكام، أملاه ابن دقيق العيد إملاء، وإذا نظرت في كتاب ابن دقيق العيد رأيت الدرر.
إذًا: فـ ابن تيمية برع في ساحة العلم في كل شيء، ففي الحديث كان أوسع الناس حفظًا، كما قال الذهبي وغيره: الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية ليس بحديث، وكان ينتزع الحديث من المسند أو من الكتب الستة ويستحضره في أوانه.
وكان عالمًا بالرجال وبالأسانيد، فترى في الفتاوى كثيرًا ما يضعف ويصحح، لكن ما تخصص في علم الحديث استقلالًا، فهذا الرجل جمع الله له العلوم كلها، علم الحديث وعلم الفقه، أما إذا دخلت على علم الأصول فهو فارس الميدان يقعد ويؤصل، وقواعد ابن رجب ترى فيها دررًا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية واختيارات ابن تيمية.
أما في الفقه فساحته، فلا يستطيع أحد أن ينازع ابن تيمية في الفقه، فقد كان العلماء يقولون: صعب علينا الفقه وسهل على ابن تيمية، نعم والله فقد كان يأتي بالفقه من القلب، كان يأتي بالمسائل الفقهية ويقربها للناس بعدما يبين المذاهب، وكان كثير من أهل المذاهب يناظرونه فيعيد كل صاحب مذهب لمذهبه، ويقول: أنت ما أتقنت هذه المسألة في المذهب، بل وهو طفل صغير يذكر بعض أهل السير: أنه جلس في مجلس كان فيه قاض من الشافعية وكان يتكلم في مسألة الاستعانة بالمشركين، فقال: إن الشافعي يرى جواز الاستعانة بالمشركين، وبعد ما سكت قام له شيخ الإسلام وقال: تجاوزت كلام الشافعي دون أن تأتي بشروطه وقيوده، فانزعج، كيف تتكلم معي في مذهب أنا مؤصله وأنا أتعلم على مذهب الشافعي؟ فقال: إن الشافعي ما أطلق الاستعانة بالمشركين، لكن قيد قيودًا واشترط شروطًا منها: أن يكون في المسلمين حاجة لأمثال هؤلاء الكفار، واشترط أن تنطوي راية الكفر تحت راية المسلمين وتحت لواء المسلمين، فلما ذكر له القيود رجع إلى كلام ابن تيمية، فالفقه ساحته وهو الذي برع فيه، وانظر في الفتاوى.
1 / 7
المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام خلافًا للجمهور
وسنبين بفضل الله ختامًا لهذا المجلس المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام خلافًا للجمهور، وأكثر وأعظم هذه المسائل كان الحق مع ابن تيمية ولم يكن مع الجمهور.
ومن هذه المسائل: الطلاق ثلاثًا: فقد خالف شيخ الإسلام الجمهور فقال: الطلاق ثلاثًا لا يقع إلا واحدة.
ومن المسائل الطلاق في الحيض: أيضًا خالف شيخ الإسلام فيها، فقال: لا يقع ولا يحسب.
أيضًا من المسائل: في التورق، فـ شيخ الإسلام خالف جماهير أهل العلم وقال: بتحريم التورق.
وأيضًا: في المعاملات قال: الذهب بالذهب ربا إن كان فيه زيادة إلا إذا كانت أجرة الصنعة، يعني: لو أعطيت الذهب القديم وأخذت بدله الذهب الجديد فلك أن تعطي الفرق أجرة الصنعة، هذا كلام ابن تيمية، وانتصر له ابن القيم، وهذه المسألة الوحيدة التي لا نوافقه عليها بحال من الأحوال.
أيضًا وهذه مسألة من مسائل العقيدة: ألا وهي مسألة الزيارة وشد الرحال لزيارة قبر النبي ﷺ وغيره، وهذه المسألة من أصعب المسائل التي سجن من أجلها ابن تيمية ومات مظلومًا محبوسًا، ففي مسألة شد الرحال من أجل زيارة القبور دلس المتصوفة على ابن تيمية وقالوا: هو ينتقص من رسول الله ﷺ، ويقول: يحرم زيارة قبر النبي ﷺ، فألبوا عليه السلاطين حتى سجن ومات في السجن، بسبب هذه المسألة.
أيضًا: هناك مسألة أخرى أنكرت على ابن تيمية وهي: مسألة الأسماء والصفات فهو يقول: يجب أن تثبت في الصفة كما هي بدون تأويل ولا تشبيه.
وأيضًا: بعض أهل السنة أخذوا على ابن تيمية أنه صحح حديث جلوس النبي ﷺ إلى جنب العرش.
فهذه المسائل التي انفرد بها ابن تيمية عن الجمهور، وهذا يدلك على سعة علم الرجل في هذه المسائل.
ووفاءً لـ شيخ الإسلام نتفرغ لهذه المسائل لنبين الحق من الباطل فيها:
1 / 8
مسألة التورق
أولًا: مسألة التورق، هذه المسألة الحق فيها مع ابن تيمية خلافًا لجماهير أهل العلم من الشافعية والأحناف والمالكية وكثير من الحنابلة، فهم قالوا: يصح التورق، ومعنى التورق: أن يشتري المرء سلعة لا ينوي استعمالها وإنما أخذها لسيولة المال، فأخذها بألف نسيئة فباعها بخمسمائة نقدًا أو بمائة نقدًا أو بثلاثمائة نقدًا لغيره، أما إن باعها من نفس البائع فهذه العينة، لكن المسألة التي خالف فيها شيخ الإسلام هي: التورق، والتي فيها أنه باع السلعة لغير البائع، فجمهور الفقهاء أن هذه المسألة تصح، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٥]، وهذا يسمى بيعًا.
وأيضًا: قالوا: إن النبي ﷺ قال: (إنما البيع عن تراض) وهنا حدث التراضي في البيع والشراء.
واستدلوا أيضًا بحديث فقالوا: عندنا حديث فصل في النزاع وهو: قول النبي ﷺ عندما جاءه رجل بالتمر الجنيب، فقال النبي ﷺ: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بصاعين.
فتأوه النبي ﷺ وقال: أوه! عين الربا لا تفعل) ثم فتح له الباب وقال: (بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبًا).
فهم يقولون: هذا الحديث فصل في النزاع.
أقول: نحن مع ابن تيمية فنذكر كلامه: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفقه متنه.
ونقول لهم: ما وجه الدلالة من الحديث؟ قالوا: خرج من الربا، وهو ما كان المقصود منه الانتفاع بالتمر هذا ولا بالدراهم بحال من الأحوال، وهو إنما يريد التمر بالتمر فأدخل بينهما دراهم، وهذا ما يريد إلا الدراهم فأدخل بينهما ثلاجة أو سيارة، فهذا نص في محل النزاع كما قالوا.
وقالوا: عندنا أيضًا دليل من النظر وهو: أن الذي اشترى السلعة ما اشتراها إلا لينتفع بها، ووسائل الانتفاع كثيرة منها: الاستعمال.
ومنها: البيع والشراء.
ومنها: أخذ ثمنها، فقالوا: هذا اشتراها لينتفع بالثمن لا لينتفع بالاستعمال.
هذا من النظر.
إذًا: فعندهم أثر ونظر.
فجاء شيخ الإسلام فخالفهم وقال بعدم جواز التورق، ويقول ابن القيم: وروجع شيخنا في هذه المسألة كثيرًا حتى يرجع عن قوله وما رجع، يعني: ابن تيمية، فقد أقاموا عليه الدنيا وما أقعدوها من أجل هذه الفتوى وما رجع؛ لأنه كان يدين لله جل في علاه.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ثم ننظر إلى أدلة شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة؛ لنعرف دقة فهم ابن تيمية، قال: إن العبادات والمعاملات والعقود كلها تدور على النيات، واستدل على ذلك بقول النبي ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل يتورق، وينتوي الورق والمال والدراهم، وما ينتوي السلعة، فصورته صورة رجل جلس في مجلس فأعطى عشرة دراهم بخمسة دراهم.
انظر هنا الآن ابن تيمية يبين لنا (إنما الأعمال بالنيات)، قلنا: ما وجه الدلالة من هذا الحديث؟ قال: وجه الدلالة أن الرجل لا ينتوي السلعة ولا الانتفاع بالسلعة، بل ينتوي المال، فصورة التعامل وصورة الصرف: ذهب بذهب دون المساواة، فاختل شرط، كأنه باع عشرة دراهم بخمسة دراهم، أو أعطى الألف مقابل الخمسمائة، فاعتبرت الصورة أنه أعطى دراهم بدراهم دون المساواة، والنبي ﷺ يقول: (الذهب بالذهب ربا إلا مثلًا بمثل سواءً بسواء يدًا بيد) فقال: (يدًا بيد) فلا بد من التقابض في المجلس، وهنا حدث التقابض في المجلس لكن صورته أنه لم تتوافر المثلية، فهو أعطى الألف بالخمسمائة قال: والنبي ﷺ يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ثم إنه أوضح هذا الفهم وضوحًا جليًا بنقله عن ابن عباس ﵁ وأرضاه، لما صوروا له الصورة فقالوا: يشتري الرجل السلع بنقد بكذا، ويبيعها على غيره بنسيئة بكذا أقل، فهل يصح أن يشتري نسيئة ويبيع بنقد أقل؟ فقال له ابن عباس: والله ما هي إلا دراهم بدراهم بينهما حريرة.
يعني: التقابض في المجلس موجود لكن جعل بينها تحايلًا حريرة.
ثم قال ابن تيمية: وقد أبطل الله الحيل تأصيلًا عامًا في القواعد الشرعية، حيث قال النبي ﷺ: (قاتل الله اليهود؛ حرم الله عليهم شحوم الميتة فأذابوه فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) يقول: ابن تيمية: وهذا الحديث سيهدم لنا كل ما بناه الجمهور من قواعد.
يعني: هذا الحديث نص في النزاع بين ابن تيمية وبين الجمهور، فمسألة التورق خالف ابن تيمية جماهير أهل العلم فيها، وأتى بحديث فاصل في النزاع: وهو قول النبي ﷺ: (قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) ووجه الدلالة أن الله حرم عليهم أكل الشحوم، والأكل بالفم، فلو أكلوا الشحوم لوقعوا في الحرام، فهم أذابوه فباعوه، فيعتبر هذا أكلًا، فالنبي ﷺ سماه أكلًا، كما قال النبي ﷺ: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) وهذا نفس الأمر، فهو حرم عليهم أكل الشحوم فقالوا: ما أكلنا ولا استطعمناه ولا اشتممنا رائحته، لكن النبي ﷺ سماه أكلًا؛ لأنهم أكلوا ثمنه، فأبطل هذه الحيلة.
نعود إلى قول الجمهور لنطبق هذا الحديث عليهم، ونقول لهم: أنتم تقولون بحل التورق، وهذه هي الحيلة هنا وهي الصرف بزيادة وذلك حرام؛ لأن هذا ربا الفضل، قال النبي ﷺ: (الذهب بالذهب ربا إلا يدًا بيد مثلًا بمثل) فقال الجمهور: لو أخذنا الألف من زيد ورددناه عليه بألف وخمسمائة مثلًا فهذا يعتبر ربًا وسيقوم الناس علينا، لكن لو أدخلنا حريرًا وسمي بيعًا بدلًا من أن يسمى ربًا، نقول: ولو سموه بيعًا فهو ربًا، فهم احتالوا وقالوا: نشتري السلعة ما نريدها وإنما نريد الدراهم، فهو اشتراها بألف نسيئة فيعتبر كأنه دخل في الصرف دراهم بدراهم وليس ثمت مساواة.
وهذا الذي قاله ابن عباس، ووافقه عمر بن العزيز وقال: التورق أصل الربا؛ لأن فيه الحيلة على الله جل في علاه، وهذا الذي جعل إبراهيم بن أدهم يقول: ويحكم كيف تتعاملون مع الله؟ تتعاملون مع الله كأنه طفل صغير تتحايلون عليه، والعملة الزائفة لا تروج على الله جل في علاه.
إذًا: فالصحيح الراجح هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن هذه كما قالها البحر الحبر ابن عباس: هذه دراهم بدراهم بينهما حريرًا، فالراجح هو: حرمة التورق.
1 / 9
مسألة الطلاق في الحيض
نأتي إلى مسألة: الطلاق في الحيض، فشيخ الإسلام ابن تيمية خالف فيها الجمهور، وقال: الطلاق في الحيض لا يقع ولا يعتد به، فمن طلق امرأته حائضًا فإن هذه التطليقة لا تحسب وامرأته كما هي في ذمته، واستدل على ذلك بأدلة منها: أولًا: رواية ابن عمر وهذه في السنن: (لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض ذهب عمر للنبي ﷺ فأخبره بما صنع ابنه عبد الله، فقال ﷺ: مره فليراجعها، فقال ابن عمر: لم يرها شيئًا) أي: أن النبي ﷺ لم ير هذه التطليقة شيئًا، يعني: لا تحسب، قالوا: فهذا دليل أثري، ومن الدليل الأثري أيضًا: قول النبي ﷺ في الصحيحين: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: باطل، قالوا: القاعدة عند العلماء: مطلق النهي يقتضي الفساد أو البطلان، وقالوا: قد نهى النبي ﷺ عن الطلاق في الحيض والنهي واضح، فمن ارتكب هذا النهي وطلق طلاقًا منهيًا عنه، فلا يقع ولا يصح؛ لقول النبي ﷺ: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: فهو باطل مردود.
أما الجمهور فلهم الأدلة الأثرية والنظرية: أما الأدلة الأثرية: فالحديث الذي في الصحيحين عن ابن عمر ﵁ وأرضاه (لما طلق امرأته في الحيض وأخبر عمر النبي ﷺ بذلك فقال: مره فليراجعها)، قالوا: المراجعة لا تكون إلا بعد الطلاق.
قالوا: والدليل الثاني أيضًا: قول نافع عن ابن عمر في نفس الحديث المتفق عليه أنه قال: (أمر النبي ﷺ عمر أن يأمر ابن عمر أن يراجع امرأته وقال: فحسبها عليّ تطليقة)، قال ابن عمر: (فحسبها) وهذا نص في النزاع.
فحسبها يعني: رسول الله علي تطليقة.
الدليل الثالث: قاعدة الراوي أعلم بما روى: فـ ابن عمر جاءه رجل فقال: (أرأيت يا ابن عمر! إن كانت امرأتي حائضًا فطلقتها؟ قال: أرأيت إن ركبت الحموقة؟ هي طالق) فأفتى ابن عمر بطلاق المرأة في الحيض.
إذًا: فهذه الأدلة واضحة على: أن الطلاق في الحيض يقع.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية انبرى وخالف الجمهور وقال: الطلاق في الحيض لا يقع، وأصل هذه المسألة نابعة من المجد الذي هو جد ابن تيمية فقد كان يفتي بهذه الفتوى سرًا؛ لأنه يخشى أن تطير رقبته؛ لأن المذاهب الأربعة كانت على خلافه، فكان يخشى على نفسه إذا أفتى أن يقتلوه، فكان يفتي بها سرًا، فشيخ الإسلام ابن تيمية أعلنها جراءة وراجعوه فيها كثيرًا.
فقال: والله إن هذا الذي أدين الله به.
وأقول: الحق هنا ليس مع ابن تيمية وإنما الحق مع الجمهور؛ لأن الحديث متفق عليه عند البخاري ومسلم قال: (فحسبها علي تطليقة).
وأما الرد على ما استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية فهو من وجوه كثيرة منها: أولًا: قوله في الحديث (فلم يرها شيئًا) الصحيح أن هذه الرواية شاذة عند المحدثين، وإن صححها الشيخ أحمد شاكر لأنها خالفت ما في الصحيحين، فهذه اللفظة شاذة، والشاذ ضعيف، فلا حجة لهم فيها.
والوجه الثاني: أن قوله: (لم يرها شيئًا) تحتمل أمورًا كثيرة منها: أولًا: لم يرها من العدة شيئًا، يعني: العدة إما الأطهار وإما الحيض، والراجح الصحيح: أن العدة: الحيض؛ لأن النبي ﷺ بين ذلك وقال: (تترك الصلاة أيام أقرائها) يعني: أيام حيضها، فهي تترك الصلاة أيام الحيض، فهنا نرجح أن العدة هي أيام الحيض.
فمعنى قوله: لم ير شيئًا من العدة يعني: هذا الدم الذي نزل لا يحسب من أيام العدة ولا يحسب من الحيضات الثلاث المطلوبة حتى تمر عدتها.
الثاني: لم يرها من السنة شيئًا، وهذا صحيح فهي مخالفة للسنة؛ لأن النبي ﷺ أنكر على ابن عمر أنه طلق امرأته في الحيض فلم يرها من السنة شيئًا، وهذا راجح صحيح.
فإذًا: الرد على هذه اللفظة إن لم تكن شاذة أنه لم يرها من السنة ولم يرها من العدة شيئًا.
والقاعدة عند العلماء: ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدال -الاحتمال المعتبر لا الاحتمال المتوهم-.
أما الدليل الذي استدل به شيخ الإسلام على عدم وقوع الطلاق في زمن الحيض فهو: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا) نقول: قد طلق طلاقًا عليه أمرنا في زمن ليس عليه أمرنا، فطلاقه صحيح؛ لأنه طابق الشرع، وفي زمن لم يطابق فيه الشرع فأثم بذلك، فهذا الرد الأول.
الأمر الثاني: أن النبي ﷺ لم يجعل الزمن ركنًا ولا شرطًا لا في طلاق ولا في نكاح، ولذلك نحن نقول: المرأة الحائض يصح أن يعقد عليها، ويصح أن يدخل بها زوجها، لكن لا يجامعها في فرجها.
فنقول: هذا الجماع أو الحيض ليس شرطًا ولا ركنًا لا في العقد ولا في الطلاق فإذًا: لا تأثير له في الحكم على العقد.
فهذا الرد على الدليل الثاني وبهذا تسلم أدلة الجمهور ويصح أن نقول: إن الحق مع الجمهور في هذه المسألة، وأن الطلاق في الحيض يقع ويأثم المطلق في الحيض.
1 / 10
مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي ﵊
مسألة الزيارة: هذه المسألة خالف فيها ابن تيمية جمهور أهل العلم وقال: وإن كان في الحج فشد الرحل من مكة قاصدًا المدينة لزيارة قبر النبي ﷺ فهذه بدعة ضلالة.
ولذلك وشوا به، وهم حرفوها وقالوا عنه: إنه يقول: تحرم زيارة قبر النبي ﷺ، وهذا لا يصح، وإنما كان يقول: يحرم إنشاء سفر لقبر النبي ﷺ، واستدلاله في هذه المسألة بالأحاديث المتفق عليها في البخاري ومسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
وهناك حديث آخر نص في النزاع، وهو حجة لـ ابن تيمية، وهو: (أن بصرة الغفاري لقي أبا هريرة وهو عائد من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور صليت فيه، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت)، -والراوي أعلم بما روى- سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وجمهور الشافعية وهذه هي الطامة الكبرى وجمهور الحنابلة وجمهور الأحناف وجمهور المالكية يقولون: إنه يجوز للمرء أن ينشئ سفرًا ليزور قبر النبي ﷺ، ويستدلون بعمومات قول النبي ﷺ: (ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة) فقالوا: هذه عمومات لا مخصص لها.
فنقول: الصحيح الراجح هو: قول شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه لا يجوز إنشاء سفر جديد من أجل زيارة القبر، وهذا الحديث الذي تقدم بين أيدينا حديث النبي ﷺ في باب شد الرحال، وفعل أبي هريرة مخصصان لعموم قول النبي ﷺ: (فزوروها) فنحن نقول: يزور المرء القبر إذا كان في نفس المكان، لكن كونك تشد الرحل لزيارة القبر فهذا هو الذي يحرم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
1 / 11
شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - المقدمة
إن الناظر في اختلاف الصحابة والأئمة في بعض المسائل يجد أن مصدر هذا الخلاف هو اختلاف الناظر نفسه في آية من كتاب الله أو حديث من سنة النبي ﷺ، وقد كان السلف يردون كل الأقول التي تعارض حديث النبي ﷺ، بل كان يشنع بعضهم على بعض في أخذه لأقوال الصحابة دون قول رسول الله، حتى وصل الحال في هذا إلى السب والهجر ونحو ذلك، فمن حق رسول الله علينا: الدفاع عنه، والذود عن سنته، والحفاظ عليها بكل استطاعتنا وجهدنا.
2 / 1
مكانة النبي ﷺ عند الله تعالى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: نستهل اليوم بإذن الله شرح هذا الكتاب العظيم الجليل: الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية، ونشرح مختصر الكتاب لا أصله للعلامة الشيخ محمد بن مهدي بن محمد البعلي الحنبلي.
وقبل أن نبدأ فهناك مقدمتان لابد لنا أن نقدمها بين يدي هذا الكتاب، أولًا: هناك أمر عظيم يخص أعظم البشرية وأكرم رسول، وهو أن رسول الله ﷺ سيد الناس، وأعظمهم مكانة عند الله جل في علاه، وكفى فخرًا لهذه الأمة أن رسولها هو أعظم الرسل على الإطلاق.
ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، والنبي ﷺ أقسم الله بعمره، ولم يقسم بعمر ولا بحياة أحد على الإطلاق إلا بحياة النبي ﷺ لعظم حياة النبي ﷺ، ولعظم مكانة النبي ﷺ، قال الله تعالى: «لَعَمْرُكَ» يا محمد! ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر:٧٢]؛ إظهارًا لمكانة وعظم حياة النبي ﷺ، ولمكانة النبي ﷺ في الدنيا فقد أمره الله على الأنبياء بأسرهم، فإنه حينما أسري به صلى إمامًا بالرسل، وحين عرج به فرض عليه أفضل الفرائض ألا وهي: الصلاة، وقد أوحى إليه وحيًا فيه أعظم ما يكون وهو كتاب الله، ويوم القيامة يبين الله جل وعلا ويظهر كرامته ومكانته فيجعل الناس تستشفع به يوم القيامة.
إذًا: الناس سيذهبون إليه إظهارًا من الله جل في علاه لكرامة النبي ﷺ، ولا يمكن أن يبلغها أحد إلا رسول الله ﷺ، وذلك عندما يقول: أنا لها، أنا لها، ثم يأتي يسجد تحت العرش، فالله جل وعلا يوحي إليه بمحامد لم يكن يعلمها قبل ذلك، فيحمد الله بها ثم يقول له: (يا محمد! -بأبي هو وأمي- ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، إظهارًا لكرامة النبي ﷺ، ولا غرو ولا عجب، فما من نبي أرسله الله لقومه فمنحه فضلًا أو شرفًا أو فضيلة يتفضل بها على قومه إلا ومنحها رسول الله ﷺ.
فهذا موسى ﵇ أفضل ما فضل الله به موسى على البشر أجمعين أنه اصطفاه بكلامه وبرسالاته، كما قال آدم ﵇: (أنت موسى الذي خط الله لك التوراة بيده، واصطفاك بكلامه)، وقال الله تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ [الأعراف:١٤٤]، فهذه من أفضل الفضائل لموسى ﵇، وللنبي ﷺ حظ منها لمكانته عند الله جل في علاه، فإن الله كلم موسى بحجاب دون واسطة، وكلم محمدًا ﷺ بحجاب دون واسطة أيضًا؛ لأنه لما عرج به تكلم مع الله دون واسطة ودون وحي، وفرض الله عليه خمسين صلاة، ثم تكلم مع موسى فقال موسى: أمتك لا تستطيع أن تصبر على ذلك، فرجع يعاود الكلام مع الله ويكلمه الله جل في علاه.
ويوسف ﵇: من أفضل ما منح الجسد فكان من أجمل الناس، حتى إن النساء قطعن أيديهن عندما رأينه، والنبي ﷺ أوتي من الجمال مثل ما أوتي يوسف ﵇، فعندما رأى البراء النبي ﷺ قال: (نظرت إلى رسول الله -بأبي هو وأمي- ونظرت إلى القمر ليلة البدر، فلرسول الله ﷺ أجمل من القمر ليلة البدر).
ولما منح الله جل في علاه إبراهيم أبو الأنبياء الخلة، وهو أعظم الرسل على الإطلاق دون النبي ﷺ -هذا عند أهل التحقيق- أيضًا منح الله جل في علاه نبينا ﷺ الخلة، فقد قال النبي ﷺ: (لو كنت متخذًا من البشر خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، وأما الحديث الذي رواه ابن عباس ﵁ وأرضاه: (الخلة لإبراهيم والرؤيا لمحمد)، فلا يصح عن ابن عباس، بل الخلة لإبراهيم ولمحمد ﷺ.
أيضًا: منح عيسى ﵇ أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، وهذه حدثت لنبينا ﷺ كما حدثت مع عيسى ﵇.
وإظهارًا لشرف النبي وعظم مكانة النبي ﷺ عند الله جل في علاه، فإن رسول الله ﷺ أخذ خشبة وهزها -هذه لموسى وعيسى- فتحولت سيفًا معجزة من الله جل في علاه لنبينا ﷺ فأخذها، أما موسى فلم يأخذ العصا حين تحولت إلى حية، فتحولت الخشبة سيفًا في يد النبي ﷺ، وقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير فقال: أنا يا رسول الله ﷺ، فسكته النبي ﷺ ولم يعطه إياه، ثم هز السيف مرة ثانية، وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه، حتى قام أبو دجانة ﵁ وأرضاه، فأعطاه النبي ﷺ السيف)، وكان نظر النبي ﷺ دقيق جدًا، فهو يعلم أنه سيأخذه بحقه.
وأيضًا عيسى ﵇ كان يبرئ الأكمه والأبرص والأعمى، ورسول الله ﷺ في معركة سقطت عين صاحب من صحابة رسول الله ﷺ على خده، فأخذها النبي ﷺ فوضعها مكانها، فكان يرى بها أفضل من العين الأخرى، وأيضًا في قصة قتل سلام بن أبي الحقيق اليهودي لما كسرت ركبة عبد الله بن أنيس، أخذها النبي ﷺ ومسح عليها فبرئت، وهذه أيضًا لعيسى ﵇ وحباها الله لنبينا ﷺ، فكل خصال الخير كانت لرسول الله لعظم مكانته عند ربه جل في علاه.
فالأمة لها أن تفخر -ولا غرو لها- بأن رسول الله ﷺ هو سيد هذه البشرية، وأن رسول الله ﷺ هو رسول هذه الأمة، فله حق عظيم على هذه الأمة.
2 / 2
حق النبي ﷺ على أمته
حق النبي ﷺ على هذه الأمة عظيم، لكن بدون إفراط فيه أو تفريط، ومن هذه الحقوق: أولًا: الاعتقاد الجازم والإيمان الراسخ بأنه مرسل من ربه جل في علاه، قال الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة:٢٨٥]، فـ: (رسله) عموم يدخل فيها رسول الله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [النساء:١٣٦]، وقال: ﴿وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد:٢٨]، فهذا أمر من الله جل في علاه، أن تعتقد اعتقادًا جازمًا أن محمدًا ﷺ رسول من الرسل الذين أوحى الله إليهم وحيًا عظيمًا جاء به إلى البشرية.
ثانيًا: من حق النبي ﷺ على هذه الأمة بعد الإيمان برسالة محمد ﷺ، وأنه أوحي إليه من قبل ربه: أن رسالته عامة للثقلين، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧]، وأيضًا قال الله تعالى: ﴿كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ [سبأ:٢٨]، وقال الله تعالى على لسان النبي ﷺ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:١٥٨].
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (فضلت على الأنبياء بست -وذكر من هذه الست- وكان كل نبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)، بل لم يكتف بذلك، فلم يرسل النبي ﷺ إلى الناس فقط، بل أرسله إلى الجن أيضًا، فهو مرسل إلى الثقلين، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف:٢٩].
وفي الحديث عن ابن مسعود ﵁ وأرضاه أنه قال: (اختفى رسول الله ﷺ ذات ليلة عنهم، فبين له مكان نيران الجن وأخبره بأنه ذهب إلى الجن يتلو عليهم آيات الله جل في علاه)، فرسالته عامة، فهذا حق للنبي ﷺ، وهذا الرد القوي على اليهود والنصارى الذين يقولون: هو نبي، لكن للأميين، فأنت لابد أن تعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الرسول أرسل إلى الجن وإلى الإنس.
ثالثًا: من حق النبي ﷺ على هذه الأمة: تصديقه فيما أخبر ﷺ -بأبي هو وأمي- ولِم لا وهو الصادق المصدوق؟ فقد أخبر من قبل ربه جل في علاه، وجبريل لم يكذبه وهو لم يكذب، قال ابن مسعود: أوصاني الصادق المصدوق، فهو صادق في قوله، وهو مصدوق فيما يأتيه، قال الله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٤]، يعني: لا يتكلم من هوى نفسه، ولا من تلقاء نفسه، بل هو وحي من قبل الله جل في علاه.
فوجب عليك تصديق كل خبر أسند إلى النبي ﷺ إسنادًا صحيحًا، ومن تبعات ذلك أن تعمل به.
إن النبي ﷺ كان إذا تكلم بكلمة وفي مجلسه عبد الله بن عمرو بن العاص كتب كل شيء يتكلم به النبي ﷺ فلامه أهل قريش وأكابر المهاجرين فقالوا: كيف تكتب كل كلمة عن النبي ﷺ وهو بشر يصيب ويخطئ ويغضب ويضحك ويفرح ويحزن؟ فذهب إلى رسول الله ﷺ يخبره بهذا الخبر، فقال له النبي ﷺ: (اكتب، والله ما يخرج من هنا إلا الحق، أو قال: إلا الصدق)، ما يخرج منه إلا الوحي من الله جل في علاه، حتى ولو قلنا: بأن له الاجتهاد فإن الله لا يقر رسوله ﷺ على خطأ أخطأه، وليس ببعيد عنا قول الله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس:١ - ٢]، ولما اجتهد في دعوة أكابر قريش وترك ابن أم مكتوم، فأنزل الله كلامًا يعاتبه على ذلك، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس:١ - ٣]، فله أن يجتهد لكنه لا يقرر على خطأ، فلذلك قال له: (اكتب، والله ما يخرج من هنا إلا الصدق، أو ما يخرج إلا الحق).
ولذلك لما جاء هذا القميء البئيس وقال لرسول الله ﷺ: اعدل، فهذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي ﷺ: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!)، كيف لا تأمنوني وقد استأمنني الله جل في علاه على الوحي وأنا أبلغ عن ربي جل في علاه.
ولنعم ما فعل خزيمة بن ثابت عندما جاء أعرابي فباع للنبي ﷺ فرسًا، ثم أعطوه فيه ثمنًا أغلى من ذلك، فقال النبي ﷺ: (قد بعت لي؟ قال: لا ما بعت لك، عليّ بشاهدين -يعني: ائت بشهود يشهدون أنني قد بعت لك هذا الفرس- فقام خزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد أن رسول الله ﷺ قد اشترى منك)، فتعجب رسول الله ﷺ منه، فما كان هناك ثمة أحد يجلس بين رسول الله ﷺ وبين الأعرابي في البيع والشراء؟ فقال له: (يا خزيمة! كيف تشهد على شيء لم تره أو تشهده، فقال له: يا رسول الله! أصدقك في خبر السماء ألا أصدقك في خبر البيع والشراء، فقال له النبي ﷺ: شهادة خزيمة بشهادة رجلين)، وكانت منقبة عظيمة لـ خزيمة؛ لأنه أدرك أن رسول الله ﷺ لا ينطق عن الهوى بحال من الأحوال.
رابعًا: من حق النبي ﷺ على هذه الأمة: تعظيم النبي ﷺ في وقتنا هذا، وتعظيم سنته وحملتها، إذا رأيت رجلًا يحمل سنة النبي ﷺ رأيت نورًا في وجهه لقوله: (نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، فيحترم ويعظم ويوقر يحترمه ويعظمه ويوقره توقيرًا لرسول الله ﷺ.
فمن حق رسول الله على هذه الأمة: تعظيم النبي وتوقيره والأدب الجم معه ﷺ، قال الله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح:٩]، (تسبحوه) خاصة بالله جل في علاه، (تعزروه وتوقروه)، هذه تدل على نصرة النبي ﷺ، وتعظيمه ومحبته، وأن تجعل محبة النبي ﷺ فوق محبتك لنفسك ولغيرك.
2 / 3
صور من حب النبي ﷺ
قال النبي ﷺ كما في الصحيحين: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
وفي الصحيح أيضًا عن النبي ﷺ قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين، فقام عمر فقال: يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! قال: لا يا عمر -يعني: لم تستكمل الإيمان الواجب في قلبك حتى الآن- قال: الآن يا رسول الله! قال: الآن يا عمر -أي: استكملت الإيمان الواجب-).
فقال النبي ﷺ: (لا يؤمن)، وهذا نفي قاطع: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين) وصور المحبة وتقديم النبي ﷺ على النفس صور عظيمة جدًا، وقد ضرب أروع الأمثلة لذلك صحابة رسول الله ﷺ، وهم بهذا يبينون لنا التطبيق العملي لقول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [التوبة:١٢٠].
2 / 4
أبو بكر الصديق
فهذا أبو بكر ﵁ وأرضاه -إن صحت القصة، وفي السير يتسامح في الأسانيد- عندما دخل الغار أخر رسول الله؛ لأنه يعلم أن رسول الله ﷺ هو الشمس التي تنير الدنيا؛ فدخل الغار أولًا فسد كل فوهة أو فتحة في الغار فلم يجد شيئًا غير ثيابه فسد بها، ثم وجد فتحة واحدة لا تسدها ثيابه فسدها برجله، فجاءت حية فقرصته قرصة كاد يموت منها، ودموعه تنزل على خد رسول الله ﷺ، كل هذا حفاظًا على رسول الله ﷺ، يقدم نفس رسول الله ﷺ على نفسه.
وأروع من ذلك عندما رحل معه براحلته وهو يتقدم أمام رسول الله ثم يكون خلفه، ثم عن يمنيه ثم عن يساره ﷺ، فمن رآه قال: هذا رجل مجنون! كيف يتقدم ثم يتأخر، ثم يأتي يسارًا ثم يمينًا؟ لِم يفعل ذلك؟!! وكأنه لن يجد جوابًا لفعل أبي بكر إلا قولًا واحدًا هو: نفس رسول الله تقدم على نفسي، فبه الإسلام وأنا ليس بي شيء، فيقدم نفس رسول الله ﷺ على نفسه.
2 / 5
طلحة بن عبيد الله
وهذا طلحة ﵁ وأرضاه طلحة الخير، ففي غزوة أحد عندما تخلف الرماة عن أمر رسول الله ﷺ، وكاد المشركون أن يظفروا برسول الله، وأن يقتلوه قام النبي ﷺ وقال: (من يصد القوم عنا وهو رفيقي في الجنة)، فقام طلحة الخير، فقال: لا، فأجلسه رسول الله ﷺ، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فقاتل حتى قتل، وهو ينافح عن رسول الله، ويقدم نفس رسول الله على نفسه.
فهذه هي المحبة الصادقة، وهذا هو التعظيم والتوقير الصادق.
ثم بعد ذلك يقول النبي ﷺ: (من يصد القوم ويكون رفيقي في الجنة)، فيقوم طلحة والنبي ﷺ يقول له: (اجلس، ليس الآن) حتى مات الأنصار عن بكرة أبيهم، فقال النبي ﷺ: (ما أنصفنا إخواننا)، وفي رواية أخرى: (ثم قام طلحة ينافح عن رسول الله ﷺ ويحميه ﷺ ويحتضنه، ويقول: لا ترفع رأسك يا رسول الله لئلا يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم قاتل حتى كسر سيفه فألقاه، وأخذ ينافح عن رسول الله، ويدفع عن رسول الله السيوف التي تنهال عليه حتى شلت يده، فقال لـ أبي بكر وعمر عندما أتيا: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعل، لما قدم نفس رسول الله على نفسه.
2 / 6
سعد بن أبي وقاص
ولما قال النبي ﷺ: (من يحمي رسول الله؟! قام سعد مدججًا بسلاحه، وقال: أنا يا رسول الله! حتى أنزل الله جل في علاه: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:٦٧])، فهو حق عظيم لرسول الله ﷺ على هذه الأمة، فإن لم نجد جسد النبي ﷺ بيننًا فسنة النبي ﷺ تعظم وتوقر وتفدى بالأنفس، كما أن النبي ﷺ لو كان حيًا بين أظهرنا لوجب علينا أن نفديه بأنفسنا فكذلك سنته لها نفس المكانة، وحملة سنة النبي ﷺ لهم مكانة، فهم ورثة رسول الله ﷺ.
2 / 7
الأدب مع رسول الله
ومن أروع الأمثلة في الأدب تلك التي ضربها الصحابة أدبًا مع رسول الله، حتى تتأدب أنت مع رسول الله، وإذا قيل لك: قال رسول الله! فما عليك إلا أن تطأطئ رأسك متأدبًا مع سنة النبي ﷺ، ولا تعارض بعقلك بحال من الأحوال، بل تقول: سمعت وأطعت، وتتبنى قول الشافعي: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله ﷺ.
وقد ضرب لنا الصحابة أروع الأمثلة في الأدب مع رسول الله، فقبل غزوة الحديبية عندما ذهب النبي ﷺ، قبل أن يأتي عروة بن مسعود الثقفي، لما بعث النبي ﷺ عثمان ليحاور القوم أشيع بينهم أنه قد قتل، فقام النبي ﷺ تحت الشجرة فبايع على الموت، فأخذ يبايع على الموت والتف الصحابة حول رسول الله ﷺ، فقام معقل بن يسار -انظروا إلى الأدب- وأخذ غصن الشجرة فجعلها فوق النبي ﷺ ليستظل به رسول الله ﷺ، ولا يكل ولا يمل أدبًا مع رسول الله.
وهذا الذي فعله أبو بكر حتى يعلم الناس أن هذا هو رسول الله، وأن هذا هو صاحب رسول الله ﷺ، فكانوا يتأدبون مع رسول الله أعظم الأدب، فعندما كان في صلح الحديبية قام عروة ينظر في الناس، وينظر في رسول الله، فيجلس رسول الله ﷺ ويأخذ عروة بلحية النبي ﷺ فيلعب بها، وهو يريد أن يترفق ويتلطف مع رسول الله، لعله يستجيب لقوله، ويقول: يا محمد! أرأيت أحدًا قبلك عصف بقومه، أرأيت أحدًا قتل أباه، أو قتل أخاه، أو قتل ابنه مثلما تفعل أنت، أرأيت إن كانت الأخرى، والله إني ما أرى حولك إلا أوباشًا من الناس يفرون عنك عند اللقاء، فقام المغيرة -وكان ابن أخته- فأخذ غمد السيف، وضرب بها على يديه أدبًا مع رسول الله، وهو يقول له: انزع يدك عن لحية رسول الله ﷺ، وأبو بكر لما سمع عروة وهو يقول: (أوباشًا من الناس) يعني: أخلاطًا سيفرون عنك، قال الكلمة الفظيعة التي لم ترد على لسان أبي بكر بحال من الأحوال إلا في هذا المحل أدبًا وتعظيمًا لمكانة رسول الله ﷺ من الصحابة، قال: نحن نفر عن رسول الله! امصص بظر اللات! وأقر النبي ﷺ ذلك، قال تعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء:١٤٨]، وهذه مظلمة عظيمة جدًا لأصحاب رسول الله، قال: نحن نفر عن رسول الله! امصص بظر اللات! فـ عروة يقول من القائل بهذا القول؟! قالوا: أبو بكر، فقال: لولا يد لك عندي -يعني: نعمة وكرامة لك عندي- لأجبتك.
فالشاهد: قال عروة بعدما رجع إلى قريش، قال: أذعنوا لهذا الرجل، والله إني قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وما رأيت أحدًا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله -هنا الشاهد- ما تنخم نخامة فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها جسده ووجهه، ووالله ما توضأ إلا ورأيتهم يتقاتلون على وضوئه؛ تعظيما وأدبًا وتوقيرًا لرسول الله ﷺ وجنابه، ووالله ما رأيته يأمر بالأمر إلا وهم يبتدرون لا يتقاعسون.
يبتدرون لامتثال أمر رسول الله ﷺ توقيرًا وتعظيمًا وأدبًا لمكانة النبي ﷺ، وهذا عظم حق رسول الله ﷺ على هذه الأمة.
فكل واحد منا يسأل نفسه، من عظم رسول الله حق تعظيمه؟ هل تأدب مع رسول الله حق الأدب؟ هل وقر رسول الله حق توقيره؟ والتوقير كما قلت في زماننا يكون مع سنة النبي ﷺ.
فما نرى الآن إلا أوباشًا من الناس يقدمون قول الفقيه وقول الشيخ على قول رسول الله ﷺ، يربطون الناس بالأشياخ الأحياء ولا يربطونهم بالشريعة الغراء التي تحيا إلى أبد الدهر، حتى يأذن الله جل وعلا بخراب الدنيا.
هل وقرنا سنة النبي ﷺ؟ هل قدمنا قول النبي ﷺ على قول أي أحد؟ هل عملنا بما قاله ابن القيم وما أروع ما قاله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فإذا قلت لأي إنسان منهم: قال رسول الله! يقول لك قال الشيخ الفلاني كذا! وكأنه يعظم الشيخ ولا يعظم سنة النبي ﷺ، ويوقر الشيخ ولا يوقر شريعة النبي ﷺ، فما هذا التيه والتخبط الذي عشناه؟ ما هذا إلا سوء أدب مع سنة النبي ﷺ.
2 / 8
وجوب التحاكم إلى رسول الله في حياته وإلى سنته بعد وفاته
ومن حق النبي ﷺ على هذه الأمة: اتباع النبي ﷺ وتعظيم السنة والتمسك بها، والعمل بها، والتحاكم إلى رسول الله ﷺ، واعلم أنك كلما تنازعت في شيء فلا يحل لك هذا الشيء إلا رسول الله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:٥٩]، ولم يجعل طاعة أولي الأمر مستقلة بل تابعة لطاعة رسول الله وطاعة رب رسول الله ﷺ.
قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران:١٣٢]، وانظر ودقق النظر وتدبر في كتاب الله جل في علاه، قال: (لعلكم ترحمون) قال ابن عباس: (لعل) في القرآن قاطعة، يعني: لا بد أن تتحقق، فهي ليست للرجاء، بل هي متحققة، والله جل وعلا يبين لكم أن تحقق الرحمات يكون باتباع رسول الله، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» [آل عمران:١٣٢] يعني: إذا أطعتم الرسول ﷺ سترحمون.
وأيضًا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:٣٣]، يعني: ستبطلون أعمالكم إن لم تتبعوا رسول الله ﷺ، فأناط التسديد والتوفيق والرحمات بطاعة رسول الله ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:٣٣] يعني: بعدم اتباع النبي ﷺ، وبمخالفة رسول الله ﷺ.
وقال الله تعالى مبينًا أن طاعة الرسول هي طاعة الله ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:٨٠].
وأيضًا يقول الله جل في علاه مبينًا عظم مكانة اتباع النبي ﷺ من هذا الدين، وقد زعم قوم أنهم أحبوا الله فاختبرهم الله بآية المحنة، كما قال الحسن: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران:٣١].
فعلامة محبة الله جل في علاه: اتباع السنة، فإذا رأيت الرجل يذكرك بربك، ويزعم أنه يعمل لله، ولم يتبع النبي ﷺ، فاعلم أنه كاذب -ليس مطلقًا- في بعض أقواله، كيف والله جل في علاه قد أناط علامة المحبة باتباع رسول الله؟ (قل إن كنتم) شرطية قاطعة ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١]، وهذه بالمفهوم: إن لم تتبع رسول الله ﷺ فلست محبًا لله جل في علاه، وهذه الآية قاطعة للظهور، قاصمة لكل رجل يدعي محبة الله أو يدعي التدين وهو لا يتبع رسول الله، بل يعانده صلى الله ﷺ ويحادده ﷺ، وكثير من أهل التصوف الآن يزعمون محبة آل البيت، ويتغنون بمحبة رسول الله ﷺ، وهم يخالفون النبي ﷺ في أصل الأصول وهو أهم ما يكون في هذه الدنيا وفي هذه الشريعة ألا وهو صحة العقيدة في الله جل في علاه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١].
بل أناط الله جل في علاه الإيمان بالتحاكم لرسول الله ﷺ، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ﴾ [الأحزاب:٣٦]، فنفى الإيمان، فلا يمكن أن يكون مؤمنًا من لم يعمل بهذه الآية ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:٣٦]، فإذا قيل لك: قال رسول الله في المسألة فاضرب قول أي أحد عرض الحائط، وخذ بقول النبي ﷺ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:٣٦].
قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ»، وهذه الآية من أقوى ما يكون، وهي زاجر ورادع شديد لكل من لا يتحاكم إلى رسول الله ﷺ أو يتحاكم إلى كتاب الله جل في علاه: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥]، هذه الآية من أقوى الآيات في الحث على الاتباع والتحاكم لله ولرسوله، وفيها أمور ثلاثة: قال الله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ»، وهو قسم فيه مؤكدات ثلاثة «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» حتى: جعلها للغاية، فالتحكيم ليس فقط هو الذي يدل على الإيمان، بل لابد من أمور أخرى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥].
السؤال
لقد أقسم الله بربوبيته على نفي الإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرعه فهل لا يؤمن حتى يحكم الشرع لله أم لا يؤمن حتى تتوفر أمور أخرى؟
الجواب
هناك قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الحكم إذا أنيط بعلل أو بشروط لا يكون متحققًا إلا بتوفر الشروط، ولو غاب شرط واحد لا يتحقق الحكم، إذًا: قول الله تعالى: (لا يؤمنون) نفى الإيمان، «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» هذا أول شرط حتى يكون الإيمان متواجدًا في القلب: (يحكموك) فلا بد أن تتحاكم لله ولرسوله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠] يعني: إلى كتابه وإذا قال (إلى الله) يتضمن ذلك إلى الرسول لأنه مبلغ عن الله، وإذا قلنا: (إلى الله) يعني: إلى كتاب الله، وكتاب الله قد أمرنا باتباع النبي ﷺ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧].
قال: ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء:٦٥]، صغير أو كبير، دقيق أو جليل، وحتى في البيوت نحن نقول للمرأة مع زوجها: إن أردت الخير فاجعلي الشرع حاكمًا بينك وبين زوجك، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء:٥٩]، ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠].
فلنعم البيت الذي يقام على الشرع! ولنعم البيت الذي يتحاكم فيه الزوج مع الزوجة بشرع الله جل في علاه، ولنعم التربية إن كانت على سنة النبي ﷺ، وإن كان الخلل موجودًا، لكن رأس الأمر عند الرجل والمرأة والأولاد والأصدقاء والإخوان هو: أن مردنا إلى الله ورسوله فهو أهم شيء، أما الآن فالمرد إلى الأهواء أو الخبراء، والصحيح: أن المرد لابد أن يكون لله وللرسول.
قال تعالى: ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء:٦٥].
هذا الشرط الثاني.
قال: (ثم لا يجدوا في أنفسهم) فلو وجد امرؤ وهو يتحاكم لله ولرسوله الحرج، نقول له: الإيمان قد انتفى من صدرك.
فالشرط الثالث هو: التسليم العام، فلابد بعد أن تحركم بشرع الله ألا لا تجد في صدرك حرجًا، وأن تسلم تسليمًا كاملًا.
وما أروع هذا المثل وإن كان الحديث ضعيف لكن نستأنس به: فقد اختصم رجل يهودي مع منافق، فقال له اليهودي: تعال معي يفصل بيننا رسول الله، فذهبا إلى رسول الله، فحكم لليهودي؛ لأن الحق كان مع اليهودي، فلم يرضَ المنافق بحكم رسول الله ﷺ، وقال: لا أرضى! قال اليهودي: ما ترتضي بحكم رسول الله؟ قال المنافق: لا، إلا أن أذهب إلى أبي بكر، فذهبا إلى أبي بكر فحكم فوافق حكمه حكم النبي ﷺ، فحكم لليهودي فقال: والله لا أرضى، قال: ولا ترضى بـ أبي بكر؟ قال: ولا أرضى إلا أن نذهب إلى عمر بن الخطاب، فذهبا إلى عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه فقصا عليه القصة، فقال: عمر أو ترضى بحكمي؟ قال: أرضى بحكمك؟ فدخل فاستل سيفه ففصل عنقه من جسده قال: هذا حكم الله! قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء:٥٩]، وقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠]، ولو صح هذا الحديث لقلت: قد اجتهد عمر، وعلم أن من لم يرضَ بحكم رسول الله فهو كافر، لكن لابد أن تقام الحجة وترفع الشبهة، ويبدو أن عمر كان يرى أن هذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة، قال الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾ [النساء:٦٥].
2 / 9