بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقديم
الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الكرام المنتجبين.
وبعد:
لقد عرف الأدب العربي نوعا من النثر الأدبي وهو السجع وهو الكلام المقفّى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد، وقد تأثر كتّاب النثر المسجوع أولا بالقرآن الكريم، وخطب الجاهلية، كخطب أكثم بن صيفي حيث يقول: «أيها الناس: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت ...»، وهذا السجع له نغم عذب يحرك النفس ويثير الشوق إلى سماعه.
وكان أول ظهور هذا النوع الأدبي كفن قائم بذاته في القرن الثالث الهجري، في خطب الخلفاء وعمال الأقاليم، ثم تطور هذا الفن على أيدي كتاب محترفين كابن نباتة السعدي الذي توفي سنة ٣٧٤ هـ. كما تطور على أيدي كتّاب البلاط كإبراهيم بن هلال الصابي المتوفى سنة ٣٨٤ هـ، حتى أصبح النثر المسجوع أسلوبا مميزا وضروريا لدى الأدباء وكتاب الإنشاء. ومن رحم هذا الأسلوب ظهر فن جديد يدعى فن المقامات الذي يعود الفضل في ابتكاره وتأسيسه إلى بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة ٣٩٨ هـ.
والمقامة هي حكاية تقال في مقام معين وتشتمل على الكثير من درر اللغة وفرائد الأدب والحكم والأمثال والأشعار النادرة التي تدل على سعة اطلاع وغزارة مادة وطول باع وعلو مقام في عالم الأدب. وإذا كان بديع الزمان الهمذاني السباق والمبتكر والمبتدع لهذا الفن، فإن الأستاذ الرئيس أبي محمد القاسم بن علي الحريري هو الملك المتوج على رأس الكتاب الذين تخصصوا في المقامات، فهو بالمقارنة مع كل من كتب المقامات أغزر مادة وأكثر وأشد تعمقا في اللغة مما جعل لمقاماته منزلة خاصة جعلتها ربّما في منزلة تالية للقرآن الكريم والحديث الشريف، حتى إن أديبا عظيما كالزمخشري يقول: إن مقاماته حرية بأن تكتب بماء الذهب.
ويعزى السبب الذي من أجله وضع الحريري مقاماته، كما نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء ٤/ ٥٩٧، ٥٩٨: عن عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد، قال:
سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول:
أبو زيد السروجي، كان شيخا شحاذا بليغا، ومحدثا فصيحا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد بني حران، فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن صياغة كلامه وملاحته، ثم ذكر أسر الروم ولده كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون.
1 / 3
قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها فحكيت لهم ما شاهدته من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغيّر في كل مسجد زيّه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلوّنه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنوشروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها، فأتمها خمسين مقامة.
وقد اشتملت مقامات الحريري على فوائد جمة عدّدها هو بقوله في تقديمه:
وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة وفطنة خالدة وروية ناضبة وهموم ناصبة، خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله ورقيق لفظه وجزله، وغرر البيان ودرره وملح الأدب ونوادره إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائفالأدبية والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبّرة، والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري، وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه وتكثير سواد طالبيه، ولم أودعه من الأشعار الأجنبية إلا بيتين فذين أسست عليهما بنية المقامة الحلوانية، وآخرين توأمين ضمنتهما خواتم المقامة الكرجية، ما عدا ذلك فخاطري أبو عذره ومقتضب حلوه ومرّه.
شرح المقامات
لقد حظيت مقامات الحريري بكمّ كبير من الشروحات والتعليقات، أحصى منها صاحب كشف الظنون حاجي خليفة أكثر من خمسة وثلاثين شرحا، ويعود كثرة الشروحات إلى ما زخرت به المقامات من الألفاظ، والأمثال، والأحاجي والألغاز والنكت النحوية والبلاغية، مما جعلها ميدانا رحبا للشرح والتفسير والاستطراد.
ويعتبر هذا الشرح الذي بين أيدينا من أهم الشروحات وأغزرها، وقد وضعه العلامة أحمد ابن عبد المؤمن القيسي المعروف بالشريشي الذي يقول: لم أدع كتابا ألّف في شرح ألفاظها وإيضاح أغراضها إلا وعيته نظرا، وتحققته معتبرا ومختبرا وترددت في تفهمه وردا وصدرا، وعكفت على استيفائه بسيطا كان أو مختصرا، ولم أترك في كتاب منها فائدة إلا استخرجتها ولا نكتة إلا علقتها ولا غريبة إلا استلحقتها فاجتمع من ذلك حفظا وخطا أعلاق جمة، وفوائد لم تهتم بها قبله همة، ثم لم أقنع بتدوين الدواوين، ولا اقتصرت على توقيف التصانيف، حتى لقيت بها صدور الأمصار وعلماء الأعصار.
وقد قام الشارح بالتعريف بالبلدان والأمصار المذكورة في المقامات، ثم شرح غريب
1 / 4
الألفاظ والأمثال، ووضع تراجم وافية للمشهورين من الأدباء والأمراء والقادة والشعراء، وكان للشعر الأندلسي نصيب وافر حيث أورد مجموعة كبيرة منه.
أما عملنا في هذا الكتاب فقد اقتصر على تخريج جميع الآيات القرآنية وتخريج معظم الأحاديث النبوية استنادا إلى كتب الصحاح التي بين أيدينا، وكذلك خرجنا الشواهد الشعرية في مظانها. كما وضعنا عناوين فرعية وبوبنا الكتاب ووضعنا حواش تشرح بعض الألفاظ الغريبة استنادا إلى معاجم اللغة التي بين أيدينا.
ونرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى ولله الكمال وحده وهو ولي التوفيق.
إبراهيم شمس الدين
1 / 5
ترجمة المؤلف
هو الرئيس أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، نسبة إلى صناعة الحرير أو بيعه، ولد سنة ٤٤٦ هـ بالمشان، وهي قرية قريبة من البصرة، ثم رحل إلى البصرة وسكن في محلة بني حرام، وتأدب بها، وقرأ العربية على أبي الحسن بن فضال المجاشعي شيخ إمام الحرمين، والفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وعيّن صاحب الخبر بالبصرة، وظل بهذا المنصب حتى وفاته.
وكان الحريري من ذوي الجاه واليسار يملك بالمشان أكثر من ثمانية عشر ألف نخلة يغلها، وكان له منزل بالبصرة يقصده الأدباء والعلماء يقرءون عليه أو يفيدون من علمه، وخصوصا بعد أن ألف المقامات وذاع أمرها بين الناس، وكان مرهف الشعور صادق الحس والتخمين.
وكان الحريري ضئيل الجسم زريّ المنظر عصبي المزاج، ينتف شعرات لحيته إذا اشتغل بالتفكير والكتابة، ولكنه مع هذا كان موضع تقدير الناس وإكبارهم، ويحكى أن شخصا زاره، وأراد أن يتلقى عليه شيئا من العلم لذيوع شهرته، فلما رآه استزرى منظره، فأدرك الحريري ما دار في نفسه، ولما طلب هذا الشخص إلى الحريري أن يملي عليه شيئا من الأدب قال له: اكتب! وأملاه هذين البيتين: [البسيط].
ما أنت أول سار غرّه قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فاستمع بي ولا ترني
فخجل الرجل وانصرف عنه.
وللحريري ديوان رسائل، وله الرسالة السينية التزم في جميع كلماتها حرف السين، والرسالة الشينية التزم أيضا بجميع كلماتها حرف الشين. وله ديوان شعر.
ومن مؤلفات الحريري «درّة الغواص في أوهام الخواص» بين فيه أغلاط الكتاب فيما يستعملونه من الألفاظ بغير معناها وفي غير موضعها، وكذلك له «ملحة الأعراب في صناعة الإعراب»، وهي أرجوزة في النحو.
توفي الرئيس أبو محمد الحريري في البصرة سنة ٥١٥ هـ.
ترجمة الشارح
هو أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن بن موسى القيسي الشريشي، ولد بشريش سنة ٥٧٧ هـ. وتلقى بها على أبي الحسن بن لبّال، وأبي بكر بن الأزهر، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي الحسين بن جبير، ورحل إلى المشرق ثم عاد إلى شريش وتوفي بها سنة ٦١٩ هـ.
له كتب وشروحات كثيرة منها: مختصر لنوادر أبي علي القالي، وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي، وشرح جمل الزجاجي، ووضع رسالة في العروض؛ بالإضافة إلى الكتاب الذي بين أيدينا وهو أشهرها، وهو واحد من ثلاثة شروح: مختصر، ومتوسط، وهذا وهو المطول.
وكان الشريشي شاعرا مطبوعا شائق اللفظ رشيق المعنى، ومن شعره:
يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
قال الشيخ الأستاذ اللغوي النحويّ أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن بن عيسى بن موسى بن عبد المؤمن القيسي الشريشي، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته بمنه وكرمه آمين:
الحمد لله الذي اختصّ هذه الأمة بأفصح الألسنة وأفسح الأذهان، وشرّف علماءها بالافتنان في أفانين البلاغة والبيان، وميّزنا بين سائر الأمم بالنثر المتفق الفقر والنظم المعتدل الأوزان.
نحمده على أفئدة هداها، وألسنة أطال في شأو البلاغة مداها، ونصلّي على سيد المرسلين، وخيرة العالمين، الذي ختمت بنبوته العامة النبوة، ونسخت بشرعته التّامة الكتب المتلوة، محمد سيد هذا العالم والمخصوص بعلوّ المكانة، وعموم الديانة في ولد آدم، وعلى آله وصحبه الذين عزّروه ووقروه، وآووه إيواء الموفين بالعهود ونصروه، ونقلوا شرعه الكريم نقل التواتر وآثروه، وسلم تسليما، وآتاهم من لدنه رحمة وأجرا عظيما.
ورضي الله عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، مجدد معالم الديانة، والمليء بأداء الأمانة، والمشهور على تعاقب العصور بالزمان والمكان والمكانة، وعن خلفائه الراشدين المرشدين أئمة الهدى، والتالين له في شرف ذلك المدى، والقائمين بأعباء أمره الموعود أنه يبقي أبدا.
ونسأل الله تعالى لسيدنا الخليفة الإمام أمير المؤمنين ابن الخلفاء الأئمة الراشدين، سعدا يعلى أعلامه. ونصرا يصحب قلمه وحسامه، وتأييدا يظهر أمره وينصر اعتزامه، حتى ينتظم شذّان الأمصار في سلك ملكه، وتزدحم وفود الأمم على غمر برّه، وتنطوي ضمائر القلوب ومخبّآت الغيوب على إخلاص طاعته والانثناء لأمره.
أما بعد؛ فإن العلم أربح المكاسب، وأرجح المناصب، وأرفع المراتب، وأنصح المناقب، وحرفة أهل الهمم من الأمم، ونحلة أهل الشرف من السلف، لم يتقلد سلكه إلا جيد ماجد ولم يتوشح برده إلا عطف جادّ في طلب الكمال جاهد ولم يستحق اسمه إلا الواحد الفذ بعد الواحد، وهو وإن تشعّبت أفانينه، وتنوعت دواوينه؛ فعلم الأدب
1 / 7
علمه، والأسّ الذي يبنى عليه كلمه، والرّوح الذي يخبّ في ميدان الطّروس قلمه؛ ولذلك كان أولى ما تقترحه القرائح، وأعلى ما تجنح إليه الجوانح؛ فذوو الأخطار في سائر الأقطار يتنافسون في اقتنائه، ويتصافنون في عافي إنائه (١)، ويرتاحون لأوضاعه وتآليفه، ويستريحون إلى أعبائه المكدودة وتكاليفه، فإنه زمام المنظوم والمنثور، وقوام نطق الألسنة وفكر الصدور، ومنشط المقال من عقال الفهاهة، ومميز الأقدار بالمهابة والنباهة.
ولم يزل في كل عصر من حملته بدر طالع، وزهر غصن يانع، وعلم ترنو إليه أبصار وتومئ إليه أصابع، وصناعة البراعة بينهم تتمكن وتتأصل، وتنويع البديع ينضبط ويتحصل، والآخر يكدّ ذهنه في تتميم ما غادره الأول؛ إلى أن اعتدلت كفتاه، وامتلأت ضفتاه، وراق مجتلاه ومجتباه، وتناهى في الحسن والإحسان لفظه ومعناه.
وكان آخر البلغاء وخاتمة الأدباء، أولهم بالاستحقاق، وأولاهم بسمة السباق، والفذ الذي قد عقمت عن توأمة فتية العراق، وفارس ميدان البراعة، ومالك زمام القرطاس واليراعة، والملبي عند استدعاء درر الفقر بالسمع والطاعة، أبو محمد القاسم ابن علي الحريريّ- سقى الله ثراه صوب رحماه، وكافأ إحسانه في الثناء عليه بحسناه- فبسط لسان الإحسان، ومدّ أفنان الافتنان، ومهّد جادة الإجادة، وقوي مادة الإفادة، ولم يبق في البلاغة متعقّبا، ولا للرّيادة مترقبا، لا سيما في المقامات التي ابتدعها، والحكايات التي نوعها وفرعها، والملح التي وشحها بدرر الفقر ورصّعها؛ فإنه برز فيها سابقا، وبزّ البلغاء فائقا، وأتى بالمعنى الدقيق واللفظ الرقيق مطابقا، وخلّدها تاجا على هامة الأدب وتقصارا (٢) في جيد لغة العرب، وروضة تحوم أنفاس الهمم عليها، ولا تصل أيدي المطامع إليها.
ولما كانت من البراعة بهذا المحل الشهير، وسارت مسير النّيّرين بين مشاهير الجماهير؛ جعلت الاعتناء بها سهم فهمي، والعكوف عليها تحرز عزمي، والدّءوب في حفظ لغاتها وفك مخبّآتها أهم همّي، وصيّرت تحفّظها فرض عيني، والفكر الذي لا يحول وسني بينه وبيني، فبدأت بروايتها عن الشيوخ والثقات، وتقييد ألفاظها عن أعلام هذه الجهات؛ حتى لا أنقل لفظا إلا عن تحقيق، ولا أثبت ضبطا إلا من طريق.
فكان أول من أخذت عنه روايتها، وتلقيت منه درايتها، ببلدي، الشيخ الفقيه المقرئ أبو بكر بن أزهر الحجري، حدثني بها عن صهره الفقيه المحدّث الراوية أبي القاسم بن عبد ربه القيسي المعروف بابن جهور، عن منشئها أبي محمد الحريريّ.
_________
(١) الصّفن- بالضم: كالركوة يتوضأ فيها، وخريطة لطعام الراعي، وتصافنوا الماء: اقتسموه بالحصص (القاموس المحيط: صفن).
(٢) التقصار والتقصارة، بكسرهما: القلادة جمعه تقاصير.
1 / 8
وحدّثني بها أيضا ببلدي الشيخ الفقيه الراوية أبو بكر بن مالك الفهري عن ابن جهور المذكور، وعن الشيخ الفقيه أبي الحجاج الأبّدي القضاعيّ كلاهما عن أبي محمد الحريريّ. وحدثني بها أيضا إجازة الشيخ الفقيه المحدث أبو محمد عبد الله بن محمد ابن عبد الله الحجريّ عن القضاعيّ، وحدثني بها أيضا الكاتب الزاهد أبو الحسن بن جبير عن الشيخ الجليل بركات بن إبراهيم بن طاهر بن بركات القرشي المعروف بالخشوعي عن الحريريّ. وحدثني بها أيضا الشيخ الفقيه الأستاذ أبو ذرّ مصعب بن محمد بن مسعود الخشنيّ بسنده، بعد وقوفه ﵀ على هذا الشرح وأمره لي بتكليمه، وتلقيت بها جماعة من جلة الأشياخ أكثر في العدد ممن ذكرت؛ لا يعدمني واحد منهم إفادة ضبطية أو لفظية، ولا يفقدني زيادة هزلية أو وعظية فأخذتها أخذ متثبت، عن واع منكّت.
ثم لم أدع كتابا ألّف في شرح ألفاظها وإيضاح أغراضها، وتبيين الإنصاف بين انفصالها واعتراضها إلا وعيته نظرا، وتحققته معتبرا ومختبرا، وتردّدت في تفهمه وردا وصدرا، وعكفت على استيفائه بسيطا كان مختصرا؛ حتى أتيت على جميع ما انتهى إليه وسعي ممن فسرها، واستوعبت عامة فوائده الممكنة بأسرها؛ ولم أترك في كتاب منها فائدة إلا استخرجتها، ولا فريدة إلا استدرجتها ولا نكتة إلا علقتها، ولا غريبة إلا استلحقتها، ولا غادرت في موضع منها مستحسنا يشذّ عن جمعي، ولا مستجادا ينبو عنه بصري أو سمعي. فاجتمع من ذلك حفظا وخطا أعلاق جمة، وفوائد لم تهتم بها قبلي همّة، ثم لم أقنع بتبيين الدواوين، ولا اقتصرت على توقيف التصانيف؛ حتى ليقت بها صدور الأمصار، وعلماء هذه الأعصار، فباحثت وناقشت، وتأوّلت وتداولت، وطالبت المتحفّظ بالأداء، والمتيقظ بالإبداء؛ حتى لم أبق في قادحة زندا إلا اقتدحته، ولا مقفلا إلا افتتحته، فتحصّل لي من ذلك أيضا عيون صائبة النواظر، وفنون قلّما توجد في مخبآت الدفاتر.
وأنا في خلال ذلك ألتمس مزيدا، ولا أسأم بحثا وتقييدا، إلى أن عثرت على شرح الفنجديهيّ للمقامات- والفنجديهيّ هو الشيخ الحافظ أبو سعد محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعوديّ، من قرية فنج ديهة من عمل خراسان- فرأيت في شرحه الغاية المطلوبة، والبغية المرغوبة، والضالة التي كانت عنيّ إلى هذا الأوان مطوية محجوبة؛ فاستأنفت النّظر ثانيا، وشمرت عن ساعد الجدّ لا متكاسلا ولا وانيا، وعانيت نور المعنى في نور اللفظ فأصبحت مجتليا جانيا، فاستوعبته أيضا أبلغ استيعاب، وقيدت من فوائد ما لم أجد قبله في كتاب، وأخذت منه أحاديث مسندة أوردها، وآثارا مرفوعة قيّدها تليق بالباب الذي أوردت فيه، وتورد مصحّحة إما لألفاظه وإما لمعانيه، وحذفت أسانيد- وإن كان قد أوردها- تخفيفا عمن يريد المتن ويبتغيه فتم لي بهذا الغرض استيفاء مقاصده، واستيعاب فوائده. وتركته مستلب المعاني، مطروق المغاني، كالروض ركدت
1 / 9
ريحه، والجسم قبض روحه؛ فانضاف من فوائد هذا التأليف البديع- إلى الفوائد الملتقطة من الألسنة والمأخوذة من التصانيف المستحسنة- روض كله زهر، وسلك كله درر، وأدب إن لم يجمعه التصنيف فهو بعد عين أثر.
فاستخرت الله تعالى في ضمّ ما انتشر من فوائدها، ونظم ما انتثر من فرائدها، والاعتناء بتأليف في المقامات يغني عن كل شرح تقدم فيها، ولا يحوج إلى سواه في لفظ من ألفاظها ولا معنى من معانيها، فتم من ذلك مجموع جامع وموضوع بارع أودعته من اللغات أصحّها وأوضحها، وأسلسها قياد لفظ وأسمحها؛ وأولاها بالصواب في مظانّ الاختلاف وأرجحها؛ ونسبت المشكل منها إلى قائله من جهابذة العلماء، وجمعت بين مشهور اللغات ومشهور الأسماء، وسبكت العبارة عن المعاني سبكا يدل على الإلغاء والإصغاء. وهذا الفصل وإن سبقني إليه من تقدمني من الشارحين قبلي، فلي فيه مزية إيراد اللفظ البعيد عن الإشكال، والمطابقة بين الأقوال وأرباب الأقوال.
ثم زدت في فوائد هذا التأليف التعريف بالأمصار المذكورة في المقامات على أوفى ما يمكنني؛ من ذكر مواضعها وأقدارها واختطاطها، ومن عقد صلحها، أو تولى فتحها؛ وهذه فوائد لا يخفى مكانها، ولا ينكر استحسانها بالحاجة إلى التعريف بالمكان، تتلو الحاجة إلى غوامض اللسان.
ثم استوعبت شرح الأمثال ونسبتها، جمعا بين القائلين والأقوال، ولم أغفل منها الكثير الدّور ولا القليل الاستعمال، وهذا الفن لم يتبعه أحد على الكمال، وإن ذكره فإنما يذكره استطرادا بحسب الحال.
ثم استوفيت أيضا ذكر من وقع فيه من الرجال والنساء أتم استيفاء، وعرّفت المشتهرين من الأدباء والأبناء، وبنيت أنسابهم وأمكنتهم، وأخبارهم وحرفتهم، وآثارهم ومدتهم، وزيادة في التهمّم والاعتناء، وهذا الفن أيضا لم يورده الشارحون حقّ إيراده؛ ولا اعتمدوه بالتبليغ حقّ اعتماده، وهو مهمّ في الإفادة، على مغفلة في الوقت وبعده الإعادة.
ثم زدت فيه فصلين مفيدين لم أر من اعتنى بهما، . ولا من قصد قصدهما. سوى أبي سعيد الفنجديهيّ في بعض المواضع، فإنه ألمح وألمع، وأورد اليسير فما شفى ولا أقنع:
أحدهما تبيين مأخذ الحريري في الكلام، وإخراج الاحالات المودعة فيه من حيز الإبهام والرد إلى المنشأ في آية أو أثر أو خطبة أو خبر، أو حكمة فائقة، أو لفظة رائقة، أو بيت نادر، أو مثل سائر؛ وهذا تتميم بيّن، وتكميل متعيّن.
والفصل الثاني: التنبيه على صناعة البديع، وتوفية أسمائه؛ كالتجنيس والتتميم والترصيع، والإتيان بهذا النوع من التبيين والتنبيه على الجميع، وبسط أنواع الأدب
1 / 10
وافتنانه، والإكثار من الشعر في مظانه من الجد والهزل في المواضع اللائقة باستحسانه، ومقابلة كل باب بما يزيد في حسنه وبيانه، والجري مع أبي محمد حسب اتساع خطوه وامتداد ميدانه.
ومن تمام التصنيف ردّ الفرع إلى أصله، والجمع في الترتيب بين الشكل وشكله، فأتبعت المواعظ بما يزيدها أثرا في القلوب، وأردفت المسليات بما يعينها في إجلاء الكروب، وسلكت هذه المسالك في سائر الأساليب وأنواع الضروب؛ فإن وجد هذا الكتاب لفظ ظاهر الهزل أو معنى ينسب فيه إلى العذل؛ من وصف نور وثمر وذكر نديم وخمر أو نعت حسن وحسن أو مدح سماع وأذن، فلأن أبا محمد بدأ بأمر فتمم، وخص نوعا فعمم مع أن صنعة الأدب مبنية على الملح، وخواطر الأدباء جائشة بما سنح، فجاء من هذا الترتيب الغريب، ما يضرب في الإجادة بسهم مصيب، ويثبت لي في الجدّ والدءوب أوفر نصيب.
ثم رأيت الشارحين لها من أولى البصر كالفنجديهيّ وابن ظفر قد جردوا من شروحهم مختصرات وجيزة.، اقتصروا فيها على إيراد اللغات، فحذوت حذوهم في مختصر أوردتها فيه على الكمال، ووفّيتها حقها من رفع الغلط وكشف الإشكال، ولم أخلّ في تصريفها واشتقاقها بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال فجاء غاية في هذا الباب، مغنيا في اللغات الغريبة عن كل كتاب؛ فإن فاته هذا الأصل بضروب من الإفادات وأنواع من الزيادات، فلذلك الفرع شفوف الاستيعاب في اللغات، ومزية الاشتقاق والتصريف والشاهد من الشعر والآيات.
وكل ذلك بلطف الله تعالى، وبسعد من شرّفت كتابي بخدمته، وبنيت تأليفي على أداء شكر نعمته، ونصبت نفسي لأقف ببابه الأعلى، وأتزين بلثم تربته فأنا العبد وهو المولى؛ عماد الأنام، والظل الممدود على المسلمين والإسلام، ونعمة الله التي هي من أفضل النعم الجسام؛ منفق سوق المعارف، ومفجر بحور المنن والعوارف، والمجير بفضله وعدله من المفاقر الفادحة والمخاوف، سيدنا الخليفة الإمام أمير المؤمنين أبو عبد الله ابن إمام الأئمة الراشدين وولي عهده سيدنا الأمير الأجل أبو يعقوب، أيد الله سلطانهم، وأيد بيضتهم وحزبهم، وجمع القلوب على الانقياد لهم، والوجوه على التوجه قبلهم.
وهذا الكتاب وإن كان المعبر عن حسنه، والغاية الملتمسة في فنّه، والجامع لما افترق في سواه، والمبرّز بما وشحه من الزيادات وحلاه، فإنه لم يتم جماله ولا استوفى احتواءه على الفوائد واشتماله، إلا ببركة مولانا الخليفة، واقترن اسمه الكريم باسم ولي عهده المستحق للتقديم في الصحيفة فالحمد لله على التوفيق لخدمتهم، والمعونة على شكر نعمتهم، والتعرض لخيري الدنيا والآخرة في ظل حرمتهم.
وقد بذلت في الخدمة جهدي، وأبرزت من فوائد هذا التّأليف أنفس ما عندي، ولم
1 / 11
أتعاط قياما بكل الواجب، ولا وفاء بجميع الحقّ الراتب؛ فالقول يقتصر عن التحصيل، وليس إلى مطاولة الطود ومكاثرة اليمّ من سبيل.
وقد كنت حين أتممت هذا التأليف، وألقيت عن كاهلي الأعباء التي له والتكليف، وجلوته كالحسناء ألقت في المنصّة النّصيف، كثرت خطابه إليّ من البلدان، وتواردت عليه رغبات الاستحسان، فقلت: حتى يتشرف بلثم اليمين العليا، ويتخصص بقبول إمام الدين والدنيا، فمن بابه الأسمى يلتقط دره المنظوم، وببركاته يسطع مسكه العبق المختوم.
وها أنا أشرع ببركة الله وبركة خليفته المبارك الأهدى، وبنجله المتقلّد منه صفة وعهدا، في الشرح الخطبة كلمة كلمة، وإيضاحها حتى لا أدع لفظة مبهمة، ثم أشرح المقامات على الولاء، وأسلك الجمع بين الإيجاز والاستيفاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وسلم أفضل التسليم.
1 / 12
بسم الله الرحمن الرحيم
الصّدر
اللهم إنا نحمدك على ما علّمت من البيان، وألهمت من التّبيان، كما نحمدك على ما أسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء.
***
اللهم إنا نحمدك؛ اللهم اسم خصصته الميم المشددة في آخره بنداء البارئ سبحانه، والتزم معها حذف حرف النداء لوقوع الميم خلفا عنه، ولمحلّ اللام في أوله، أنه لا يلي حرف النداء لام التعريف إلا في قولهم: «يا الله»؛ لتكون اللام الزائدة نائبة عن حرف أصليّ، وهي همزة «إله»، فصارت كالأصليّ، وفي غير هذا الاسم تتجرد اللام للزيادة في أول الامس. و«يا» «زائدة» في أوله كذلك، وهما جميعا لتخصيص الاسم وإزالة شياع التنكير عنه، فلمّا تقاربا في المعنى، وتشابها في الزيادة، وطلب كل واحد منهما أن يلي الاسم دون صاحبه، ترك استعمال الجمع بينهما في أول الاسم إلا في ضرورة الشاعر لإقامة الوزن، وأما اللام في قولهم: «يا الله» فلما كانت نائبة عن حرف أصلي خفيت زيادتها، فلما زادوا الميم في آخره فضحت اللام وشهرت معنى الزيادة، فامتنعت «يا» من أوله إلا عند الضرورة كامتناعها في الرجل والغلام؛ فلما كانت الميم هي الموجبة لمنع «يا» حمّل الاسم معها معنى «يا» فصار مختصا بالنداء ممتنعا من غيره.
ونحمدك، معناه نثني عليك بأتم وجوه الثناء كلها، فيدخل تحته الشكر، والشكر ثناء يقابل به معروف، وفي الحديث: «الحمد رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره» (١) والحمد ذكر الرجل بما فيه من صفات جليلة، والشكر ذكره بما له من أفعال جزيلة، من قولهم: دابة شكور، إذا ظهر بها منالسمن فوق ما تأكل من العلف ويقال:
أشكر من بروقة، وهي شجرة معروفة تخصب بأدنى مطر؛ ويؤكد الفرق بينهما أن الحمد في مقابلة الذم والشكر في مقابلة الكفر فاختلاف نقيضيهما دليل على اختلافهما في أنفسهما.
البيان: وضوح المعنى وظهوره، والتبيان: تفهم المعنى وتبينه، والبيان منك
_________
(١) أخرجه الطبراني في الجامع الصغير ١/ ٢٦٠.
1 / 13
لغيرك، والتبيان منك لنفسك، مثل التبيين تقول: بينت الشيء لغيري بيانا وتبينته أنا تبيانا؛ وقد وقع التبيان بمعنى البيان؛ حكى أبو منصور الأزهري ﵀: بينت الشيء تبيينا وتبيانا، قال تعالى تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] أي يبين لك فيه كل ما تحتاج إليه أنت وأمتك من أمر الدين، فهو لفظ عام أريد به الخاصّ، وقد يقع البيان لكثرة الكلام ويعد ذلك من النفاق؛ قال النبي ﷺ: «الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» (١) أخرجه الترمذي وقال: «العيّ قلة الكلام والبذاء الفحش، والبيان كثرة الكلام».
ألهمت: نبهت عليه وفهمته. وأسبغت: أتممت وكثرت. وأسبغت: أطلت.
والغطاء: أراد به ستر الله على عبده.
***
ونعوذ بك من شرّة اللّسن، وفضول الهذر، كما نعوذ بك من معرّة اللّكن، وفضوح الحصر، ونستكفي بك الافتتان بإطراء المادح، وإغضاء المسامح، كما نستكفي بك الانتصاب لإزراء القادح، وهتك الفاضح.
***
نعوذ، أي نستجير، شرّة: حدة واللسن: حدة اللسان وإدلاله على الكلام فضول:
زوائد. الهذر: إكثار الكلام بغير فائدة. معرّة: شدة وصعوبة، والمعرة: العيب والعار.
وقيل: هي كل ما يؤذيك، وفلان يعرّ قومه، أي يدخل عليهم مكروها يلطّخهم به؛ وأصله من العرة وهي الفعلة القبيحة، أو من العرّ وهو الجرب. واللكن: احتباس اللسان عند الكلام فضوح شهرة وفضيحة. الحصر العي، وحصر حصرا إذا أعيا واستحيا أو أضاق صدره. واستعاذ من شرة اللسن لأنه من اقتدر على الكلام أداه إلى المطاولة في الجدل وتصوير الباطل في صورة الحق، وفيه إثم على الكلام وأصل الشرّة القلق والانتشار، ومنه الشرّ؛ وقد شرّ يشرّ، ومنه شرر النار. ثم استعاذ من ضدها وهي المعرة لأن صاحبها لا يتم لفظه فيشين بذلك نفسه، ويقصر عن مراده من البيان، ثم قرن بها الحصر لأن من يعتريه يتوالى عليه الوهل والخجل؛ فلا يستطيع الكلام، فيفتضح ويشتهر عيبه.
وهذا الفنّ من الكلام يسمى في صنعة البديع المقابلة، وأول من صدر به كتابا عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب البيان فقال اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العجب بما
_________
(١) أخرجه الترمذي في البر باب ٨٠، وأحمد فى المسند ٥/ ٢٦٩.
1 / 14
نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر (١)، كما نعوذ بك من العيّ والحصر؛ وقديما تعوذوا بالله من شرهما، ورغبوا إليه في السلامة منهما؛ وقد قال النّمر بن تولب: [الوافر]
أعذني ربّ من حصر وعيّ ... ومن نفس أعالجها علاجا
وقال محمد بن علقمة: [الوافر]
لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلّم وقليل عاب
صموتا في المحافل غير عي ... جديرا حين ينطق بالصواب
ثم استرسل في ذكر العيّ والبيان إلى غاية بعيدة، واستشهد على النوعين بآيتين؛ بقوله تعالى؛ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الأحزاب: ١٩]، وفي الضدبقوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: ١٨]، فاحتذى الحريري هذا الحذو، فجاءت تشبيهاته أطبع وأصنع، وزاد عليه بأن ابتدأ بحمد الله على نعمة البيان، ثم استعاذ مما استعاذ منه الجاحظ، وبيان المقابلة في كلامه أنه قابل شرّة بمعرّة واللسن باللكن، والهذر بالحصر؛ فإذا تفهمت مواقعها في كلامه قست عليها ما يشبهها في النظم والنثر وسئل قدامة الكاتب عن المقابلة، فقال: هي أن يضع الشاعر ألفاظا يعتمد التوافق بين بعضها وبعض في المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف، وأنشد في ذلك: [الطويل]
فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح ... وفيّ مطويّ على الغشّ غادر
فجعل بإزاء «ناصح»، «وفيّ»، «غاشّا: غادرا». ومثله: [الطويل]
فتى ثمّ فيه ما يسرّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا
نستكفي: معناه نسألك ونطلب منك أن تكفينا الافتتان؛ وذلك أن تصاب بفتنة الإعجاب، وأصل الفتنة اختبار الفضة بالنار، قال تعالى في الاختبار: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه: ٤٠] أي اختبرناك، والفتين: الفضة المحرقة، والفتين أيضا: الحجارة المحرقة، وهي الحجارة تدلك بها الأقدام في الحمام، والإطراء: الاسترسال في مدح الإنسان بمحضره، وفي الحديث عن النبي ﷺ قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فأنا عبد الله ورسوله».
إغضاء: تجاوز ومسامحة، وأصله أن يبدو لك الشيء فتدني جفنيك وتقصر نظرك كأنك لم تره، والاغضاء: الإغماض وأغضيت عنه وأغمضت، إذا تغافلت عنه.
المسامح: الموافق لغرضك، والمتجاوز عن عيبك، الانتصاب: الظهور والاعتراض أمام
_________
(١) الهذر: كثرة الكلام في خطأ، والسلاطة حدة اللسان والصخب (القاموس المحيط: «سلط»، و
1 / 15
الشيء، إزراء: تقصير: وتنقيص، القادح: العائب، وقدحت الدود في الأسنان والشجر:
أكلتها فكأنّ فعل هذا العائب في أعراض الناس فعل الدود في الشجر. والقادح أيضا:
الذي يضرب الزند بالحجر ليورى، وهتك: شق، وهتك الستر: خرقته. الفاضح الذي يشهر عيوبك، وفضحت الشيء: كشفته.
***
ونستغفرك من سوق الشّهوات إلى سوق الشّبهات؛ كما نستغفرك من نقل الخطوات إلى خطط الخطيئات. ونستوهب منك توفيقا قائدا إلى الرّشد، وقلبا متقلبا مع الحقّ، ولسانا متحليا بالصّدق، ونطقا مؤيّدا بالحجة، وإصابة ذائدة عن الزّيغ، وعزيمة قاهرة هوى النّفس، وبصيرة ندرك بها عرفان القدر
***
نستغفرك: نسألك المغفرة، وهي من غفرت الشيء سترته. الشبهات: جمع شبهة وهي ما يشتبه عليك أمره، والخطوات: جمع خطوة؛ وهي ما بين القدمين، الخطط:
جمع خطة وهي الطريق يخطه الرجل في الأرض يجعله حدا للشيء يحوزه ويعتمده، والخطة بالضم: المنزلة والمزية. والخطيئات: الذنوب وهي من الخطأ، وجعل ما ساقه في المقامات كأنه شهوة اشتهى عملها، ثم اشتبه عليه: هل في ذلك رضا الله أم سخطه! فكأنه ساق شهوة إلى سوق يجهل التّبايع فيها خاسر الصفقة، فلهذا استغفر الله منها:
الهداية رشده الله رشدا وأرشده: هداه. ورشد هو رشدا ورشادا: اهتدى. متحليا: متصفا ومتزينا، مؤيدا: معانا. وأصاب في كلامه إصابة: إذا نطق بالصواب، ورمى فأصاب لم يخطئ؛ وقوله تعالى رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص: ٣٦]، أي حيث أراد، قال الفراء:
اختلفت أنا وعيسى النحوي في الآية فقلت: ما أحد أعلم بهذا من رؤبة، قال: فسرنا إليه فلقيناه يتوكأ على اثنين، فقال: أين تصيبان؟ أي أين تريدان؟ فقلت لصاحبي: كفيت السّؤال ذائدة: دافعة، الزيغ: الميل، وزاغ عن الحق: مال عنه إلى الباطل. العزيمة:
الجدّ، وعزم على الشيء: جدّ فيه. قاهرة: غالبة. وهوى النفس: ما تحبّه وتميل إليه بصيرة: يقينا والبصيرة للقلب، والبصر للعين. عرفان القدر أي معرفة أقدارنا.
***
وإن تسعدنا بالهداية إلى الدّراية، وتعضدنا بالإعانة على الإبانة، وتعصمنا من الغواية في الرّواية، وتصرفنا عن السّفاهة في الفكاهة؛ حتّى نأمن حصائد الألسنة، ونكفى غوائل الزّخرفة؛ فلا نرد مورد مأثمة، ولا نقف موقف مندمة، ولا نرهق بتبعة ولا معتبة، ولا نلجأ إلى معذرة عن بادرة.
1 / 16
الدّراية: مصدر دريت الشيء دراية ودريا، علمته. تعضدنا تقوّينا، وعضّده: أعانه وكان له عضدا، الإبانة: مصدر أبنت الشيء أي بينته تعصمنا من الغواية، أي تمنعنا من الضلالة والفساد، والغواية: مصدر غوى غيّا وغواية وغوى أيضا غواية، وهما ضد رشد رشدا. الرواية: نقل الحديث من صاحبه إلى طالبه، تصرفنا: تزيلنا. السفاهة: الجهل، والفكاهة: المزاح وما تستريح به النفوس وهي في الكلام كالفاكهة في الطعام. حصائد الألسنة: شر كلامها وقطعها في أعراض الناس وأراد ما جاء في حديث معاذ بن جبل ﵁ قال: قلت يا رسول الله، إنا لنؤاخذ بما نتكلم؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ! هل يكبّ الناس في النار على رءوسهم إلا حصائد ألسنتهم!» فدعا الله أن يتم سعده بأن يؤمنه عادية الألسنة. والحصائد في الأصل: جمع حصيدة وهي الحزمة من الزرع المحصود فهي فعيلة بمعنى مفعولة والحصيد: الشيء المحصود.
نكفي: نمنع غوائل: قواتل ومهلكات، واحدها غائلة؛ وغالته المنية أهلكته، الزخرفة: تزيين الباطل، وأصلها تزيين الشيء بالزخرف وهو الذهب. نرد: نقصد، مورد مأثمة: موضع إثم، والمورد أصله الموضع يشرب منه الماء مندمة: ندم. نرهق: نتّهم ونعاب: والزهق العيب، وتبعة: خطيئة يتبعه ضرها بعد الموت. معتبة؛ سخط، وهي من العتاب، وهو تقبيح القول على جهة الاشفاق، وأصله من عتبت الأديم، أي رددته إلى الدباغ ليصلح، ومنه: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، ويقال عتب عليّ في كذا عتبا فأعتبته، أي رجعت إلى ما يريد وأرضيته، وباء «تبعة» وتاء «معتبة» يكسران ويفتحان.
نلجأ: نحوج. معذرة: اعتذار. بادرة: سقطه وزلّة، وقد بدرت الكلمة والفعلة: خرجت من غير أن يدبر موقعها، وفلان تخشى بوادره، أي فلتاته.
***
اللهم فحقّق لنا هذه المنية، وأنلنا هذه البغية، ولا تضحنا عن ظلك السّابغ، ولا تجعلنا مضغة للماضغ؛ فقد مددنا إليك يد المسألة، وبخعنا بالاستكانة لك والمسكنة، واستنزلنا كرمك الجم وفضلك الذي عمّ، بضراعة الطّلب، وبضاعة الأمل ثمّ بالتّوسل بمحمّد سيّد البشر، والشفيع المشفع في المحشر، الذي ختمت به النّبيين، وأعليت درجته في علّيّين. ووصفته في كتابك المبين فقلت وأنت أصدق القائلين: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: ١٩ - ٢١]. اللهم صلّ عليه وعلى آله الهادين، وأصحابه الذين شادوا الدين، واجعلنا لهديه وهديهم متّبعين، وانفعنا بمحبته ومحبّتهم أجمعين، إنك على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير.
***
1 / 17
المنية: ما يتمنى، والبغية: ما يطلب، أنلنا: أعطنا تضحنا: تكشفنا ظلّك السابغ:
سترك المديد، وأصل الظل الستر والموضع الذي لا تبلغه الشمس وفي الحديث «ضحا ظلّه»، أي عدم فانكشف موضعه للشمس. مضغة: لقمة، وكلّ ما يمضغ لقمة، والماضغ هنا العائب الآكل أعراض الناس وجعل العرض حين يعيبه مضغة له، قال النبي ﷺ: «لما عرج بي مررت بأقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: «هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم».
المسألة: الحاجة والفقر بخعنا: أقرنا، وبخع له بحقه أقرّ به وبخع نفسه قتلها غيظا، ومنه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف: ٦] فالمتعدية بالباء غير المتعدية بنفسها، الاستكانة: الخضوع والمسكنة: الفقر والذلة. استنزلنا: طلبنا أن تنزل علينا، والاستنزال السؤال بتلطف، والجم: الكثير، فضلك: إحسانك. عمّ: شمل ضراعة: ذلة البضاعة:
المال يتّجر به. الأمل: الرجاء؛ يقول إن تجارتنا التي نحصل بها منك إحسانك، رجاؤنا توكلنا عليك التوسل: التقرب، البشر: الخلق، وهو في الأصل جمع بشرة، وهي ظاهرة الجلد وسمّوا بشرا، لظهور أبشارهم خلافا لغيرهم من الحيوان، الشفيع: الطالب لغيره.
والمشفع: الذي أعطي الشفاعة، وقال النبي ﷺ: «خيّرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة وإنها أعمّ وأكفى، أترونها للمؤمنين المتقين! لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين» (١).
المحشر: موضع اجتماع الناس يوم القيامة والمحشر أيضا: الحشر وهو الأشبه باليوم، ختمت: جعلته خاتمهم، أي آخرهم، درجته: منزلته، عليين: أعلى الجنة وكأنه جمع علّيّة، المبين: المبين. رسول كريم، قيل: وهو جبرائيل، وقيل هو محمد ﷺ.
مكين: رفيع المنزلة. ثم: معناه هناك، قال الزّجاجي: هي إشارة إلى ما كان متراميا من الأماكن، والأشهر أن المراد به في الآية جبرائيل، ولذا رجع الحريري آخرا فأزال الآية من كتابه واستشهد بما اتفق مشاهير المفسرين على أن المراد به نبينا ﷺ، وهو قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧]، وليس رجوعه عن القول يعيب بل هو حسن، إذ كان الرجوع عن الخطأ إلى الصواب واجبا، إلا أن الثابت عند ابن جهور إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ؛ قال ابن عباس ﵄: وهو جبرائيل وهو الرسول لمحمد بالقرآن. ذي قوّة؛ لأنه قلع بأحد جناحيه أربع مدائن لقوم لوط؛ وهي سدوم ودامورا وصابورا وعمورا؛ في كل مدينة مائة ألف إنسان سوى ما فيها من الدواب والأنعام، آله، أي أهله وأصله «أأل» فأبدلت الهمزة ألفا، وأكثر ما تضاف إلى الظاهر، وقد سمع إضافتها إلى المضمر في الشعر والكلام الفصيح، خلافا لأبي جعفر النحاس وأبي بكر الزبيدي، فإنهما من إضافتها إلى المضمر، وأكثرهم على أن همزتها مبدلة من
_________
(١) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣٧، وأحمد في المسند ٢/ ٧٥.
1 / 18
هاء «أهل» وصوابه أنها أصل في بابها، من آل يؤول إذا رجع لأنهم يرجعون إليه ويرجع إليهم، الهادين: المرشدين إلى الطريق الخير، وقد هديته الطريق إذا أرشدته شادوا:
ترفعوا وبنو. هديه وهديهم: وطريقته وطريقتهم، وقال النبي ﷺ «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» (١) جدير:
حقيق.
***
وبعد. فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان، وعلّامة همذان رحمه الله تعالى. وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يعرف، ونكرة لا تتعرّف.
***
أندية: مجالس واحدها نديّ، والنّدي والنادي والمنتدى: مجلس القوم للحديث، وقيل هو من الندى وهو الكرم، لأنهم يقصدون فيه فيعطون. وقيل: هو من النداء الذي هو الصوت لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا ليجتمعوا. وقيل: هو من الندى وهو العرق لأن الداخل فيه يحتشم فيعرق. والأدب: معرفة الأخبار والأشعار، وفلان أديب، إذا كان متفننا مشاركا، ركدت: سكنت، والمقامات: المجالس، واحدها مقامة، والحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه يسمى مقامة ومجلسا، لأن المستمعين للمحدث ما بين قائم وجالس، ولأن المحدث يقوم ببعضه تارة ويجلس ببعضه أخرى؛ قال الأعلم: المقامة المجلس يقوم فيه الخطيب يحض على فعل الخير.
[بديع الزمان]
ذكر البديع أبو المنصور الثعالبي في يتيمته، فقال: «بديع الزمان هو أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني، مفخر همذان، ونادرة الفلك وبكر عطارد، وفريد الدهر، وغرة العصر؛ ومن لم يلف نظيره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وشرف الطبع وصفاء الذهن وقوة النفس، ولم يدرك قرينة في ظرف النثر وملحة وغرر النظم ونكته، ولم يروا أن أحدا بلغ مبلغه من لبّ الأدب وسره أو جاء بمثل إعجازه وسحره فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب فمنها أنه كان ينشد القصيدة ولم يسمعها قطّ وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلها ويوردها إلى آخرها، ولا ينخرم حرف منها وينظر في الأربع
_________
(١) أخرجه الترمذي في المناقب باب ٥٨، وأحمد في المسند ٤/ ٨٧، ٥/ ٥٤، ٥٧.
1 / 19
والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يعيدها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سردا، وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عمّا فيها وكان ربّما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخرسطوره، ثم هلم جرّا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر، ومن النثر النظم. ويعطي القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عروض من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه؛ وكلامه كلّه عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم ومجاراة الخاطر، وكان مع هذا مقبول الصورة، خفيف الرّوح، حسن العشرة ناصح الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد خالص الود، حلو الصداقة، مرّ العداوة، فارق همذان سنة ثمانين وثلاثمائة وهو مقتبا الشبيبة، غض الحداثة وقد درس على أبي الحسين بن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده واستنفذ علمه وورد حضرة الصاحب أبي القاسم بن عباد، فتزوّد من ثمارها وحسن آثارها، وورد نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فنشر بها بزّه، وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها وضمنها ما تشتهي الأنفس، من لفظ أنيق قريب المأخذ بعيد المرام وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام. وجدّ يروق فيملك القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول ... ثم ألقى عصاه بهراة فعاش فيها عشية راضية وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة؛ ناداه الله فلباه. وفارق دنياه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة؛ فقامت نوادب الأدب وانثلم حد القلم، وبكاه الفضائل مع الأفاضل، ورثاه الأكارم مع المكارم؛ على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره؛ والله ﷿ يتولاه بعفوه وغفرانه، ويحيّيه بروحه وريحانه».
وذكر الحصري رحمه الله تعالى في كتاب الزهر أن الذي سبب للبديع ﵀ تأليف مقاماته، وهو أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن دريد قد أغرب بأربعين حديثا، ذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره على طبع العرب الجاهلية بألفاظ بعيدة حوشيّة، فعارضه البديع بأربعمائة مقامة لطيفة الأغراض والمقاصد، بديعة المصادر، والموارد، وانتهى كلامه.
والذي جاء بها، فيه قلة الامتاع للسامع من حديثها، وفيها مقامات لا تبلغ عشرة أسطار فجاءت مقامات الحريري أحفل، وأجزل وأكمل؛ فلذلك فضلت البديعيّة، وقد صرح علماء الأدب في كتبهم بتفضيل البديع على نظرائه من أهل زمانه، ولقبه بالبديع يدل على قدره الرفيع، قال: [البسيط]
وقلّما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فتّشت في لقبه
1 / 20
وسئل بعض علماء الأدب من أهل عصرنا عن الحريري والبديع، فقال: لم يبلغ الحريري أن يسمى «بديع يوم» فكيف يقارن بديع زمان!
وجرى ذكر مقاماته في مجلس بعض أشياخنا، وكان حافظا أديبا، فقال: مقامات البديع يحكى أنها ارتجال، وأن البديع كان يقول لأصحابه في آخر مجلسه: اقترحوا غرضا نبني عليه مقامة فيقترحون ما شاءوا فيملي عليهم المقامة ارتجالا في الغرض الذي اقترحوه؛ وهذا أقوى دليل إن صح على فضل البديع. قوله علّامة: أي كثير العلم، وهي بنية للمبالغة.
[همذان]
وهمذان، بفتح الميم ونقط الذال: بلد بخراسان. وقيل همذان من كور الجبل.
وبلد همذان واسع جليل القدر كثير الأقاليم والكور، افتتح سنة ثلاث وعشرين، ويشرب أهلها من عيون وأودية، وقال اليعقوبي: من أراد السير من الدّينور إلى همذان سار متنزها إلى موضع، يقال له: أسدآباذ مرحلتين من أسدآباذ إلى مدينة همذان مرحلتان- وهي كثيرة البرد. وقال فيها ابن خالويه- وهو همذاني، واستوطن حلب عند بني حمدان:
[الطويل]
إذا همذان اعترّها البرد وانقضى ... برغمك أيلول وأنت مقيم
فعيناك عمشاء وأنفك سائل ... ووجهك مسود البياض بهيم
بلاد- إذا ما الصيف أقبل جنة ... ولكنّها عند الشتاء جحيم
ولبعضهم: [الكامل]
همذان متلفة النّفوس ببردها ... والزّمهرير، وحرّها مأمون
غلب الشتاء مصيفها وخريفها ... فكأنّما تمّوزها كانون
وكل الرواة يروونها «همذان» بفتح الميم ونقط الذال، إلا ابن اللبّانة فإني رأيت في شرحه: همدان بسكون الميم ودال غير معجمة، وهي قبيلة يمانية، قال فيها عليّ بن أبي طالب ﵁ وكرّم الله وجهه: [الطويل]
ولو كنت بوابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
والرواية الأولى أثبت. قوله: «عزا» أي نسب يقال: عزيته عزيا، وعزوته عزوا:
نسبته؛ واعتزي إلى بني فلان: انتسب إليهم وأبو الفتح في البديعية بمنزلة أبي زيد في الحريرية، وعيسى بمنزلة الحارث نشأتها: صنعتها. وروايتها: إسناد أحاديثها. والنكرة التي لا تتعرف، هي في غير الأسماء.
***
1 / 21
فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع وإن لم يدرك الظالع شأو الضّليع، فذاكرته بما قيل فيمن ألّف بين كلمتين، ونظم بيتا أو بيتين، واستقلت من هذا المقام الذي فيه يحار الفهم، ويفرط الوهم ويسبر غور العقل وتبين قيمة المرء في الفضل، ويضطر صاحبه إلى أن يكون كحاطب ليل أو جالب رجل وخيل، وقلّما سلم مكثار، أو أقيل له عثار.
***
غنم: غنيمة وحكى الفنجديهي في شرحه للمقامات: أن الذي أشار عليه بها هو شرف الدين أنوشروان بن خالد وزير الخليفة، أمره بإنشاء المقامات وحكم عليه بها.
وقيل: أمره به صاحب البصرة وواليها، وقال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن النقور البزار ببغداد يقول؛ سمعت الشيخ الرئيس أبا محمد الحريري يقول: أبو زيد السّروجيّ كان شحاذا بليغا، ومكديا فصيحا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد بني حرام يتكلم، ويسأل شيئا، وكان بعض الولاة حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء فأعجبهم بفصاحته، وحسن صناعته وملاحته، وذكر أسر الروم ابنته، كما ذكرنا في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: فاجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من المعارف فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وطرافة إشارته في تسهيل إيراده؛ فحكى كلّ واحد من جلسائي أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وإنه سمع منه معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون احتياله، فعجبوا من جريانه في ميدانه، وافتنانه في إحسانه؛ قال الحريري؛ فابتدأت في إنشاء المقامة الحرامية تلك الليلة، حاذيا حذوه فلما فرغت منها أقرأتها جماعة من الأعيان، فاستحسنوها غاية الاستحسان، وأنهوا ذلك إلى وزير السلطان، واقترحوا عليّ أخواتها، والله المستعان.
وهذا الذي ذكر الفنجديهي قد حدثني بنحوه من يوثق به من الطلبة، بسند يتصل بأبي محمد الحريري، وإن الحريري وفد مع أهل البصرة بغداد، فوجدوا بواسط أبا زيد السروجي فقال: يا أهل البصرة أنتم تزعمون أنكم لا تكادون ولا تخدعون، وقد والله مشيت على مساجدكم ومحاضركم، فما تعذر عليّ فيها موضع لم أجلب منافع أهله بضروب من المكر، فلما بلغوا بغداد أخبروا بالقصة وزير السلطان، فأمر الحريري بجمع المقامات.
لكن الذي ثبت عندنا هو ما حدثني به الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر أن الفقيه الراوية أبا القاسم بن جهور، حدثه أن الحريري حدثه أن قصة المقامة الثامنة والأربعين
1 / 22