شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص
شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص
Жанры
إيراد عقلي على مسألة الحقيقة والمجاز
وهذا التعريف مشكل من أوجه كثيرة، ومن أخصها أنه يتضمن أن ثمة في الكلام استعمالًا ووضعًا؛ لأنهم قالوا: الحقيقة هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وما دام ثمة استعمال وثمة وضع، فلا يمكن أن يكون هذا التعريف صوابًا أو ممكنًا إلا إذا تحصَّل الإدراك للوضع والاستعمال، وأن بينهما افتراقًا.
المستعمل هم العرب في كلامهم من الجاهليين، ومن أدرك فصيح اللغة بعدهم، وإذا كان الاستعمال هو استعمال العرب، فالوضع لمن إذا قيل: هو وضع العرب، امتنع أن ينفك الاستعمال عن الوضع، وهذه النظرية لا يمكن أن تكون صحيحة في العقل إلا إذا فرض أن ثمة وضعًا انضبط، ثم أعقبه استعمال، فإذا تناسب الاستعمال مع الوضع، سمِّي الكلام حقيقة، وإذا خرج الاستعمال عن الوضع سمِّي الكلام مجازًا، أما إذا كان الاستعمال هو الوضع، أو امتنع امتياز أحدهما عن الآخر، فإن التقسيم يكون غير ممكن في العقل.
وهذا إيراد عقلي متين على مسألة الحقيقة والمجاز؛ ولهذا فإن المعتزلة خاصة ومن شاركهم في نظريتهم في هذا التقسيم، عنوا في مقدمات كتبهم بتقرير مسألة مبدأ اللغات، وكيف بدأت اللغة، وبدءوا يذكرون أقوالًا، ومع أن هذه المسألة تكلم عنها بعض المفسرين في مثل قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة:٣١] فقيل: إنها لغة آدم، وقيل: كانت الجن تتكلم بها، وقيل: إلهام، وقيل: تعارف، وقيل غير ذلك، وهل العلم ممكن بهذه المسألة، أم لا؟ وعليه قد نقول: الراجح أن العلم بهذه المسألة غير ممكن، إلا إن جاء نص إلهي نبوي عن طريق الوحي بأن اللغة تحصَّلت بكذا وكذا، وإلا كان العلم بهذه المسألة متعذرًا.
وعليه تبقى مسألة الحقيقة والمجاز مسألة نظرية، أما إذا دخلت إلى عمق المعاني فهي مرفوضة وغلط؛ لكونها ممتنعة في العقل، وممتنعة التحصيل.
وهناك سؤال وجه إلى المعتزلة وهو قوله تعالى: (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) ما المقصود بذلك؟
الحذاق منهم حاولوا الإجابة عن هذا السؤال فقالوا: إن الجدار مثلًا لا يسأل، أو القرية لا تسأل، وإنما المقصود أهل القرية، نقول: هذا لا مشاحة فيه، ولا أحد من العقلاء حتى من غير المسلمين، فضلًا عن العرب الذين سمعوا القرآن يفهم خلاف هذا، فجميع العقلاء إذا سمعوا مثل هذه الآية فهموا أن المقصود أهل القرية، وأن في الكلام حذفًا.
ومحصَّل الجواب عن إشكال المعتزلة أن يقال: إن عامة ما جعلوه مجازًا هو في اللغة على أحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون من باب الحذف، وهذا كثير في اللغة؛ وكثيرًا ما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه، وهذا لا إشكال فيه ألبتة، وهذا الحذف ليس خاصًا بلغة العرب، بل هو موجود في جميع ألسنة بني آدم؛ يحذفون المعلوم من الكلام اختصارًا، ولهذا قال ابن مالك في ألفيته:
وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول: زيد؛ بعد من عندكما؟
وفي جواب كيف زيد؟ قل: دنف ... فزيد استغني عنه إذ عرف
فالمقصود: أن الحذف في الكلام شائع في جميع ألسنة بني آدم عامة، والعرب خاصة، وهو أنهم يحذفون بعض الكلمات المعلومة ضرورة، فمثلًا: إذا قال لك شخص: كيف زيد؟ أو كيف عمرو؟ فإنك تقول: صحيح أو حسن أو مريض، ولا يلزمك لغةً ولا عقلًا ولا نظرًا أن تقول: زيد صحيح؛ لأنه إنما سأل عن زيد.
وتسمية هذا الحذف مجازًا إذا قصد به -أن اللغة تجيزه- فهذا لا مشاحة فيه، وهذه هي تسمية أبي عبيدة معمر بن المثنى حين قال: وهذا من مجاز اللغة، أي: مما تجوزه اللغة، وورد مثل هذا عن الإمام أحمد أيضًا.
الوجه الثاني: هناك نظرية عقلية وهي أن العرب وغيرهم يمتنع أن يحذفوا من كلامهم ما قصدوا به الإفهام؛ بل لا يحذفون من كلامهم إلا ما كان معلومًا ضرورة، فإذا رجعنا إلى كلام الله ﷾ وكلام نبيه ﷺ -والكتاب والسنة هما هدىً وبيان للناس- فما كان فيهما من حذف فهو على نسج كلام العرب؛ يلزم أن يكون المحذوف معلومًا ضرورة؛ كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف:٨٢] علم ضرورة أن المقصود أهل القرية، وهذا علم عقلي.
أما أولئك المتكلمون فإنهم فسروا قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر:٢٢] من جنس قوله: ﴿وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف:٨٢] ونحن نقول: هذا ممتنع؛ لأن الاتفاق العقلي واللغوي من شرطه أن يكون المحذوف معلومًا، وهو هنا ليس معلومًا، بل المحذوف ممتنع العلم.
ومن لم يثبت مجيء الله ﷾ على ما يليق به، وقال: إن الآية ليست على ظاهرها، أو أن هذا مجاز، أو أن هذه الحقيقة ليست مرادة، والمراد هو المجاز!
يقال له: إن هذا خبر قصد تصديقه في القرآن، وإذا كان في الكلام حذف، فلا يفهم الكلام إلا إذا علم المحذوف، والعلم بالمحذوف ممتنع؛ لتعدد الإمكان؛ فإن منهم من يقول: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر:٢٢] أي: جاء أمره، ومنهم من يقول: جاءت ملائكته أو رحمته، ومنهم من يقول: أي: جاء قسطاسه أو جاء عدله؛ فصار تقدير المحذوف عند المخالفين متعددًا، والذي أراده الله حقيقة هو شيء واحدٌ، وفرق بين أن يجيء جبريل، أو تجيء جملة من الملائكة، أو يكون المقصود مجيء رحمته، أو ما إلى ذلك.
إذًا ..
هناك سؤال يوجه للمخالفين: ما الذي جعل التعيين لواحدٍ من هذه المتعددات أمرًا متحققًا؟
فمن قال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر:٢٢] أي: جاء أمره مثلًا، فإننا نقول له: قد يكون المقصود: جاء جبريل، وهذا على تأصيلكم؛ لأنكم جوزتم أن يكون الكلام في مثل هذه الحالة ليس على ظاهره.
فالنتيجة إذًا: أنه لما تعدد المحذوف إمكانًا، عُلم أن الكلام على ظاهره وليس فيه حذف، وأن قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر:٢٢] أي: جاء هو ﷾ مجيئًا يليق بجلاله.
وذلك أن المحذوف من شرطه الضروري في جميع ألسنة بني آدم أن يكون معلومًا علمًا بيِّنًا، وعليه فليس في القرآن حذف إلا إذا استقر في فهم المخاطب ابتداءً أن في الكلام حذفًا، وإلا فإن السياقات تبقى على ظاهرها.
ولفظ "الظاهر" لم يأت ذكره في القرآن على معنى الكلام، إنما جاء في مثل قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام:١٢٠] وهذا باب آخر وهو باب العمل، ومع ذلك فلما اشتغل بعض الناس بلفظ "الظاهر" وغلوا في ذلك، قال أهل السنة: إن كلام الله وكلام رسوله قد يكون أحيانًا على غير ظاهره، فمن قال هذا من هذا الباب فلا بأس بذلك، ولكن التقسيم لكلامه ﷾ إلى ظاهر وباطن أو ظاهر ومؤول بدعة محدثة في الدين باطلة في الشرع.
الوجه الثاني من أوجه ما جعلوه مجازًا: أن يكون ذلك لفظًا مشتركًا، أي: يُستعمل في أكثر من سياق ومعنى، كلفظ اليد، فإنها تستعمل ويراد بها الصفة المتعلقة بالحي، وتستعمل اليد ويراد بها النعمة، ومع أن هناك تناسبًا بين معنى النعمة وبين معنى اليد الصفة؛ لأن النعمة إنما تعطى بهذه اليد.
فلفظ (اليد) لفظ مشترك متعدد المعنى، ولما زجر أبو بكر الصديق ﵁ عروة بن مسعود الثقفي في قصة صلح الحديبية -كما في الصحيح- قال عروة: من هذا؟ قالوا: هذا أبو بكر، فقال له عروة بن مسعود الثقفي: (لولا يد لم أجزك بها لأجبتك) أي: لولا نعمة، فهم يقولون: إنه من باب المجاز، ونحن نقول: كلا، هذا من باب الحقيقة، ولكن لو فرض جدلًا أن هذا يسمَّى مجازًا في اللغة فلا بأس.
والمقصود: أن بعض الكلمات في اللغة متعددة المعاني باعتبار السياق، لكن ليس في كلام العرب سياق واحد يحتمل جملة من معاني الخطاب، ولا يقع ذلك إلا على أحد وجهين: إما أن يكون المتكلم ليس فصيحًا، وإما أن يكون السامع ليس تام الفهم والإدراك، وعليه فالعرب تُعِّرف اليد بمعنى النعمة، لكنها تفهم أنها هي المراد من خلال السياق؛ فالسياق نفسه يدل على ذلك، فالاعتبار بالسياقات وليس بأفراد الكلمات.
2 / 9