الجِدُّ شيمَتُهُ وَفيهِ فُكاهَةٌ ... سُجُحٌ وَلا جِدٌّ لِمَن لَم يَلعَبِ
شَرِسٌ وَيُتبَعُ ذاكَ لينَ خَليقَةٍ ... لا خَيرَ في الصَهباءِ ما لَم تُقطَبِ
ما أحسن قوله: لا خير في الصهباء ما لم تقطب؛ لأن الخمرة إذا كانت صرفا كانت حادة، لا يمكن استعمالها، فإذا مُزجت بالماء، وهو طبع بارد، تولّد عنها كيفية أخرى، تقارب الاعتدال، فأمكن استعمالها.
وقول أبي تمام الطائي أيضا (١): (من الكامل)
لا طائِشٌ تَهفو خَلائِقُهُ وَلا ... خَشِنُ الوَقارِ كَأَنَّهُ في مَحفِلِ
فَكِهٌ يُجِمُّ الجِدَّ أَحيانًا وَقَد ... يُنضى وَيُهزَلُ عَيشُ مَن لَم يَهزِلِ
وفي بيت الطغرائي من حسن الصناعة ما يشهد لقائله بفوز قدحه في البلاغة، فإنه جمع فيه بين ثمانية أشياء: الحلاوة، والمرارة، والفكاهة، والمزج، والجد، والقسوة، والرقة، والبأس، والغزل، وهي ثمانية لم تجتمع لغيره بهذا الانسجام والعذوبة، وأرباب البديع يسمون هذا النوع بالمقابلة، واستشهدوا فيه بقوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى] (٢) الآيتين، في كل آية ما يقابل الأخرى، هكذا قرره الجميع، ومن أحسن ما استشهدوا به في هذا النوع قول أبي الطيب (٣): (من البسيط)
أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي
قالوا: قابل / فيه خمسة بخمسة، وهي: أزورهم مقابل وأنثني، وسواد مقابل بياض، والليل مقابل الصبح، ويشفع لي مقابل يغري بي، والخامسة لفظة لي تقابل لفظة بي؛ لأن الشفاعة له، ضدّ الإغراء به، كأنه قال: ذلك لي، وهذا عليَّ.
قال الشاعر (٤): (من المتقارب)
فَيَومٌ عَلَينا وَيَومٌ لَنا ... وَيَومٌ نُساءُ وَيَومٌ نُسَر
ألا تراه قابل ما عليهم بما لهم، لما في ذلك من الإساءة والسرور، وقد أخذ بعضهم قول أبي الطيب أخذا مليحًا، فقال (٥): (من الكامل)
أقلي النهار إذا أضاء صباحه ... وأظل أنتظر الظلام الدامسا
فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكا ... والليل يرثى لي فيدبر عابسا
وفيه مقابلة خمسة بخمسة.
_________
(١) ديوانه، ص ٢٢١
(٢) الليل ٥
(٣) ديوانه ٢/ ٢١٠
(٤) للنمر بن تولب، ديوانه، ص ٥٧.
(٥) البيتان في ديوان الصبابة، ص ٢٧٣/ (م)، وفي الغيث المسجم ١/ ٢٨٣
1 / 49