الدهر عاكس آمالي فيها، قال الجوهري في صحاحه (١): أقنعه الشيء إذا أرضاه، فعلى هذا لا يتعدّى إلى مفعول ثان، إلاّ أن يشدّد، تقول: قنّعته بالقليل من الرزق.
المعنى: والدهر يعكس ما أُؤمله وأرجوه من البسطة والرفعة؛ حتى أقنع من الغنيمة بالرجوع بعد التعب والمشقة، وهذا المثل يضرب لمن مسعاه، وطال سفره، وتمنى العود إلى بلده، نعوذ بالله من هذه الحالة، كان رسول الله ﷺ يتعوّذ من طمع في غير مطمع، ومن طمع يعود إلى طبع (٢)، وكان ﵊ يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، والدهر ما زال يعكس المقاصد، ويراقب الخيبة، ويُراصد، فقد تدنو المقاصد والأماني، فتعترض الحوادث والمنون، والشعراء أكثروا من هذا المعنى، قال أبو الطيب (٣): (من البسيط)
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ... ما لَيسَ يَبلُغُهُ في نَفسِهِ الزَمَنُ
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ ... تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
قلت: وصواب هذا البيت أن يُقرأ: تجري الرياح بما لا يشتهي، بالياء المثناة في أوله، والسفِن / بكسر الفاء، أي صاحب السفينة، ويخلص بذلك عن المجاز. ... [٢٣ أ]
وقال أبو الطيب (٤): (من الطويل)
أَهُمُّ بِشَيءٍ وَاللَيالي كَأَنَّها ... تُطارِدُني عَن كَونِهِ وَأُطارِدُ
وقال ابن القيسراني (٥): (من الطويل)
إلى كم أسومُ الدَّهرَ غير طباعه وأصدُقُهُ عن شيمتي وهو حانثُ
وأسمو مُجدًَّا في العُلى وتَحُطُّني خطوبٌ كأنَّ الدهرَ فيهنَّ عابثُ (٦)
حكى الخالديان في اختيار شعر مسلم بن الوليد أنه كان في بعض أطراف البصرة رجل يخيف السبيل، فأعيى أمره السلطان، ثم ظفر به، فأمر بقتله، وصلبه، فلما قُدِّم لذلك قال للموكل به: إن رأيت أن تتوقف عني قليلًا، وتأتيني بقرطاس ودواة أكتب شيئا في قلبي، فإذا فرغت من ذلك فشأنك وما أُمِرت به، فأجابه إلى ما سأل، ثم لمَّا كتب قال للمُوكَّل: إفعل ما بدا لك، فنظر الموكل في الرقعة فإذا فيها مكتوب: (من السريع)
قالت سُليمى كم تُمَنينا ... وعدُكَ وعدُ ليس يأتينا (٧)
_________
(١) الصحاح (قنع)
(٢) الذي كتب: من طمع في مطمع، ومن طمع يهذي إلى طمع، وما أثبتناه من بهجة المجالس، ص ١٨٥/ الموسوعة الشعرية، ومن الغيث المسجم ١/ ٢٣٤
(٣) ديوانه ٢/ ٢٣٤ - ٢٣٥
(٤) ديوانه ٢/ ٦٩
(٥) لم أجدهما في المطبوع من ديوانه، وهما في الغيث المسجم ١/ ٢٣٥
(٦) البيتان في الغيث المسجم ١/ ٢٣٥
(٧) الأبيات في الغيث المسجم ١/ ٢٣٦
1 / 40