شرح كتاب التدليس في الحديث للدميني - محمد حسن عبد الغفار
شرح كتاب التدليس في الحديث للدميني - محمد حسن عبد الغفار
Жанры
أقوال العلماء في تدليس الإسناد
نأتي الآن إلى حكم العلماء على تدليس الإسناد عامة، فهناك خمسة أقوال للعلماء في التدليس عامة: القول الأول: الرد مطلقًا، وهذا قول المتشددين، وأبو الباب في ذلك هو شعبة بن الحجاج.
وأصحاب هذا القول قالوا: أما المدلس فمجروح عندنا، وإليك الأقوال التي قيلت فيه: أما شعبة فقال: التدليس أخو الكذب، وقال في كلمة أخرى: لأن أخر من السماء خير لي من أن أدلس، وقال عن نفسه: لأن يزني خير له من أن يدلس، فجعل التدليس أخا الزنا، ولذلك ابن الصلاح لما سمع هذه الكلمة ونقلها عن الإمام أمير المؤمنين في الحديث شعبة أنكر عليه، وقال: وهذا فحش في القول، فجاء البلقيني فأنكر على ابن الصلاح وعضد قول شعبة، وقال: ولم لا وهو يعمي على الناس حديث النبي ﷺ! وإن التدليس أضر من الربا؛ لأن الربا فيه الظلم في أمور دنيوية، أما الحديث ففيه الظلم في أمور دينية، من تضييع للشرع، وجعل الحرام حلالًا، أو الحلال حرامًا، فقال: فإن التدليس أضر من الربا، وقد وردت الآثار أن درهمًا واحدًا أشد من ست وثلاثين زنية، وقال: والتدليس أضر من الزنا، فيكون حديث واحد فيه تدليس أشد من ست وثلاثين زنية.
وورد عن عبد الرزاق الصنعاني، وهو ثقة ثبت، وشيخ الإمام أحمد بن حنبل، وكان فحلًا من أهل اليمن، ورد أنه كان يكره التدليس، بل يذم التدليس، ولأن المحدثين من أهل اليمن كانوا ينزلون مكة لبركتها، وكذلك كل المحدثين كانوا يتوافدون عليها، فيعقدون مجلس التحديث، فقد نزل عبد الرزاق مكة، وسمع به أهل الحديث ولم يأتوه، فكاد يموت، فذهب فتعلق بأستار الكعبة وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: رب! لمَ لم يأتني أصحاب الحديث؟ أكنت كذابًا؟ أكنت مدلسًا؟ فانظر كيف قرن التدليس بالكذب، وهو يقول: حق لمن يدلس ألا يسمع له أحد، فما لبث أن انتهى من دعائه حتى وجد الناس يكتظون على المسكن الذي نزل فيه، فيسمعون منه الحديث، فالمقصود أنه قرن الكذب بالتدليس.
وكان أبو عاصم النبيل يقول: إن التدليس شر كله، ودعا بعضهم على المدلسين فقال: خرب الله بيوت المدلسين، خرب الله بيوت المدلسين، ونقل عن أبي عاصم أنه قال: إن المدلس هو المتشبع بما لم يعط، والمتشبع بما لم يعط عنده تزوير؛ لأن النبي ﷺ يقول: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، لأن من فعل ذلك أصلًا ليس بمحدث، ويضع نفسه أمام الناس على أنه محدث، أو ليس بفقيه، ويضع نفسه أمام الناس على أنه فقيه.
وقال آخرون: إن التدليس غش، والنبي ﷺ قال: (من غشنا فليس منا).
وكل هذه الأقوال تعضد قول من قال: إن المدلس مجروح، فلا يؤخذ منه حديث، فلذلك ردوا حديثه مطلقًا، سواء عنعن أو صرح بالتحديث، وموجب هذا القول رد الأحاديث التي وردت عن الأعمش وعن الثوري وعن ابن عيينة وعن الزهري وعن الوليد بن مسلم وعن هشيم بن بشير، وهؤلاء جاوزوا القنطرة، فسوف تضيع ثلاثة أرباع السنة، إذًا هذا القول فيه غلو وتشد، فلا يقبل بحال من الأحوال؛ لأننا لو عملنا بموجب هذا القول لرددنا أغلب أحاديث النبي ﷺ.
القول الثاني: القبول مطلقًا، وأصحاب هذا القول يحتجون بقول الشافعية: إن المدلس ليس بكذاب، فقد ورد عن الشافعي أنه قال: إن التدليس ليس بالكذب، ولكنه ضرب من الإيهام بلفظ يحتمل، أي: يوهمك بأنه سمع وهو لم يسمع، ثم قال الشافعي ﵀: فلا نقبل حديثه حتى يقول: حدثني أو أخبرني، فهم لم يأخذوا الشطر الأخير من كلام الشافعي، لكن قالوا: المدلس ليس بكذاب، وليس بمجروح، وحديثه حكمه حكم المرسل؛ لأن الإرسال إسقاط، والتدليس إسقاط كذلك -كما بينا ذلك في العلاقة بين التدليس والإرسال- فكل منهما أسقط واسطة، فلذلك قالوا: من قبل الإرسال لزامًا عليه أن يقبل التدليس.
وهذا قول أكثر الأحناف، وبعض المالكية، بأن الأصل في رواية المدلس القبول مطلقًا، سواء عنعن أو صرح بالتحديث.
القول الثالث: التفصيل: وهذا القول نقل عن المحدثين، فقد قالوا: إن الشافعي قال: إن التدليس ليس بالكذب، وهذا ليس بجرح صريح، فيكون المدلس غير مجروح، وكذلك قالوا: إنه قال: هو ضرب من الإيهام، أي: فيه إيهام، ونحن نريد أن نقف على الإسناد هل سمع أم لا، فلا نقبل منه حتى يقول: حدثني أو أخبرني أو أنبأني.
إذًاَ هم فصلوا وقالوا: إن المدلس إذا أتى بصيغة توهم السماع كأن يأتي بالعنعنة فلا نقبل حديثه، وإذا أتى بصيغة التصريح فيقبل حديثه؛ لأنه غير مجروح العدالة، وهذا القول من القوة بمكان، فإذا كان معنا إسناد فيه مدلس أتى بصيغة العنعنة مثل: الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، فنقول: إن هذا الإسناد ضعيف، والعلة في ذلك أن فيه إيهامًا يوجب لنا الانقطاع، أي: أن ضعف الحديث علته ليست العدالة والضبط، فإن العدالة والضبط متوافرتان، وإنما العلة هي إيهام بانقطاع، فإذا زال هذا الإيهام بأن صرح الراوي بالتحديث، فتكون الشروط قد توافرت، ويكون الإسناد صحيحًا، ولذلك نحن قلنا: إن الذهبي قال في بقية: إن قال: حدثني، فعض عليه بالنواجذ.
وليعلم أن أصحاب هذا القول يشترطون في المدلس أن يكون ثقة لا ضعيفًا، أي: أن الكلام في القول الثالث عن الثقات وليس عن الضعفاء؛ لأن الضعيف لو عنعن فإن هذا سيصبح ظلمات بعضها فوق بعض، فإن الراوي هنا متهم أصالة، فكيف إذا زاد فوق ذلك تدليسًا! القول الرابع: قالوا: ننظر للمدلس نفسه، فإن كان لا يدلس إلا عن الثقات فحديثه يكون صحيحًا ويقبل منه، ويعرف ذلك من خلال تصريحه عمن سمع منه، فإن كان دائمًا يصرح عن ثقات فنقول: إنه يدلس عن الثقات فقط، وذلك مثل ابن عيينة، فإنه كان إذا طلب منه التصريح لا يصرح إلا عن ثقة، أما إذا كان يصرح عن الثقات والضعفاء فلا يقبل منه حتى يصرح بالتحديث.
وقد قال أصحاب هذا القول: إن هذا الشرط لم يتوفر إلا في ابن عيينة.
القول الخامس: قالوا: يشترط في قبول حديث المدلس أن يكون المحدث كثير التحديث وقليل التدليس، قالوا: لأن القاعدة عند علمائنا تقول: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فيغمر قليل التدليس في كثير الحديث، ومثلوا على ذلك بـ الثوري وابن عيينة وابن المديني وغيرهم، فـ الثوري كثير الحديث، بل أمير المؤمنين في الحديث، فهو أكثر حفظًا من شعبة، ولكنه كان يدلس، فقالوا: نقبل عنعنة الثوري؛ لأنه مكثر في الحديث، وكذلك الزهري، فهو أيضًا أمير المؤمنين في الحديث، وأوسع الناس حفظًا منه، فتدليسه يغمر في بحر أحاديثه.
هذه هي الأقوال الخمسة، والراجح والصحيح في ذلك هو القول الثالث، والقولان الرابع والخامس يندرجان تحته، أي: أن هذين القولين تابعان للقول الثالث؛ لأننا قد ننزل العنعنة منزلة التصريح لعوارض وضوابط في المدلس، من حيث ثقته أو كثرة حديثه.
5 / 7