صبر السلف وأثره على الخلف
إن من الجدير بنا أن نصلي على سيدنا رسول الله ﷺ الذي علم الأجيال، وهو الذي علمه ربه ﷾، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيًا عن أمته.
وأن نترضى عن صحابته، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان الذين نشروا العلم، وحافظوا عليه مع ما لاقوا في سبيله، فلو أنهم حين حوربوا سكنوا واستكانوا وخافوا ما وصل العلم إلينا، وما انتشر العلم أبدًا.
الإمام مالك رضوان الله عليه من شدة تعذيبه خلعت ذراعه، فكان رضوان الله عليه لا يستطيع أن يضع في الصلاة يدًا على يد، فكان يرسل يديه، حتى ظن أتباعه أن إرسال اليدين سنة من السنن في الصلاة.
وأحمد بن حنبل رضوان الله عليه سجن ثلاثة عشر عامًا ليقول كلمة، وربنا ﷾ يقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:٢ - ٣].
لقد حوربوا في أقواتهم وفي أرزاقهم، وما زال أهل الحق يحاربون إلى يومنا وإلى أن تقوم الساعة، ولكن ستظل طائفة من الأمة قائمة على الحق لا يضرها من ضل إذا اهتدت.
فـ أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رضوان الله عليه كان يضرب فيغشى عليه، فيفيق فيجد تلاميذه من حوله يبكون بكاءً مرًا، ويتعجبون فيقولون له: يا إمام! كنت تضرب وتضحك، ونحن كنا نراك ونبكي! فكان يقول لهم: أنتم كنتم ترون هذا الجلاد، أما أنا فكنت أرى يد رب العباد.
فهذا هو الفرق بين المؤمن ومدعي الإيمان، وهو الفرق بين الإنسان الذي لا ينحني أبدًا إلا لله ﷿ وبين غيره؛ لأن الأعمار مكتوبة، ولذلك يقول ﷺ: (خير الشهداء حمزة -عمه- ورجل دخل على حاكم ظالم فوعظه، فإن قتله فبأجل الله ﷿، وإن لم يقتله عاش على الأرض مكتوبًا عند الله شهيدًا).
وهكذا كان أبو حنيفة ﵁ عندما أراد أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور أن يوليه أمر القضاء، فدخل على أمير المؤمنين فقال له: والله إني لا أحسن القضاء.
فقال: عجبًا يا أبا حنيفة! أتكذب؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت كاذبًا فكيف تولي قضاء المسلمين كاذبًا؟! وإن كنت صادقًا في أني لا أحسن القضاء فصدقني.
وقد كان لي أستاذ يقول: كنت أدرس في الأزهر، فكان شيخ الأزهر يسأل: لِمَ لَمْ يعين فلان؟ فيقول: لأنه مخلص.
فكأن الإخلاص ليس من مسوغات التعيين في زماننا.
فـ أبو حنيفة رضوان الله عليه عذب وسجن، وهكذا الإمام الشافعي، وهكذا ابن تيمية، وهكذا ابن قيم الجوزية.
وقد نقلت لنا كتب التاريخ أن أبا حازم دخل على هشام بن عبد الملك فخلع حذاءه ببابه وقال: السلام عليك، كيف أنت يا هشام؟ فقال: يا أبا حازم! أغضبتنا في أمور ثلاثة: خلعت حذاءك ببابنا، ولم تسلم علينا بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، فلم تقل: يا أبا فلان ولكن ناديتني باسمي.
فقال له: يا هذا! إني أخلع حذائي أمام ربي خمس مرات في اليوم والليلة فلا يغضب، فلم تغضب أنت؟! ولم أنادك بإمرة المؤمنين لأنه ليس كل المؤمنين قد وافقوا على أنك أمير لهم، أأحشر أمام الله منافقًا يوم القيامة؟! فلو كان ابن القيم وغيره على مثل حالنا ما انتشر العلم، ولكنهم تعبوا في تحصيل العلم، فهذا عبد الله بن مسعود جلس في الكعبة يقرأ سورة الرحمن، فضربه كفار قريش، حتى كان أبو جهل يحرف كعب حذائه على أنفه حتى استوى أنف عبد الله مع وجهه.
فلو كانت أم عبد الله بن مسعود أو امرأته مثل أمهاتنا وزوجاتنا لضاع الدين، ومع ذلك لا تزال طائفة قائمة تقول الحق لا تخشى في الله لومة لائم مع ما يحدث لها من مآس.
3 / 4