والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس، فقال: في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال: حباب بن المنذر لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فهذه مخاطبة المهاجرين والأنصار في الإمام، ولو كانت مختصة بقريش ما طلبها الأنصار ولو كانت الخصوصية ثابتة شرعا لاحتج بها أبو بكر، ولما لم يحتج بذلك بل ذكر أنهم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا، علمنا أن قوله: نحن الأمراء وأنتم الوزاء من باب السياسة في انقياد الناس وتألفهم وطاعتهم لمن يعلمون له سابقة الشرف أكثر من طاعتهم لمن لا يعترفون له بذلك، وهذا معروف في أطباع البشر لاسيما وقد سبقت فيهم النبوءة فازدادوا بذلك شرفا على شرفهم، وانقادت الناس لهم في عصر النبوءة، فإذا قدموا إماما من غيرهم وقعت النفرة في النفوس، لما طبعت عليه من العتو وخيل إليها أنها دولة أخرى، فمن هذا المعني كانوا أحق بالأمر في ذلك العصر، أما انقياد الناس لهم أيام دولتهم عند عدلهم وجورهم، فذلك شأن الدول في كل زمان، فلا يدل على تخصيصهم بالخلافة، وقد أنكرت الصحابة ومن بعدهم على من انحرف عن الحق منهم فحاصروا عثمان يوم الدار حتى قتلوه وقاتلوا طلحة والزبير يوم الجمل ومعاوية يوم صفين وفارقوا عليا يوم حكم الرجال في حكم أمضاه الله، ولم يجعل لغيره فيه مدخلا وهو قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله والعدول عن هذا الحكم إلى ما يحكم به الحكمان عدول عن حكم الله إلى حكم الرجال، ثم عقدوا الإمامة على عبد الله بن وهب الراسبي رحمة الله عليه، ولم ينكر عليهم أحد عقد الإمامة لغير قرشي وإنما أنكروا خروجهم عن علي حين ظنوا بقاء إمامته على أن الخارجين عندهم حجة الله يومئذ في أرضه رهبان الليل أسود النهار ما أنكروا إلا منكرا وما طلبوا إلا هدى، ولولا ضيق المقام لبسطت <01/77> الكلام في بيان طريقتهم النيرة بما لا يرتاب عاقل في أن الهدى معهم، فبهداهم اقتده، ولم يبق عند علي بعد خروجهم عنه إلا طلبة البيضاء والصفراء، فمن ثم كانت أموره في نزول ودولته في خمول.
ستحصد هذا الزرع إما تقصدت * عراقك لا يلوي عليك ضمير
تنازعها سل السيوف فتلتوي * وتخطب والقلوب صخور
قتلت نفير الله والربح فيهم * فأصبحت فذا والنفير نفور
وليس من الحكمة الإلهية أن تخص الإمامة بطائفة جاروا أو عدلوا، صلحوا أو فسدوا؛ لأن ذلك مناف للمعنى الذي لأجله شرعت الإمامة في الناس.
Страница 84