قوله: «ما خلا واحدة ناجية»: وهي التي ثبتت على كتاب الله وسنة نبيئه عليه الصلاة والسلام وسنة الخلفاء المهديين عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي نجيح العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصانا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدبين عضوا عليها بالنواجد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"، رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ولا يخفي أن السيرة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر اختلفت في آخر خلافة عثمان وأن المنكرين عليه إنما طالبوه بتلك السيرة فما زال يماطلهم، والأحكام مضيعة، ثم طلبوا منه أن يعدل أو يعتزل فأبى عليهم وكلهم يد واحدة عليه إلا من كان من خاصته وخدمه فحاصروه طويلا ثم قتلوه ولا منكر، ثم قدموا علي بن أبي طالب إماما على السيرة الغراء فخرج معاوية عن طاعته خوفا على ولايته أن تسلب ووازره عمرو على ذلك بعد أن اشترط عليه ما اشترط، ولبسوا على الناس أنهم يطلبون بدم عثمان، ثم نكث طلحة والزبير بيعة علي، فكانت وقعة الجمل ثم سار إلى معاوية والمسلمون له موازرون ومناصرون، فكانت وقعة <01/69> صفين، ثم خدعوه بطلب التحكيم وأعطى على ذلك العهود والمواثيق، وإمامته واضحة نيرة، فطلبوا منه الثبات على تلك السيرة الواضحة والتمسك بقوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتىا تفيء الىآ أمر الله}[الحجرات: 09]، فأبى عليهم وخاصموه في المسألة فخصموه، فلم يرجع فتركوه، وقدموا عبد الله ابن وهب الراسبي، وكان من أمر الحكمين ما كان من اتفاقهما على عزله واختلافهما في معاوية، فلم يرض بحكومتهما، فأين ما أعطى من العهد والميثاق إن كان التحكيم حقا، وإن كان باطلا فعلى ما يلام ويقاتل من لم يرض به ؟ فإن قيل: إنما قاتلهم لأجل الخروج عنه لا لإنكار الحكومة، قلنا: إنما خرجوا بعد أن خلع الإمامة من عنقه وجعلها إلى الحكمين يحكمان فيها كيف شاءا، مع أنه لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل، فعن أنس: "أن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك فما تأمر في أمرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل"، الحديث في مسند أحمد وفي جامع الترمذي وفي مسند أحمد أيضا عن حذيفة رضي الله عنه، قال: كنا عند النبيء صلى الله عليه وسلم جلوسا، فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه"، وفي رواية: "فتمسكوا بعهد أم عبد واهتدوا بهدي عمار"، فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على من يقتدي به من بعده، وعلى من يهتدي بهديه وعلى من يسمع قوله فالأصحاب رحمهم الله تعالى اقتدوا بأبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وسمعوا قول ابن مسعود، فهم على وصية نبيئهم عليه الصلاة والسلام، فهذا دليل على أن الصواب ما عليه الأصحاب، وقد روت القوم أحاديث تقتضي سعادة عثمان ومن بعده من أهل الأحداث المخصوصين، ولإن صحت تلك الأحاديث فلا يضرنا ورحمة الله واسعة، والأصحاب رحمهم الله تعالى قد حكموا في ذلك بحكم الله تعالى، ولا تناقض بين سعادتهم، وحكم الله فيهم في هذه الدنيا، فكم من محدود على الزنا والخمر، وهو في علم الله تعالى يموت تائبا، ظهرت توبته للناس أو انسترت، ويؤيد ذلك ما في البخاري في فضل عائشة عن الحكم، سمعت أبا وائيل قال: لما بعث علي عمارا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم <01/ 70> خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها، وذلك يوم الجمل.
قوله: «وكلهم يدعي تلك الواحدة»: أي: كل واحدة من تلك الفرق تقول: إنها المصيبة في ما ذهبت إليه، وإنها هي المصرح بنجاتها في نص الحديث وهذا شأن كل أمة اختلفت بعد نبيئها، ولولا هذه الدعاوي مادام الخلاف إلى يوم القيامة لأن الباطل البحت لا ثبات له وإنما يثبته إياه وإخراجه في صورة الحق وتأييده بالشبه في صورة البرهان، فيخفى على كثير من الناس إلا من هدى الله من المؤمنين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قوله: «لعن الله من أحدث في الإسلام حدثا ... الخ»: الحدث في الإسلام تبديل شيء من أحكامه الثابتة بالكتاب والسنة، فمن بدل شيئا منها فقد استحق اللعن لأنه ناقض ما جاء به الرسول صلوات الله عليه وسلامه، وذلك أن الرسول جاء لتأييد الدين وتشييد الإسلام، فمن جاء بخلاف ذلك فهو مناقض لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد من المسلمين أن يواليه أو يؤاويه غضبا لله تعالى ونصرة للدين فمن آواه صار حكمه حكمه، واستحق اللعنة مثله، إذ بالمؤاواة يكون شادا لعضده ومشاركا له في حدثه.
ما جاء في فضل أهل الوفاء من بعده صلى الله عليه وسلم وعقوبة الناكثين لعهده.
Страница 76