Шарх Хадис Аммар бин Ясир -
شرح حديث عمار بن ياسر ﵁ -
Исследователь
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Издатель
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Номер издания
الثانية
Год публикации
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Жанры
شرح حديث عمار بن ياسر ﵁
1 / 151
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه رب العالين والصلاة والسلام عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد فقد خرَّج الإمام أحمد والنسائى (١) من حديث عمار بن ياسر ﵁ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
اعلم أن الحاجات التي يطلبها العبد من اللَّه ﷿ نوعان:
أحدهما: ما علم أنه خير محض كسؤاله خشيته من اللَّه تعالى وطاعته وتقواه، وسؤاله الجنة، والاستعاذة به من النار، فهذا يطلب من اللَّه تعالى بغير تردد، ولا تعليق بالعلم بالمصلحة؛ لأنّه خير محض، ومصلحة خالصة؛ فلا وجه لتعليقه بشرط وهو معلوم الحصول، وكذلك لا يعلق لمشيئة اللَّه ﷿؛ لأنّ اللَّه يفعل ما يشاء ولا مُكْرِهَ له فلا فائدة في تعليقه بمشيئة؛ ولكن ليعزم المسألة، كما قال النبي ﷺ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ المَسْأَلَة، فَإِنَّ اللهَ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"، خرّجاه من حديث أنس وأبي هريرة بمعناه (٢).
_________
(١) أخرجه النسائي (١٣٠٥).
(٢) أخرجه البخاري (٦٣٣٨)، ومسلم (٢٦٧٨) من حديث أنس، والبخاري (٦٣٣٩، ٧٤٧٧)،
ومسلم (٢٦٧٩) من حديث أبي هريرة.
1 / 153
وفي رواية لمسلم (١): "وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ المَسْأَلَة ولِيعظمْ الرَّغبة؛ فإنَّ الله لاَ يَتعَاظَمهُ شيء".
وفي رواية للبخاري (٢): "إنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ وأنَّه يَفعَلُ مَا يَشاءُ ولاَ مكره له".
النوع الثاني: ما لا يعلم هل هو خير للعبد أم لا، كالموت والحياة، والغنى والفقر، والولد والأهل، وكسائر حوائج الدُّنْيَا التي تُجْهَل عواقبها، فهذه لا ينبغي أن يسأل الله منها إلا ما يعلم فيه الخيرة للعبد، فإن العبد جاهل بعواقب الأمور، وهو مع هذا عاجز عن تحصيل مصالحه ودفع مضاره، فيتعين عليه أن يسأل حوائجه من هو عالم قادر، ولهذا شرعت الاستخارة في الأمور الدنيوية كلها، وشرع أن يقول الداعي في استخارته: "اللَّهُمَّ أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ -ويسميه باسمه- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي ودُنْيَايَ" (٣).
وكذلك في هذا الدعاء يسأل الله بعلمه الغيب وقدرته عَلَى الخلق ما يعلم له فيه الخيرة من موت أو حياة.
وقد تضمن الدعاء الَّذِي في هذا الحديث النوعين معًا، فإنه لما سأل الموت والحياة قيد ذلك بما يعلم الله أن فيه الخيرة لعبده، ولما سأل الخشية وما بعدها مما هو خير صرف جزم به ولم يقيده بشيء.
في "الصحيحين" (٤) عن النبي ﷺ أنه قال: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا عَلِمت الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي".
_________
(١) برقم (٢٦٧٩).
(٢) برقم (٧٤٧٧).
(٣) أخرجه البخاري (٦٣٨٢) من حديث جابر.
(٤) أخرجه البخاري (٥٦٧١، ٦٣٥١، ٧٢٣٣)، ومسلم (٢٦٨).
1 / 154
وللبخاري (١): "لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ".
ولمسلم (٢): "لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إلَّا خَيْرًا". وزاد الإمام أحمد (٣) في رواية له: "إلا أن يكون وثق بعلمه" وله أيضًا (٤): "لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع، شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة".
ففي هذه الأحاديث التعليل للنهي عن تمني الموت بأن العبد إِنَّ كان محسنًا فحياته يرجى أن يزداد بها إحسانًا، وإن كان مسيئًا فإنه يرجو أن يستعتب، يعني: يزيل العتب عنه بالتوبة والإنابة قبل الموت، وقد جاءت الأحاديث عن النبي ﷺ بفضيلة طول العمر في الطاعة ففي الترمذي (٥): "أنه ﷺ سئل: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ». وسئل: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ».
وفي "المسند" (٦): "إِنَّ نفرًا ثلاثة أسلَمُوا، فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْثًا فَخَرَجَ فيه أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا آخَر فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمِ آخِرَهُمْ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ".
_________
(١) برقم (٧٢٣٥).
(٢) برقم (٢٦٨٢).
(٣) (٢/ ٣٥٠).
(٤) (٣/ ٣٣٢).
(٥) برقم (٢٣٣٠) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(٦) (١/ ١٦٣).
1 / 155
وفي رواية (١): «قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ".
قيل لبعض السلف: طاب الموت. قال: يا ابن أخي، لا تفعل. لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر.
وقيل لشيخ كبير منهم: أتحب الموت؟ قال: لا، قد ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، فَإِذَا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد الله، فأنا أَحَبّ أن يبقى لي هذا.
وقيل لشيخ آخر: ما بقي منك مما تحب له الحياة؟ قال: البكاء عَلَى الذنوب.
ولهذا كان كثير من السلف يبكي عند موته تأسفًا عَلَى انقطاع أعماله الصالحة.
وكان يزيد الرقاشي يقول عند موته يا يزيد من يصلي لك بعدك ومن يصوم؟ ومن يتوب لك من الذنوب السالفة.
ولهذا يتحسر الموتى عَلَى انقطاع أعمالهم الصالحة.
ففي الترمذي (٢) عن النبي ﷺ: «مَا أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا أَنْ يَكُونَ اسْتعتب».
ورئي بعض الموتى من السلف في المنام، فسُئل عن حاله فَقَالَ: قدمنا عَلَى أمر عظيم، نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في نسخة عملي أَحَبّ إلي من الدُّنْيَا وما فيها.
_________
(١) أخرجه ابن ماجه (٣٩٢٥)، وأحمد (١/ ١٦٢، ١٦٣) من طريق أبي سلمة عن طلحة بن عبد الله. قال البوصيري في "الزوائد": رجال إسناده ثقات، إلا أنه منقطع. قال علي بن المدينى وابن معين: أبو سلمة لم يسمع من طلحة شيئًا.
(٢) برقم (٢٤٠٣) من طريق يحيى بن عبيد قال: سمعتُ أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول ... فذكره. قال أبو عيسى: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله قد تكلّمَ فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب، مَدَني.
1 / 156
وصلى بعض السلف ركعتين خفيفتين بقرب من المقابر، ولم يرضهما لتخفيفهما، ثم غلبته عينه فرأى صاحب القبر الَّذِي هو بقربه يقول له: صليت ركعتين ولم ترضهما؟ قال: نعم. قال: لئن يكون لي مثل ركعتيك أَحَبّ إلي من الدُّنْيَا بحذافيرها.
وأما الرواية التي في "المسند" (١): "لَا يتمنين أحد الْمَوْت إِلَّا من وثق بِعَمَلِهِ" فيدل عَلَى أن من له عمل صالح يثق به فإن له أن يتمنى الموت.
وقد كان كثير من السلف يتمنى الموت، وهم أقسام:
منهم من يحمله حسن الظن باللَّه عَلَى حب لقائه، إما لا له عنده من كثرة الطاعات، أو لا عنده من محبة اللَّه ﷿ فيحسن ظنه به كما قال بعض السلف: لقد سئمتُ من الحياة، حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته، شوقًا إِلَى اللَّه وحبًّا للقائه، فقِيلَ لَهُ: أفعلى ثقة أنت من عملك؟ قال: لا، لكن
لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟!
وكان بعضهم ينشد في هذا المعنى:
وزادي قليل ما أراه مبلغي ... ألزاد أبكي أم لطول مسافتي؟
أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي فيك أين محبتي؟
ومنهم من يتمنى الموت شوقًا إِلَى لقاء الله ﷿، وسنذكر أخبارهم في الكلام عَلَى آخر الحديث إِنَّ شاء اللَّه تعالى.
وتمني الموت لمن يثق بعمله له أحوال:
تارة يتمنى الموت لضر نزل به، وهذا منهي عنه، وصاحبه إِنَّ لم يثق بعمله كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فإنه لا يدري لعله يهجم بعد الموت عَلَى ما هو أعظم وأشد مما هو فيه، فإن وثق بعمله فقد تمناه للضر بعض السلف.
_________
(١) (٢/ ٣٥٠) وسبق عزوه للمسند.
1 / 157
وتارة يتمناه خشية فتنة في الدين، فهذا جائز عند أكثر العُلَمَاء، وقد تمناه عمر بن الخطاب ﵁ في آخر حجة حجها فإنه قال: "اللهم إنه قد كبرت سني ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إلك غير مضيع ولا مفتون" (١). فقتل في ذلك الشهر.
وتمنت زينب بنت جحش ﵂ لما جاءها عطاء عمر فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها، فماتت قبل أن يدركها عطاء ثانٍ لعمر.
وسأل عمر بن عبد العزيز من ظن به إجابة الدعاء أن يدعو له بالموت، لما ثقلت عليه الرعية، وخشي العجز عن القيام بحقوقهم.
وطُلِبَ كثير من السلف الصالح إِلَى بعض الولايات؛ فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا، واشتهر بعضهم واطلع عَلَى بعض عمل أحدهم أو معاملته مع الله فدعا لنفسه بالموت فمات، وفي الحديث: "وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ" (٢).
وفي "المسند" (٣) عن محمود بن لبيد عن النبي ﷺ قال: "اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ".
وقال ابن مسعود وغيره: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له إِنَّ كان برًّا، فما عند الله خير للأبرار.
وإن كان فاجرًا، فإنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا.
_________
(١) أخرجه مالك في "الموطأ" (٢/ ٨٢٤)، وأبو نعيم في "الحلية" (١/ ٥٤).
(٢) أخرجه الترمذي (٣٢٣٣) من طريق أبي قلابة عن ابن عباس. قال أبو عيسى: وقد ذكروا بين أبي قلابة وابن عباس في هذا الحديث رجلًا، وقد رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس، وأحمد في "المسند" (٥/ ٢٤٣) من حديث معاذ بن جبل.
(٣) (٥/ ٤٢٧) قال الهيثمي في "المجمع" (٢/ ٣٢١): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
1 / 158
وتارة يتمناه من غير ضر ولا فتنة، فإن كان ممن وثق بعمله حبًّا لله وشوقًا إِلَى لقائه جاز، وسنذكره فيما بعد إِنَّ شاء الله تعالى.
وكذلك تمنيه عند حضور أسباب الشهادة اغتنامًا لها، كتمنيه عند حضور القتال فىِ سبيل الله أو الطاعون، وإن كان إحسانًا للظن به ففيه اختلاف بين السلف، وقد ورد تعليل النهي عن تمني الموت بأن هول المطلع شديد؛ فتمنيه من نوع تمني وقوع البلاء قبل نزوله ولا ينبغي ذلك كما قال ﷺ: "لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَلَكِنْ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا" (١).
وسمع ابن عمر رجلًا يتمنى الموت فَقَالَ: لا تتمنى الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية، فإن الميت ينكشف له عن هول عظيم (٢).
هو هول المطلع، ويرى عالمًا لا عهد له به، فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل ذلك.
وقد قال عمر عند موته: لو كان لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع (٣).
وجزع الحسن بن علي عند موته وقال: إني أريد أن أشرف عَلَى ما لم أشرف عليه قط.
وكان الحسن البصري يقول عند موته: نفيسة ضعيفة وأمر هول عظيم، فإنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون.
وجزع حبيب بن محمد عند موته وجعل يقول: إني أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قط، إنني أريد أن أسلك طريقًا ما سلكته قط. أريد أن أزور سيدي ومولاي وما رأيته قط، أريد أن أشرف عَلَى أهوال ما شاهدت مثلها قط.
_________
(١) أخرجه البخاري (٢٨٦٣)، ومسلم (١٧٤١).
(٢) أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" بهذا اللفظ رقم (٣٣٠).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٧/ ١٠٠)، والطبراني في "الأوسط" (٥٧٩)، وابن حبان (٦٨٩١ - إحسان)، والحاكم في "المستدرك" (٣/ ٩٠ علمية).
وقال الهيثمي في "المجمع" (٩/ ٧٦): ... وإسناده حسن.
1 / 159
وأيضًا فالموت نفسه أشد ما يلقاه الآدمي في الدُّنْيَا ولا يعلم الناس في الدُّنْيَا حقيقة شدته.
وقال بعض السلف: لو أن ميتًا نُشِرَ فأخبر أهل الدُّنْيَا بحقيقة الموت ما انتفعوا بعيش ولا استلذوا بنوم.
وإنما كان الموت خيرًا للعاصي؛ لأنّه كلما طال عمره زادت ذنوبه، فزاد عقابه. وهذا كما قال ابن مسعود: إِن كان مسيئًا فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ (١).
وكان بعض الصالحين يقول: قد سئمنا من الحياة لكثرة ما نقترف من الذنوب. هذا مع كثرة أعمالهم الصالحة فكيف يقول من عمره كله ضائع.
صفوة اللذة أثمرت لي كدري ... كم أبصرت ما يعطي بصري
ما لي زاد وقد تداني سفري ... وقد ضاع العمر فإنه يوالي عمري
ولقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته، فلما نزل به كَرِهَهُ لشدته، ومنهم: أبو الدرداء وسفيان الثوري، فما الظن بغيرهما.
وكان بعض الصالحين يتمنى الموت، فرأى في منامه قائلًا يقول له: أتتمنى الموت؟ قال: قد كان ذلك، فقطب وجهه ثم قال: لو عرفت الموت وكربه حتى يخالط قلبك معرفته، لطار نومك أيام حياتك، ولذهل عقلك حتى تمشي في الناس والهًا.
وكان إذا ذكر منامه هذا بكى وقال: طوبى لمن نفعه عيشه، فكان طول عمره زيادة في عمله، واللَّه ما أراني كذلك.
قال إبراهيم بن أدهم: إِنَّ للموت كأسًا لا يقوى على تجرعها إلا خائف وجل طائع كان يتوقاها.
_________
(١) آل عمران: ١٧٨.
1 / 160
ولأبي العتاهية:
ألا للموت كأس أي كأس ... وأنت لكأسه لابد حاسي
إِلَى كم والممات إِلَى قريب ... تذكر بالممات وأنت ناسي
وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يكون طول عمره زيادة في عمله، كما في "صحيح مسلم" (١) عن النبي ﷺ: "أنه كان يدعو: واجعل الحياة زيادة لي في كل خير".
قال بعضهم: من لا خير له في الموت لا خير له في الحياة.
يعني من لا تكون حياته زيادة في حسناته فلا خير له في الموت ولا في الحياة وقد رأى بعضهم النبي ﷺ في منامه فَقَالَ له: «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرًّا مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّدُ الزِّيَادَةِ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنْ كَانَ فِي نُقْصَانٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ» (٢).
وقال ميمون بن مهران: لا خير في الحياة إلا لتائب، أو لرجل يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بتوبته ما سلف من السيئات، والعامل في الدرجات تعلو درجاته بما يعمل من الحسنات، فهذا يزيد حسناته والأوّل يمحو سيئاته، فما عدا هذين الرجلين فلا خير لهما في الحياة.
ولهذا قال بقية: عمر المؤمن لا قيمة له [إلا أن] (٣) يتوب فيه من السيئات ويستدرك فيه ما مات.
_________
(١) برقم (٢٧٢٠).
(٢) أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير" (٩٨٧) عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت النبي ﷺ فى النوم ... فذكره.
والحديث ليس في نسخة الزهد المخطوطة وإنَّما هو مما استدركه المحقق من كتب أخرى ونسب فيها الحديث للبيهقي في "الزهد".
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (٨/ ٣٥) قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: بلغني أن الحسن البصري رأى النبي ﷺ في منامه ...
(٣) ليست بالأصل وهي أنسب للسياق.
1 / 161
رفع إِلَى بعض العابدين رقعة في منامه وإذا فيها مكتوب:
إن كنت لا ترتاب أنك ميت ... وليست لبعد الموت ها أنت تعمل
فعمرك ما يغني وأنت مفرط ... واسمك في الموتى معد محصل
ورأى آخر في منامه كأن قائلًا ينشده:
يا خدّ إنك إِن توسد لينا ... وسدت بعد الموت صم الجندل
فاعمل لنفسك في حياتك صالحًا ... فلتندمن غدًا إذا لم تفعل
قوله ﷺ: "أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى":
هذه الثلاث المنجيات التي رويت عن النبي ﷺ أنه قال: "ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات" فذكر المنجيات هذه الخصال الثلاث.
والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
وروي أن سليمان ﵇ قال: أوتينا مما أوتي الناس، ومما لم يؤتوا، وعلمنا مما علم الناس، ومما لم يعلموا، فلم نجد شيئًا أفضل من هذه الثلاث خصال.
وقال نافع بن سليمان: قال عيسى بن مريم ﵇: ثلاث من كن فيه بلغ ما بلغت: تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر.
فأما خشية اللَّه في الغيب والشهادة فالمعنى بها أن العبد يخشى اللَّه سرًّا وإعلانًا وظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن في خشيته الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس، وقد مدح الله من يخافه بالغيب، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ (١) وقال: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ (٣) وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (٤).
_________
(١) الأنبياء: ٤٩.
(٢) ق: ٣٣.
(٣) المائدة: ٩٤.
(٤) الملك:١٢.
1 / 162
وقد فسر الغيب في هذه الآيات بالدنيا لأنّ أهلها في غيب عما وعدوا به من أمر الآخرة، وأما في هذا الحديث فلا يتأتى ذلك، كما ترى لمقابلته بالشهادة.
كان بعض السلف يقول لإخوانه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه.
ومن هذا قول بعضهم: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه، إِنَّمَا الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه، ومن هنا عظم ثواب من أطاع الله سرًّا بينه وبينه، ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سرًّا.
فأما الأول: فمثل قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ إِلَى قوله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (١).
قال بعض السلف: أخفوا للَّه العمل فأخفى لهم الجزاء.
وفي حديث السبعة الَّذِي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنفِقُ يَمِينُهُ» (٢).
وفي الحديث: إِذا صلى العبد في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن، قال اللَّه: هذا عبدي حقًّا (٣).
وفي حديث آخر: "مَنْ أَحْسَنَ صَلَاتَهُ حِيثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حِيثُ لاَ يَرَاهَا فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ" (٤).
وأما الثاني: فمثل قوله ﷺ في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله "وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
_________
(١) السجدة: ١٦ - ١٧.
(٢) أخرجه البخاري (٦٢٩، ١٣٥٧، ٦١١٤)، ومسلم (١٠٣١).
(٣) أخرجه ابن ماجه (٤٢٥٣).
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (٣٧٣٨).
1 / 163
العَالَمِينَ" (١)، ومثل الحديث الَّذِي جاء فيمن أدى دينًا خفيًَا أنه يخير في أي الحور العين شاء.
والموجب لخشيته اللَّه في السر والعلانية أمور منها:
١ - قوة الإيمان بوعده ووعيده عَلَى المعاصي.
٢ - ومنها النظر في شدة بطشه وانتقامه، وقوته وقهره، وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته، كما قال الحسن: ابن آدم، هل لك طاقة بمحاربة اللَّه، فإن من عصاه فقد حاربه.
وقال بعضهم: عجبت من ضعيف يعصي قويًّا.
٣ - ومنها قوة المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب عَلَى قلوب عباده وأعمالهم وأنه مع عباده حيث كانوا، كما دل القرآن عَلَى ذلك في مواضع كقوله تعالى: ﴿هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ (٢) وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ﴾ الآية (٣) وقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ (٣) وقوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ (٤).
وكما في الحديث الَّذِي خرّجه الطبراني (٥): "أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان"، فيوجب ذلك الحياء منه في السر والعلانية.
قال بعضهم: خف اللَّه عَلَى قدر قدرته عليك واستحي منه عَلَى قدر قربه منك.
وقال بعضهم لمن استوصاه: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
_________
(١) سبق تخريجه في الصفحة السابقة برقم (٢).
(٢) المجادلة: ٧.
(٣) يونس: ٦١.
(٤) النساء: ١٠٨.
(٥) في "المعجم الصغير" (٥٥٥) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مطولًا، وقال الطبراني: لا يُروى هذا الحديث عن ابن معاوية إلا بهذا الإسناد، ولا نعرف لعبد الله بن معاوية الغاضري حديثًا مسندًا غير هذا.
1 / 164
يا مدمن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا
وفي حديث أبي ذر ﵁ عن النبي ﷺ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ: رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا؛ لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلِهِمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ رَجُلٌ (يَتَمَلَّقُنِي) (١) وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا العَدُوَّ، فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ» (٢).
فهؤلاء الثلاثة قد اجتمع لهم معاملة الله سرًّا يينهم وبينه، حيث غفل الناس عنهم، فهو تعالى يحب من يعامله سرًّا بينه وبينه، حيث لا يعامله حينئذ أحد، ولهذا فضل قيام وسط الليل عَلَى ما سواه من أوقات الليل، والمحبون لله يحبون ذلك أيضًا علمًا منهم باطلاعه عليهم ومشاهدته لهم، فهم يكتفون بذلك لأنهم عرفوه، فاكتفوا به من بين خلقه، وعاملوه فيما بينه وبينهم معاملة الشاهد غير الغائب، وهذا مقام الإحسان، قال بعض العارفين: من عرف الله اكتفى به من خلقه.
وكان بعض المخلصين يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي.
اطلع عَلَى بعض أحوال بعضهم، فدعى لنفسه بالموت وقال: إِنَّمَا كانت تطب الحياة إذا كانت المعاملة بينى وبينه سرّا.
وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!
_________
(١) يتملقني من "تملق" بالتحريك أي الزيادة في التودد والدعاء والتضرع فوق ما ينبغي. "النهاية" (٤/ ٣٥٨).
(٢) أخرجه الترمذي رقم (٢٥٦٧، ٢٥٦٨)، والنسائي (١٦١٤)، وأحمد (٥/ ١٥٣). قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وهكذا روى شيبان عن منصور نحو هذا، وهذا أصح من حديث أبي بكر ابن عياش.
1 / 165
آنستني خلواتي بك من كل أنيسي ... وتفردت فعاينتك في الغيب جليسي
"وأما كلمة الحق في الغضب والرضا":
فعزيز جدًّا، وقد مدح اللَّه منْ يغفر عند غضبه فَقَالَ: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ (١) لأنّ الغضب يحمل صاحبه عَلَى أن يقول غير الحق، ويفعل غير العدل، فمن كان لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، دل ذلك عَلَى شدة إيمانه وأنه يملك نفسه.
وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعًا: "ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِيمَانِ: مَنْ إِذَا غَضِبَ لاَ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي بَاطِلٍ، وَمَنْ إِذَا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضَاهُ مِنْ حَقٍّ، وَمَنْ إِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعَاطَى مَا لَيْسَ لَهُ".
فهذا هو الشديد حقًّا كما قال النبي ﷺ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (٢).
ولمسلم: "مَا تَعدّونَ ذَا الصُّرَعَةِ فِيكُمْ؟ قلنا: الَّذِي لاَ تصرعه الرِّجَال.
قال: لَيسَ كَذلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (٣) وقال رجل للنبي ﷺ: "أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبُ، فَردَّدَ مِرَارًا، قال: لاَ تَغْضَبُ" أخرجه البخاري (٤).
وفى "المسند" أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما يباعدني عن غضب اللَّه؟ قال: لا تغضب" (٥).
قال مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئًا إلا ندمت عليه فىِ الرضا.
_________
(١) الشورى: ٣٧.
(٢) أخرجه البخاري (٥٧٦٣)، ومسلم (٢٦٠٩).
(٣) برقم (٢٦٠٨).
(٤) برقم (٥٧٦٥).
(٥) أخرجه الأمام أحمد في "المسند" (٢/ ١٧٥).
1 / 166
قال عطاء: ما أبكى العُلَمَاء بكاء آخر العمر إلا من غضبة يغضبها أحدهم، فتهدم عمل عشرين سنة أو ستين سنة، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله.
كان الشعبي ينشد:
ليست الأحلام في حال الرضا ... إِنَّمَا الأحلام في حال الغضب
وكان ابن عون رحمه الله تعالى إذا اشتد غضبه عَلَى أحد قال: بارك الله فيك ولم يزد.
وقال الفضيل رحمه الله تعالى: أنا منذ خمسين سنة أطلب صديقًا إذا غضب لا يكذب عَلَيَّ ما أجده.
فإن من لا يملك نفسه عند الغضب إذا غضب قال فيمن غضب عليه ما ليس فيه من العظائم، وهو يعلم أنه كاذب، وربما علم الناس بذلك ويحمله حقده وهوى نفسه عَلَى الإصرار عَلَى ذلك.
وقال جعفر بن محمد ﵁: الغضب مفتاح كل شر.
وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة. قال: ترك الغضب.
وقال مالك بن دينار رحمه اللَّه تعالى: منذ عرفت الناس لم أبال بمدحهم وذمهم لأني لم أر إلا مادحًا غاليًا، أو ذامًّا غاليًا.
يعني أنه لم ير من يقتصد فيما يقول في رضاه وغضبه.
"وأما القصد في الفقر والغنى":
فهو عزيز أيضًا، وهو حال الرسول ﷺ، كان مقتصدًا في حال فقره وغناه.
والقصد: هو التوسط في الإنفاق، فإن كان فقيرًا لم يقتر خوفًا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك
1 / 167
في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ (١).
وإن كان غنيًا لم يحمله غناه عَلَى السرف والطغيان؛ بل يكون مقتصدًا أيضًا، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (٢).
وإن كان المؤمن في حال غناه يزيد عَلَى نفقته في حال فقره، كما قال بعض السلف: إِنَّ المؤمن يأخذ عن الله أدبًا حسنًا، إذا وسع الله عليه، وسع عَلَى نفسه، وإذا ضيق عليه، ضيق عَلَى نفسه، ثم تلا قوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ (٣) لكن يكون في حال غناه مقتصدًا غير مسرف، كما يفعله أكثر أهل الغنى الذين يخرجهم الغنى إِلَى الطغيان، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (٤).
كان علي ﵁ يعاتب عَلَى اقتصاده في لباسه في خلافته فيقول: هو أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم (٥).
وعوتب عمر بن عبد العزيز في خلافته عَلَى تضييقه عَلَى نفسه فَقَالَ: إِنَّ أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.
يعني أفضل ما اقتصد الإنسان في عيشه وهو واجد قادر، وهذه حال النبي ﷺ وخلفائه الراشدين، لم تغيرهم سعة الدُّنْيَا والملك ولم يتنعموا في الدُّنْيَا.
وقد روي عن سليمان ﵇، أنه كان يأكل خبز الشعير ويلبس الصوف.
وسئل الحسن ﵁ عن رجل آتاه الله مالًا، فهو يحج منه ويتصدق، أله أن يتنعم فيه منه؟ قال: لا، لو كانت له الدُّنْيَا ما كان له إلا الكفاف.
_________
(١) الإسراء: ٢٩.
(٢) الفرقان: ٦٧.
(٣) الطلاق: ٧.
(٤) العلق: ٦ - ٧.
(٥) أخرجه الضياء في "المختارة" (٢/ ٢١) برقم (٤٥٩، ٤٦٠) وقال: إسناده حسن.
1 / 168
ويقدم فضل ذلك ليوم فقره وفاقته، إِنَّمَا كان أصحاب رسول الله ﷺ ومن أخذ عنهم من التابعين، ما آتاهم الله من رزق أخذوا منه ﷺ الكفاف، وقدموا فضل ذلك ليوم فقرهم وفاقتهم.
وقال ابن عمر لبعض ولده: لا تكن من الذين يجعلون ما أنعم الله عليهم به في بطونهم وعلى ظهورهم (١).
إشارة إِلَى أن المال لا ينفق كله في شهوات النفوس، وإن كانت مباحة، بل يجعل صاحبه منه نصيبًا لداره الباقية، فإنه لاقى له منه غير ذلك.
وفي الجملة فالاقتصاد في كل الأمور حسن حتى في العبادة، ولهذا نهى عن التشديد في العبادة عَلَى النفس، وأمر بالاقتصاد فيها، وقال ﷺ: «عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» (٢).
وفي "مسند البزار" (٣) عن حذيفة عن النبي ﷺ قال: «مَا أَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ».
قوله ﷺ: "وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ".
النعيم الَّذِي لا ينفد هو نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ
_________
(١) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (١/ ٢٦٠) من طريق جعفر بن برقان عن ميمون بن جرير أو ابن أبي جرير أن ابن عمر أتاه ابن له، فَقَالَ: تخرق ازاري. فَقَالَ: اقطعه وانكسه، وإياك أن تكون من الذين ... الأثر.
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (١/ ٣٥٥)، وهناد في "الزهد" (٢/ ٣٦٨)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (١/ ١٩٣) من طريق جعفر بن برقان عن رجل عن ابن عمر.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٧/ ٢٣٥)، وأبو نعيم في "الحلية" (١/ ٣٠١) من طريق جعفر بن برقان قال: حدثني ميمون بن مهران قال: بلغني أن رجلًا من بني ابن عمر.
وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (٧/ ٣٤٣): قال ميمون بن أبي جرير أن ابن عمر قال: فذكره. قال البخاري: قاله كثير عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمونًا.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٤٢٤١)، وأبو يعلى في "مسنده" (١٧٩٦، ١٧٩٧).
(٣) كما في "كشف الأستار" (٣٦٠٤).
1 / 169
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (١) وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ (٢) وقال تعالى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ الآية (٣).
وفي الدعاء عن النبي ﷺ: "أسألك الدرجات العلى والنعيم المقيم" (٤).
وسمع النبي ﷺ ابن مسعود ليلة وهو يقول: أسألك إيمانًا لا يرتد ونعيمًا لا
ينفد، ومرافقة نبيك مُحَمَّدًا ﷺ في أعلى جنة الخلد. فَقَالَ: "سَلْ تُعْطَه" (٥).
ولما سمع عثمان بن مظعون لبيدًا ينشد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال: صدقت.
فَقَالَ لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
فَقَالَ: كذبت، نعيم الجنة لا ينفد.
فنعيم الجنة مقيم، كما قال الله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ (٦).
وأما نعيم الدُّنْيَا فهو نافد، كما أن الدنْيا كلها نافدة، فلو نعم الإنسان فيها ما نعم، فإن ذلك ينفد، وكأنه حين ينزل به الموت وسكراته لم يذق نعيمًا من
_________
(١) النحل: ٩٦.
(٢) ص: ٥٤.
(٣) الرعد: ٣٥.
(٤) أخرجه أحمد (٣/ ٧٢٤)، والبزار في "مسنده" (٣٧٢٤)، والحاكم في "المستدرك" (٣/ ٢٦) مطولًا.
قال الهيثمي في "المجمع" (٦/ ١٢٢): رواه أحمد والبزار، واقتصر عَلَى عبيد بن رفاعة، وهو الصحيح.
(٥) أخرجه ابن حبان (١٩٧٠)، والحاكم (١/ ٧٠٧)، وأخرجه الترمذي (٥٩٣) مختصرًا وقال: حديث عبد الله بن مسعود حديث حسن صحيح. وقال أيضًا: هذا الحديث رواه أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم مختصرًا.
(٦) التوبة: ٢١.
1 / 170
نعيم الدُّنْيَا قط، كما قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ (١).
وقال بعض السلف: إذا جاء الموت لم يغن عن الإنسان ما كان فيه من النعيم واللذة، ثم تلا هذه الآية.
وكان الرشيد قد بنى قصرًا فلما فرغ منه نجده وفرشه، واستدعى إِلَيْهِ أنواع الأطعمة والأشربة، وجلس مع ندمائه استدعى إِلَيْهِ أبا العتاهية، فأمره أن يصف ما هم فيه من النعيم والعيش، فَقَالَ أبو العتاهية:
عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا ... فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ
يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتُ ... لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ
فَإِذَا النُّفُوسُ (تَقَعْقَعَتْ) (٢) ... فِي ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا ... مَا كُنْتَ إِلا فِي غُرُورِ
فبكى واشتد بكاؤه، فَقَالَ الوزير لأبي العتاهية: دعاك أمير المؤمنين للمسرة فأحزنته! فَقَالَ: دعه فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمًى.
قال مالك بن دينار: رأيت بالبحرين قصرًا مشيدًا طريًا وعلى بابه مكتوب:
طلبت العيش أسعد ناعميه ... وعشت من المعايش في النعيم
فلم ألبث ورب الناس طرًّا ... سلبت من الأقارب والحميم
فقلت: ما هذا القصر؟ قالوا: هذا أنعم أهل البحرين، مات فأوصى أن يدفن في قصره، وأن يكتب عَلَى بابه هذا الكلام.
قال مالك: فعجبت من معرفته، فهلا يستقبل الموت بتوبة، ثم بكى مالك.
إذا غمس أنعم الناس كان في الدُّنْيَا في العذاب غمسة. قِيلَ لَهُ: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب.
_________
(١) الشعراء: ٢٠٥.
(٢) تقعقعت: اضطربت. "لسان العرب" (٨/ ٢٨٦).
1 / 171