106

شرح فتح المجيد للغنيمان

شرح فتح المجيد للغنيمان

Жанры

معنى كون عيسى ﵇ كلمة الله [قوله ﷺ: (وكلمته) إنما سمى عيسى ﵇ كلمة لوجوده بقوله تعالى: (كن) كما قاله السلف من المفسرين. قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية: (بالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: (كن) فكان عيسى بـ (كن)، وليس عيسى هو (كن)، ولكن بـ (كن) كان، فـ (كن) من الله تعالى قول، وليس (كن) مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى. انتهى]. معنى هذا الكلام من الإمام أحمد ﵀ أنَّ هؤلاء شبهوا وقالوا: إن كلام الله مخلوق، وذلك أنه سبحانه أخبر أن عيسى كلمة الله، ومن المعلوم لدى كل الخلق أن عيسى مخلوق مولود من أنثى، ما عدا الضالين من النصارى، فهم الذين خالفوا في هذا وقالوا: إنه الله، وابن الله، وثالث ثلاثة. ولكن هذه ليست من عقائد المسلمين، بل هي منافية تمام المنافاة لعقائد المسلمين. وأما هؤلاء الذين يخاصمون الإمام أحمد من المسلمين فهم يقولون: إن الله لا يتكلم. وهذا تعطيل لله جل وعلا عن صفة الكلام، وجادلوه في هذا واحتجوا عليه بهذه الآية، أي أن عيسى كلمة من الله ألقاها إلى مريم، فقالوا: إذًا الكلام يطلق على المخلوق فمعنى هذا أن كلام الله مخلوق من الله، وإذا قلنا: إن الله يتكلم فمعنى ذلك أنه يخلق الكلام في مكان ما، فيكون هذا هو المعنى الذي يضاف إلى الله جل وعلا للكلام. وهذا من الضلال والانحراف، بل هو بين وواضح أنه ضلال وانحراف عن الحق، وذلك أن الكلام صفة كمال، والذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ولهذا عاب الله جل وعلا على عباد الأصنام كونهم يعبدون من لا يتكلم ولا يرد لهم قولًا ولا يجيبهم؛ لأن هذا نقص، وكذلك رسالة الله جل وعلا هي كلامه الذي يسمعه الملك ويأتي به إلى الرسول البشري، ثم يبلغه الرسول البشري أمته، فالذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الشرع وينكر الرسالات، ولكن إذا شبه مشبه بشيء مما في كتاب الله أو في أحاديث رسوله ﷺ وجب كشف ذلك وإيضاحه لئلا تقع الشبهة في قلب أحد من المسلمين الذين لا يعرفون الأدلة. فبين الإمام أحمد أن معنى كون عيسى كلمة الله أنه مخلوق بكلمة الله، وهذا ليس خاصًا بعيسى، بل كل شيء يريده الله جل وعلا ويريد إيجاده وخلقه يقول له: (كن) فيكون، كما أراد الله جل وعلا من سائر المخلوقات، ولم يباشر الرب جل وعلا شيئًا من المخلوقات بيده إلا ما استثني من كونه خلق آدم بيديه، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة لموسى ﵇، والتوراة ليست مخلوقة؛ لأنها كلام الله كسائر كتبه، ولكن هذا للتشريف، فهو خصوصية خص بها آدم حيث خلقه بيده كما أخبر جل وعلا في أماكن من القرآن الكريم، وكذلك جنة عدن إكرامًا لأوليائه وتخصيصًا للجنة بذلك، أما سائر المخلوقات فهو يقول لها: (كوني) فتكون كما أراد الله جل وعلا. والله جل وعلا يتعالى ويتقدس، فلا تقاس أفعاله وتصرفاته بأفعال خلقه، فهو الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع على قدرته شيء، فعيسى ﵇ كسائر الأرواح التي إذا أراد وجودها لمجرد إرادته يقول لها: (كوني) فتكون، ولا يمكن أن توجد ذرة من الذرات التي تكون في السماء أو في الأرض إلا بإرادة الله جل وعلا، وسائر المخلوقات هكذا. فيكون عيسى معنى كونه كلمة أنه كون بالكلمة التي هي (كن)، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما قيل: إنه كلمة الله لأنه وجد من أنثى بلا ذكر، وهذا خارج عما سن الله جل وعلا في الخلق من كون كل مخلوق لابد أن يكون من ذكر وأنثى، فلما خرج عن ذلك جعل بهذه الصفة بأنه (كلمة الله)، أي أنه يُكوَّن بلا أب بكلمة الله، ولا ينافي ذلك أن سائر المخلوقات تكون بكلمة الله؛ لأنها تولدت بين ذكر وأنثى، فأصبح الأمر لدى الخلق كلهم معلومًا وليس غريبًا لديهم بخلاف هذا، ولهذا أضافه الله جل وعلا إليه؛ لأنه كلمته تكون بهذه الكلمة، ولهذا قال له: (كن) فكان. وأما كلام الله فهو معنوي صفة من صفاته، وكل شيء يضاف إلى الله جل وعلا يكون على قسمين: فإن كان المضاف إليه عينًا قائمة بنفسها، كناقة الله، وبيت الله، ورسول الله، وعبد الله، وما أشبه ذلك فهذا إضافته تكون إضافة مخلوق إلى خالقه، وقد تكون الإضافة هذه للتشريف، وهو لا يخرج عن ذلك، أي: لا يخرج عن كونه إضافة مخلوق إلى خالقه كناقة الله ورسول الله وبيت الله، فأضيف إلى الله تشريفًا، ولا يخرج بقية الأشياء هذه الإضافة، فما تخرج بقية الأشياء عن كونها مخلوقة لله، ولكنها ليست لها هذه المعاني التي وضعها الله جل وعلا فيها، فالرسول يأتي بحياة روحية من عند الله جل وعلا، فهو يدعو إلى عبادة الله ويبصر بذلك ويدل على الله، فلهذا أضيف إلى الله، وبيت الله لأنه مثابة للناس وأمنًا يثبون إليه لأداء العبادة، ويطوفون به تعبدًا لله جل وعلا، فأضيف إلى الله لأنه محل عبادته، وأما ناقة الله فلأنها آية دالة على الله جل وعلا، وهي خاصة -هذه الإضافة- بناقة صالح، وإلا فالنوق كلها نوق الله، ولكن ما أضيفت إلى الله كإضافة هذه التي أصبحت آية باهرة دالة على قدرة الله جل وعلا وعلى عظيم قدرته وسلطانه وأنه لا يعجزه شيء. أما القسم الثاني من المضاف إلى الله فهو أن يكون المضاف معنى، كعلم الله، وسمع الله، وقدرة الله، وكلام الله، وما أشبه ذلك، فهذا إضافته إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، والصفة تقوم بالموصوف ولا يجوز أن تفارقه، فكلام الله وصفه، وكذلك علمه وسمعه وبصره، أما الأمور التي تكون خارجة عن الإضافة فلا إشكال فيها، فهي ظاهرة وواضحة، فيتبين بهذا أن كون عيسى أضيف إلى الله بأنه كلمته يكون لشيئين: أحدهما: أنه أوجد بالكلمة. والثاني: أنه آية من آيات الله أضيف إلى الله تشريفًا وإكرامًا له. [وقوله ﷺ: (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير ﵀: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ﵇ إلى مريم ﵍، فنفخ فيها من روحه بأمر ربه ﷿ فكان عيسى بإذن الله ﷿، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له: (كن) فكان، والروح التي أرسل بها هو جبريل ﵇]. يقول الله جل وعلا: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم:١٧ - ١٩]. فالله جل وعلا أرسل إليها جبريل فتمثل لها بشرًا؛ لأن الملك بصورته التي خلقه الله جل وعلا عليها ما يستطيع الإنسان البشر أن يراه أو يقابله، فهو صورة عظيمة جدًا، ولهذا الرسول ﷺ لما رآه على صورته فزع وخاف، وقد رآه مرتين فقط على صورته: مرة في الأرض قبل أن يوحى إليه بالتكليف بالرسالة عندما جاء بنبوته، وقد كان في مكة خاليًا ببعض الأودية، فسمع مناديا ينادي: يا محمد! فالتفت يمينًا وشمالًا فلم ير شيئًا، ثم سمع المنادي فالتفت فلم ير شيئًا، ثم رفع رأسه فإذا هو قد سد الأفق -أي: سد السماء من جميع الجهات بين السماء والأرض- وله أكثر من ستمائة جناح. والمرة الأخرى رآه في السماء السابعة عندما عرج به ﷺ إلى سدرة المنتهى، وقد ذكر هذا ربنا جل وعلا في سورة النجم، فذكر أنه رآه مرتين، وسائر المرات التي كان يأتيه فيها في بعضها كان يتمثل له بشرًا، كما جاء في الصحيحين عن عائشة ﵂: أنها سألته: من هذا الذي رأيته معك؟ فقال: (أورأيتيه؟ قالت: نعم. قال: فذاك جبريل)، وكانت تقول: ظننت أنه دحية الكلبي، وذلك أن دحية الكلبي كان رجلًا جميلًا من أجمل الناس، فكان جبريل يأتي أحيانًا بصورته. كذلك الحديث الذي في الصحيحين، وهو في صحيح مسلم من حديث عمر، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنهم كانوا جلوسًا عند النبي ﷺ فطلع عليهم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منهم أحد، فجلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ إلى آخره وفي آخر الحديث قال ﷺ: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم). فهو يأتي متمثلًا بصورة بشر حتى يمكن أن يخاطب من أرسل إليه، أما الرسل فالوحي يأتيهم أحيانًا على هذه الصورة، وأحيانًا بصورة أخرى لا يرى منها جبريل، وإنما يلقي الكلام إلقاءً ثقيلًا، وقد كان الرسول ﷺ إذا جاءه الوحي يتغشاه شيء يثقل عليه، حتى إنه يرى العرق يتصبب منه في اليوم الشاتي صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود أن الله جل وعلا أرسل جبريل إلى مريم يخبرها بأن الله جل وعلا أراد أن يخلق منها ولدًا بغير أب فتعجبت من ذلك، فأخبرها أن قدرة الله جل وعلا ليس فيها عجب، ثم إنه نفخ في درعها -أي: في جيب درعها-، وهذا هو الروح، نفخ جبريل فانحدرت النفخة ودخلت في فرجها، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم:١٢] أي أن جبريل ﵇ نفخ في جيب درعها وذهبت النفخة فدخلت في فرجها، فحملت بعيسى ﵇، فلما جاءها المخاض علمت أن الناس لا يصدقونها، فتمنت أنها كانت نسيًا منسيًا وأنه ما حدث لها هذا الشيء؛ لأن هذا شيء خلاف العادة التي يتعارفون عليها، ولكن الله جل وعلا جعله آية، ولهذا ضل فيه النصارى عن الحق، وإن كان منهم طائفة علموا هذا وآمنوا به الذين هم أتباع عيسى على الحقيقة، ولكن اليوم النصارى كلهم ضالون، وإذا ماتوا على ذلك فهم في جنهم بلا شك، وذلك أن دين عيسى ﵇ قد نسخ بالشرع الذي جاء به رسول الله ﷺ، وأن عيسى ﵇ جاء مبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فجاء أحمد صلوات الله وسلامه عليه ناسخًا لجميع الأديان، وأخبر أنه لو كان موسى ﵇ حيًا ما و

11 / 4