قال أرسطاطاليس : « وليس يكتفى فى أن يعلم الشىء بالبرهان أن تكون المقدمات التى تتبن بها صوادق فقط وغير أوساط ؛ فإن بروسن لما أن رام أن يربع الدائرة اقتضب فى برهانه على ذلك مقدمة عامية مشتركة تستعمل فى أمور كثيرة غير خاصية ولا مناسبة لطبيعة واحدة . ولذلك لم يكن بيانه برهانيا ، لكن غير برهان . [ 76 a]* وإلا فما كان يمكن أن ينقل فيستبين به أمر آخر . » إنما لم يكن يكتفى فى شروط مقدمات البراهين أن تكون صوادق وغير مبينة بحد أوسط ، أى أوائل من قبل أن المقصود بالبرهان إنما هو أن يعلم الشىء بالأشياء التى بها وجوده ، إذ كان هذا العلم الموافق لعمل الطبيعة والمطابق [٤٨ ب ] لها ، كما أن العلم الصناعى هو العلم الموافق لعمل الصناعة . والمقدمة التى استعملها بروسن هى المقدمة القائلة إن الأشياء التى هى أكبر من شىء واحد بعينه وأصغر من شيء واحد بعينه هى متساوية . وهذه المقدمة كثيرا ما يستعملها المهندسون ، وهى صادقة ، لكنها ليست خاصية بالأعظام ؛ ولا الأكبر والأصغر فى الأعظام المستقيمة والمستديرة مقول بمعنى واحد ، أعنى أنه ليس يقال أن دائرة أعظم من سطح مستقيم الأضلاع ، بالمعنى الذى به يقال إن سطحا أعظم من سطح ؛ بل لا مناسبة فى الحقيقة بين الخط المستقيم ، والمستدير . وكثيرا ما يستعمل المهندسون هذه المقدمة ، مثل تبيينهم أن مساحة الدائرة تقوم من ضرب نصف القطر فى نصف المحيط : بأن يبين أن الشىء الذى بهذه الصفة هو أصغر من كل سطح يعمل خارج الدائرة وأعظم من كل سطح يعمل داخل الدائرة . فإذن السطح الذى يقوم من ضرب نصف القطر فى نصف المحيط هو مساو للدائرة إذ كان هو والدائرة أصغر من شىء واحد بعينه ، وهو كل سطح يعمل خارج الدائرة ، واعظم من شئ واحد بعينه وهو كل سطح يعمل داخل الدائرة . وقوله : « وإلا فما كان يمكن أن ينقل ليبين به أمر آخر » - يقول : لو كانت هذه المقدمة الكلية المأخوذة هاهنا مناسبة ، لما أمكن أن تنقل . قال أرسطاطاليس : « وأن يعلم الشىء علما محققا لا بطريق العرض هو أن يعلم من مبادئه التى تخصه ومن الأشياء التى انبنت منها ذاته . فإن من رام أن يقع له العلم بأن زوايا المثلث تعادل قائمتين على سبيل البرهان ، فلا سبيل إلى أن يقع له العلم بذلك إلا من الأشياء الذاتية والخاصة للمثلث . » التفسير لما كان العلم المحقق إنما هو أن يعمل الشىء لا بطريق العرض ، أى بما يعرض له ، وسواء كان ما يعرض له . دائما أو غير دائم ، وجب أن يكون العلم المحقق إنما هو بأن يعلم من مبادئه التى تخصه ، أى من أسبابه ، وبالجملة : من الأشياء التى تقومت منها طبيعة الشىء ، وهى الأسباب الموجودة فى الشىء ، أعنى مادته الخاصة وصورته الخاصة . فقوله : « ومن الأشياء التى انبنت منها ذاته » - يعنى من الأسباب التى فى الشىء ، وهى التى منها تقومت ذات الشىء . وقوله : « من مبادئه التى تخصه » - يحتمل أن يريد به جميع أسباب الشىء الأربعة ، أعنى الخارجة والداخلة . ولذلك أردف ذلك بالأسباب الداخلة ، إذ كانت من التى فيها تلتئم البراهين على الأكثر . وباقى كلامه [٤٩ أ] فى هذا الفصل مفهوم بنفسه . وإذا تؤمل هذا الشرط ، أعنى ألا يشوب البرهان شىء مما بالعرض : لا قريب ولا بعيد - ظهر أنه ليس يمكن أن تأتلف البراهين إلا من الأمور الذاتية الخاصة . قال أرسطاطاليس : « وإذا كان البرهان إنما يكون من الأشياء الذاتية والخاصة ، فيجب أن يكون الحد الأوسط من الطبيعة نفسها ، أو من الطبيعة التى هى أعلى بأن لم يكن الوسط من الطبيعة نفسها ، لكن من الطبيعة التى هى أعلى منها ، بمنزلة الوسط التى تبين بها المطالب الموسيقية وهى من علم الأعداد . فإن كلا البرهانين : الأعلى والأسفل يجريان مجرى واحد ، ويختلفان من قبل أن الذى تحت يبين أن الشىء ، وإما الذى هو فوق فيبين « لم هو » . وذلك أن الوسط هو فيه علة قريبة . فقد بان وظهر على جميعها أنه غير . ممكن أن يبرهن على أمر من الأمور على الاطلاق إلا من الأمور الذاتية والمبادئ التى تخص ذلك الأمر . » التفسير قوله : « فيجب أن يكون الحد الأوسط من الطبيعة نفسها » - يعنى : من جنس الصناعة أى موضوعها الذى فيه تنظر . وقوله : « أو من الطبيعة التى هى أعلى منها » - يعني طبيعة موضوع الصناعة التى تتنزل منزلة الجنس لموضوع الصناعة التى هى أخص منها . وينبغي أن تعلم أنه ليس يكون موضوع صناعة جنسا لموضوع صناعة أخرى إلا بأن تكون الصناعة الأعلى تنظر فى شىء ما مطلقا وتنظر فيه صناعة أخرى بتقييد ، مثل صناعة العدد والموسيقى : فإن صناعة العدد تنظر فى النسبة مطلقا ، وصناعة الموسيقى تنظر فى النسبة الصوتية العددية . وهذه هى التى يسميها أرسطو الصنائع التى تنظر فى الشىء من جهة النقصان والزيادة . وذلك أن الصناعة التى تتنزل منزلة الجنس تنظر فى الشىء من جهة النقصان ، مثل صناعة الهندسة فأنها تنظر فى العظم من جهة ما تنقصه الهيولى وصناعة العلم الطبيعى تنظر فيه من جهة الزيادة ، أى من جهة زيادة المادة عليه . وهذه الصنائع بالجملة تعطى الأعلى منها السبب فى الشىء الواحد بعينه ، أعنى السبب القريب كما قال ، وتعطى السفلى الوجود ، مثال ذلك أن صناعة الموسيقى توقف على النغم المتفقة ، أعنى على وجودها ، ثم تعطى السبب فيها من قبل صناعه العدد . فإن صاحب صناعة الموسيقى إذا قيل له : لم صار هذا التأليف موافقا ؟ قال : لأنه على نسبة الضعف ، أو الزائد ربعا أو ثلثا . وهذه النسب قد تبين وجودها فى العدد . فلما كانت الطبيعة التى ينظر فيها صاحب الموسيقى مؤلفة من الجنس ، أعنى من طبيعة العدد ومن النغم ، عرض فى هذه الصناعة أن يكون الحد الأوسط من [٤٩ ب ] الجنس الذى هو أعلى . وأما الصنائع المتباينة بالموضوع ، فليس يمكن أن تشترك فى الحد الأوسط . وكذلك الصنائع التى تنظر فى الشىء الواحد من جهتين مختلفتين . وذلك أن موضوعات الصنائع لا تخلو من هذه الثلاثة الأوجه ، أعنى أن تتباين بالموضوع ، أو تختلف بالجهة وتشترك بالموضوع ، أو تنظر احداهما فى الشىء من جهة النقصان ، والأخرى من جهة الزيادة . وأما الصنائع الداخلة تحت جنس من الأجناس ، والنظر فيها وفى ذلك الجنس من جهة واحدة فإنهما صناعتان جزئيتان تحت صناعة واحدة ، مثل الصناعة الناظرة فى الأجسام المستقيمة الأبعاد ، والناظرة فى الأجسام المستديرة : فإنهما صناعتان جزئيتان تحت صناعة واحدة وهى الهندسة ، وليستا صناعتين مختلفتين . وقوله : « فإن كلا البرهانين يجريان مجرى واحد » - أي يتعاونان على تبيين شىء واحد بعينه ، فتعطى الصناعة السفلى وجوده ، وتعطى العليا سبب وجوده القريب . وهو الذى أراد بقوله : « ويختلفان من قبل أن الذى تحت يبين « أن » الشىء ، وأما الذى فوق فيبين « لم هو » » - يريد : وتختلف الصناعتان من قبل أن الصناعة التى من تحت الأخرى تبين فى ذلك الشىء بعينه « أن » هو ، وأما الصناعة التى فوقها فتبين فى ذلك الشىء بعينه « لم هو » . ولما كان قد يمكن أن يتوهم متوهم أن الصناعة التى تجرى مجرى الجنس من الأخرى إنما تعطي فى الشىء تحتها ما يجرى مجرى السبب البعيد . وذلك أن أسباب الجنس إذا نسبت إلى النوع كانت أسبابا بعيدة . قال : « وذلك أن الوسط فيه هى علة قريبة » - يريد : وذلك أن الوسط الذى تعطيه الصناعة العالية فى الصناعة التى تحتها - هو علة قريبة للشىء الذى تنظر فيه الصناعة التى يحتها . والسبب فى ذلك أن موضوع الصناعة العامة لهذا الوجه الذى فسرناه قبل من العموم ، وهو وجه الزيادة والنقصان ، يتنزل من موضوع الصناعة الخاصة منزلة الصورة الخاصة من الشىء ذى الصورة ، أعنى من المادة ، ولذلك كان فيها سببا قريبا . وإنما كان يلزم الشك المتقدمة لو كانت الصناعة العامة جنسا حقيقيا للصناعة الخاصة . قال أرسطاطاليس : « والصناعة العامة قد تتكلف بيان سائر المبادئ . وإذا كان هذا هكذا ، فبين ظاهر أنه غير ممكن أن يبين صاحب صناعة صناعة مبادئ صناعته الخاصة به ، من قبل أنه إن شرع فى أن يبين مبادئه فى الأشياء التى بها تبين مبادؤه أحق بأن تكون مبادئ من تلك ، وبها يعلم ما يعلم على طريق التحقيق . [٥٠ أ] فإن رأى أن يعلم الشىء علما محققا فإنما يعلمه من المبادئ والأسباب العامة ، ومن الأشياء المتقدمة بالطبع من علل وأسباب لا تكون معلولات ومسببات . والعلم بهذه يكون أتقن وأحكم من العلم بتلك . » التفسير قوله : « والصناعة العامة فقد تتكلف بيان سائر المبادئ » - يعنى بالصناعة العامة : الفلسفة الأولى ، وهى الناظرة فى الموجود بما هو موجود . وذلك أن هذه الصناعة لما كان نطرها فى الموجود بما هو موجود ، وفى أنواع الموجود ، وكانت موضوعات الصنائع من أنواع الموجود - فإذن هذه الصناعة هى التى تتكفل بإعطاء أسباب موضوعات الصنائع كلها ، أعنى من حيث هى أحد الموجودات ، لا من حيث هى موضوعات الصنائع ، أعنى إذا أخذت بالجهة التى تنظر فيها الصنائع . مثال ذلك أن صاحب الفلسفة الأولى هو الذى يصحح ويعطى الجهة التى هو بها العدد موجود ، أعنى الجهة التى هو بها ذلك الموضوع موجود خارج النفس ، لا الجهة التى هو بها موضوع لتلك الصناعة . وإذا كان جنس موضوعات الصنائع إنما هو الموجود ، فظاهر أن الذى يعطى أسبابها من حيث هى موجودة فقط هو الناظر فى الموجود المطلق ، وهو صاحب صناعة الفلسفة الأولى . وإذا كان ذلك كذلك ، فواجب ألا تعطى صناعة من الصنائع أسباب موضوعاتها التى هى بها أحد أنواع الموجودات ، إذ كان صاحب الفلسفة الأولى هو الذى يعطى هذه . وهذه الأسباب فى الحقيقة هى أسباب جنس موضوع الصناعة ، لا الأسباب الخاصة بموضوع الصناعة . وإن كان الأمر كذلك ، فكيف ألزم - عن كون الصناعة العامة ناظرة فى بيان مبادئ سائر الصنائع - أن تكون الصنائع لا تنظر فى مبادئها ؟ ! لأن لقائل أن يقول إن مبادئ موضوعات الصنائع الخاصة إنما هى مبادئ خاصة لها ، إذا أخذت بالجهة التى بها تنظر فى الموضوع تلك الصناعة . وإذا كان ذلك كذلك ، فالنظر- فى تلك المبادئ ذاتى لصاحب الصناعة . وعلى هذا نجد الأمر فى العلم الطبيعى ينظر فى المادة ، وفى المحرك الأول ، من جهة ما هما أسباب للحركة ، لا من حيث هما أحد أنواع الموجودات . وقد أشكل هذا الأمر على ابن سينا ، حتى أخذ القول الماضى أخذا مطلقا ، وظن أن صاحب العلم الطبيعى يتسلم من صاحب العلم الإلاهى للمادة الأولى والمبدأ الأول . ولم يرد أرسطو أن صاحب العلم الجزئى ليس يمكنه أن يبرهن أسباب موضوعه أصلا ، وإنما أراد أنه ليس [٥٠ ب ] يمكنه أن يبرهن أسباب موضوعه برهانا مطلقا ، أعنى برهانا يعطى السبب والوجود . وذلك أن أسباب موضوع الصناعة هى من الطبيعة الأعلى ، أعنى التى هى جنس ذلك الموضوع . والنظر فى هذه الطبيعة إنما هو لصاحب العلم الإلاهى ، وذلك أن الطبيعة التى تعم موضوعات الصنائع الجزئية هى : الموجود ، وهو موضوع الفلسفة الأولى . ولمكان هذا استفتح القول بأن قال : « والصناعة العامة قد تتكلف بيان سائر المبادئ » - ثم أردف ذلك بان قال « وإذا كان هذا هكذا فبين ظاهر أنه غير ممكن أن يبين صاحب صناعة صناعة مبادئ صناعته الخاصية » - يريد : بيانا مطلقا ، أى بيانا يعطى السبب والوجود . وذلك أن صاحب الصناعة الجزئية قد يمكنه أن يبرهن أسباب موضوعه بالدلائل ، كما فعل أرسطو فى بيان المادة الأولى فى « السماع الطبيعي » والمحرك الأول . بل لا سبيل إلى تبيين وجود المحرك الأول إلا بدليل فى هذا العلم ، أعنى العلم الطبيعى ، لا على ما ظنه ابن سينا . وقد وضعنا مقالة فى تبيين فساد الطريق الكلى الذى ظن ابن سينا أنه به يمكن صاحب العلم الإلهي أن يثبت وجود المبدأ الأول . وقوله : « من قبل أنه إن شرع فى أن يبين مبادئه » - يريد : من قبل أنه يشرع فى أن يبين مبادئه الأول فى تلك الصناعة بمبادئ أخر . ثم قال : « فالأشياء التى بها تتبين مبادؤه هى أحق بأن تكون مبادئ » - يريد : وإذا بين مبادئ صناعته بمبادئ أخر فهذه المبادئ هى أحق بالأولية من مبادئ صناعته ، وقد كانت فرضت تلك أولية . فهى أولية لا أولية - هذا خلف لا يمكن . وقوله : « فإن من رام أن يعلم الشىء علما محققا فإنما يعلمه من المبادئ والأسباب العامة » - يعنى بالعامة : الأول فى ذلك الجنس ، كما قال فى « السماع » إنه إنما نعرف الشىء إذا عرفناه بأسبابه الأول حتى ننتهى إلى اسطقساته . يحتمل أن يكون أنما أراد أن المعرفة فى كل جنس تنتهى إلى الأسباب الأول التى فى ذلك الجنس . وحينئذ يحصل العلم التام بذلك الجنس . فهذه الأسباب ليس لها أسباب أول فى ذلك الجنس . فلذلك لا يمكن أن تبين فى ذلك الجنس بما هى أقدم منها ، إذ لا أقدم منها ولا أعرف فى ذلك الجنس . وقوله : « ومن الأشياء المتقدمة بالطبع من علل وأسباب لا تكون معلومات ومسببات . والعلم بهذه يكون أتقن وأحكم من العلم بتلك » - يريد بالأشياء المتقدمة بالطبع المتقدمة فى المعرفة والوجود . وذلك أن الأسباب متقدمة فى الوجود بالطبع على المسببات . وإذا عرض لها أن تكون أعرف عندنا فهى أيضا متقدمة بالطبع فى المعرفة ، على ما قيل في رسم « المتقدم بالطبع » ، أعنى أنه الشىء الذى إذا وجد المتأخر وجد هو، وإذا وجد هو لم يلزم وجود المتأخر . وقوله : « من علل واسباب لا تكون معلولة » - يريد [٥١ أ] فى ذلك : الجنس . وقوله : « والعلم بهذه أتقن وأحكم من العلم بتلك » - يريد أن العلم الذى يكون من قبل الأسباب الأول أتقن وأحكم من العلم الذى يكون من قبل الأسباب التى هى معلولة ومسببات . وإنما زاد قوله : - لا تكون معلولة » - يريد أن العلم بعلل لا تكون معلولة ، ويريد فى ذلك : الجنس ، أحق وأوثق من العلم بعلل وأسباب تكون معلولة ومسببة فى ذلك الجنس ، لأن ما يكون معلولا ... فيه ... ... ... . قال أرسطاطاليس: « فقد بان كيف يكون البيان للمعانى المناظرية من صناعة الهندسة ، ولمعانى تأليف اللحون من صناعة العدد . وقد اتضح وبان أنه لا يمكن أن ينتقل البرهان من طبيعة إلى طبيعة . » التفسير إنه يذكرنا هنا بما تتقدم ويجمله على ما يجب فى خواتم الأقوال البرهانية . يريد أنه قد تبين كيف يصح أن يبين الشىء فى صناعة بعلته الخاصية ، وتكون تلك العلة من قبل طبيعة أخرى، أى من قبل صناعة أخرى . وذلك إنما يكون فى الطبائع المركبة . وهذا ليس يسمى نقلا للبرهان من صناعة إلى صناعة وإنما يسمى فى الصناعة السفلى : أصلا وموضوعا ومسلما . والنقل الصحيح هو أن تكون المقدمة الكبرى واحدة فى الصناعتين . وقد تبين أن هذا لا يمكن ، إلا أن يكون مطلوب واحد معقول بتواطؤ فى صناعتين - أعنى واحدا من جميع الوجوه ، أى بالموضوع والجهة . وهذا قد تبين استحالته قبل ، فإنه كان يجب أن تكون طبيعة الصناعتين واحدة . وإذا كان هذا هكذا ، فقول أبى نصر فى كتابه « فى البرهان » عند آخر ما تكلم فى اشتراك الصنائع : « فقد بان كيف تشترك العلوم ، وبماذا تشترك ؛ ومن هنا تبين أين ومتى وكيف يمكن أن تنتقل البراهين من صناعة إلى صناعة ، وأين لا يمكن » . قول غير صحيح إن فهم من النقل ما يقال عليه اسم « انتقل » وهو أن تنقل المقدمة الكبرى . وذلك أن الظاهر من كلام أبى نصر أنه يسلم أن يكون المطلوب واحدا فى الصناعتين ، ولا يسلم أن يكون الحد الأوسط واحدا . وذلك عجب من قوله ! وإذا لم تشترك صناعتان فى الحدين جميعا ، فليس يمكن أن تشترك فى المقدمة الكبرى . وكيفما كان ، فليس يمكن أن تنقل البراهين على مذهبه ومذهب أرسطو . وإنما الفرق بينهما أنه يجوز أن تشترك الصناعتان فى مطلوب واحد . ولا يجوز ذلك أرسطو . وقد يلزم ضرورة ، كما قلنا ، من يجوز اشتراكهما فى مطلوب واحد ، أن تشترك فى الحد الأوسط . فلم يبق أن يكون النقل الذى عناه إلا أن تستعمل إحدى الصناعتين ما تبين فى الأخرى : إما على أنه موضوع لينظر فيه ، وإما أن يكون فى الصناعة العليا نتيجة ، وفى السفلى مقدمة كبرى ، كما يعرض ذلك لصاحب [٥١ ب ] علم المناظر ، ولصاحب علم الهندسة مع المهندس ، وكما يعرض لصاحب علم الموسيقى مع صاحب علم العدد . قال أرسطاطاليس : « ولذلك قد يصعب علينا أن نتحقق بأنا قد علمنا الشيء بعلته القريبة من قبل أنه من العسير الصعب أن نكون نعلم بأنا قد وقفنا على واحد واحد من الأمور من الأشياء الذاتية والمناسبة له وبعلته القريبة . والعلم إنما يكون بأمثال هذه . وأحرى ما يتضمن أنا قد علمنا الشيء علما محققا متى علمناه من مقدمات صوادق غير ذوات أوساط . وليس الأمر كذلك . » التفسير لما بين أن المقدمات التي هي أجزاء البراهين يجب أن تجتمع فيها ثلاثة شروط زائدة على الصدق : أحدها : أن تكون كلية . والثاني : أن تكون ذاتية . والثالث : أن تكون أولية ، وهو الذي يعنيه بالحمل الذي على طريق الكل في هذا الكتاب ، وكانت العلل إذا وجدت فيها هذه الشروط كانت عللا قريبة خاصة بذلك الشيء الذي هي علة له ، وكانت الموجودات كلما كثرت الشروط فيها أعسر وجودا وأعسر معرفة - قال : « ولذلك قد يصعب علينا أن نتحقق بأنا قد علمنا الشيء بعلته القريبة » - يريد : ولذلك يصعب علينا أن نتحقق أن علمنا الواقع بالشيء هو علم بعلته القريبة . ثم أتى بسبب العسر في ذلك فقال :« من قبل أنه من العسير الصعب أن نكون نعلم أنا قد وقفنا على واحد واحد من الأشياء الذاتية والمناسبة له وبعلته القريبة " - يريد : من قبل أنه يعسر علينا أن نقف على العلة القريبة لواحد واحد من الأمور من قيل الأمور الذاتية والمناسبة لجنس ذلك الشيء . وإنما قال ذلك لأنا إنما نستنبط العلل القريبة الذاتية المناسبة لذلك الجنس من العلل البعيدة إن كانت أعم من العلل القريبة . والأعم عندنا أبدا أعرف من الأخص . وهذا الشيء قد بينه في كتاب « القياس » .
١٠ - <المبادئ المختلفة>
Страница 302