بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم
يقول عبيد الله إبراهيم بن موسى بن محمد بن موسى بن أحمد بن علي اللخمي (رحمه الله تعالى) ورضي عنه بمنه وكرمه.
اللهم إنا نحمدك على ما علمت ونشكرك على ما أنعمت، ونستوهب منك عالما نافعا يزلف إليك، وعملا صالحا نرجو به الخلاص بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك. ولا نجاة إلا لمعتصم بحبلك، لائذ بجنابك، ونسألك أن تصلي على خيرتك من خلقك القائم من تبليغ رسالتك بواجب حقك. الذي بعثته إلى جميع العالمين بلسان عربي مبين، محمد نبيك وعبدك، ورحمتك المهداة إلينا من عندك وعلى آله الذين أعانوا وآزروا، وآووا ونصروا من أجلك وفي ذاتك وابتغاء مرضاتك، حتى قام دينك دين الحق على ساق، واتسق شمله أي اتساق، وسلم تسليما.
أما بعد فإن بعض من يجب علي إسعافه، ولا يسعني خلافه، كان قد أشار على أن أقيد على أرجوزة الإمام العلامة أبي عبد الله بن
1 / 1
مالك الصغرى وهي المسماة بـ (الخلاصة) شرحا يوضح مشكلها، ويفتح ويرفع على منصة البيان فوائدها، ويجلو في محك الاختيار فرائدها، ويشرح ما استبهم من مقاصدها، ويقف الناظر فيها على اغراضها من مراصدها، من غير اعتراض إلى ما سوى هذا الغرض، ولا اشتغال عن الجوهر بالعرض، فسمحت الأيام بما شاء الله أن تسمح وسرح القلم في ميدانه إلى ما قدر له أن يسرح، ثم عاق عن إتمامه بعض الأمور اللوازم، ودخلت على فِعلَي الحال فيه أدوات الجوازم، فثنت عنه عناني وأمسكت عن التفكير فيه جناني، وبعد بُعدٍ وانتزاح ثابت إلى نفسي، وتخلصت من تقييد تشخصي بالرجوع إلى أبناء جنسي، فقد بقي بعض من اعتمد على صفاء وده وإخلاصه، إلى تمام ذلك المقصد وخلاصه، وحين رفع عني حجاب العذر، انتدبت إلى الوفاء بذلك النذر، مستندا إلى منّ الله وطوله وخارجا من حولي إلى حوله، وهو المسئول أن يسنى مقاصدنا لديه، وأن يقف آمالنا عليه، فإنه لا ملجأ ولا منجأ منه إلا إليه، وأنا أعرف ان الناظر فيه أحد ثلاثة:
إما عالم طالب للمزيد في علمه، وأقف من أدب العلماء عنده مده ورسمه، موقن أن كل البشر سوى الأنبياء غير معصوم، آخذ بالعذر في المنطوق به من الخطأ والمفهوم، فلمثل هذا بثثت فيه ما بثثت، وإليه حثثت من خيل عزمي وركاب فهمي ما حثثت، فهو الأمين على إصلاح ما تبين فساده، حين تخلق بأخلاق أهل العلم والإفادة.
وإما متعلم يرغب في فهم ما حصل، ويسعى في بيان ما قصد وأشكل والنفوذ فيما قصد وامل، فلأجل هذا حالفت عناء الليل والأيام، واستبدلت التعب بالراحة والسهر بالمنام، رجاء أن أكون ممن أثر بما أسدي إليه،
1 / 2
وشكر ما أنعم به عليه.
وإما طالب للعثرات، متبع للعورات، يضعف ويقبح، ويحسن ظنه بنفسه ويرجح، وفسد ظانا أنه يصلح، فمثل هذا لا اعتمد عليه، لا ألتفت في رد ولا قبول إليه، وإن كان أعرب من الخليل وسيبويه، لأنه ناطق عن الهوى سالك سبيل من ضل وغوى، ولم يتخلق بآداب العلماء، ولا أم طريق الفضلاء، والله هو الرقيب على القلوب، والعلم بسرائر الغيوب، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن غرس جنى ثمرة غرسه، " إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه"
قال الناظم -رحمة الله عليه-:
قال محمد هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك
مصليا على الرسول المصطفى ... وآله المستكملين الشرفا
ابتدأ الناظم ﵀ بأشياء ينبغي تقديمها في أوائل الأمور المعتنى بها.
1 / 3
أحدها: التعريف بنفسه لئلا يجهل القائل، ثم الثناء على الله ﷿ الذي هو مقدم على كل امر ذي بال، ثم الصلاة على رسوله محمد ﷺ التي هي الوسيلة لقبول الطاعات، وتعبيره عن القول بلفظ الفعل الماضي فيه السؤال، إذ يقال: إن صيغة الماضي حقيقة فيما وقع وانقطع، وهو بعد لم يقل شيئا، فكان من حقه أن يأتي بلفظ يقول، الذي صيغته موضوعة للاستقبل؟
والجواب: أن ذلك لا يصح حيث يكون المستقبل مظنون الوقوع كهذا الموضع، كما يصح حيث يكون معلوم الوقوع كقول الله تعالى- «أَتَى أَمرُ الله» - وليس بواقع بعد لقوله: «فَلَا تَستَعجِلُوهُ».
وقوله: قال محمد هو اسم الناظم ﵀.
وقوله: هو ابن مالك هي المعرفة التي اشتهر بها، وهو محمد بن عبدالله بن عبدالله بن مالك الطائي الجيّاني يكنى أبا عبدالله ويدعى جمال الدين، أحد أئمة الصناعة النحوية والعلوم العربية، صنف كتبا مفيدة في النحو والقراءات واللغة، ونظم رجزين في النحو.
أحدهما: يستعمله أهل البلاد المشرقية، وهو الذي نثره في كتابه
1 / 4
المسمى: بـ "الفوائد المحوية في المقاصد النحوية".
والثاني: هذا الذي شرع في الكلام عليه وهو عظيم الفائدة، استولى من علم النحو على جل القدر المحتاج إليه، موفّى الأقسام، محرر القوانين، خاليا من الحشو، قليل الألفاظ، كثير المعاني.
قال الإمام أبو عبدالله بن رشيد ﵀: أخبرني بتصانيفه في الجملة الإمام المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن بركات،
1 / 5
شُهر بالبديع، وقال لي: قرأت عليه بعض المفصل للزمخشري وبعض تسهيل الفوائد، وأجاز لي جميع رواياته ومصنفاته في النحو وغيره، توفي ﵀ عام اثنين وسبعين وستمائة.
قال لنا شيخنا القاضي أبوعبدالله المقرئ ﵀ وفي هذه السنة ولد شيخنا الوزير أبو محمد عبدالمهيمن بن محمد بن عبدالمهيمن / الحضرمي السبتي فكان يقال: مات فيها إمام نحو /٤ وولد إمام نحو انتهى.
وقال الإمام أبو عبدالله بن النحاس الحلبي يرثي ابن مالك:
1 / 6
قُل لابن مالكٍ ان جرت بك أدمُعي حُمرًا يحاكيها النّجيعُ القاني
فلقد جرحت القلب حين نعيتَ لي فتدفقت بدمائها أجفاني
لكن يسهل ما أُجنّ من الأسى عِلمِي بِنُقلَتِهِ إلى رضوان
فسقَى ضَريحًا ضمّه صَوبَ الحيَا ... يهمي له بالروح والريحان
وقول الناظم: "هو ابن مالك" بالقطع وإظهار المبتدأ، أتى به كذلك لأن الصفة التي هي ابن مالك، صفة بيان، وذلك جائز وإن كان قليلا، والأكثر الاتباع في نعوت البيان.
وقوله: "أحمد ربي الله خير مالك" أما الحمد فمعناه: الثناء على الله تعالى بصفات الكمال والإنعام والإفضال، وهو أعم من المدح والشكر، لأن المدح ثناء على ماهو عليه من أوصاف الكمال والجلال، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإنعام والإفضال، فالحمد يشملهما.
وقيل: إن الحمد والمدح يجريان مجرى المترادفين، وكذلك قيل في الحمد والشكر: إنهما بمعنى واحد، والتحقيق ما تقدم.
و(الرب): هو السيد القائم على الأشياء المصلح لها، يقال: ربَّهُ يَرُبُّه ربًّا وربّاه يُرَبِّيه تَربِيةً، إذا قام بشئونه ومصالحه. و(الله): أصله الإله، ومعناه المعبود، والعرب تطلق الإله على كل معبود بحق أو باطل، إلا أنهم حذفوا الهمزة تخفيفا ونقلوا حركتها إلى لام المعرفة فصار اللّاه، فاجتمع عند ذلك مثلان، فاعتدُّوا بالعارض وأدغموا أحدهما في الآخر على غير قياس، فصار الله، وألزموا الكلمة الألف واللام عوضا مما حذف
1 / 7
منها، ثم فخموا اللام تعظيما للاسم، وفرقا بينه وبين اللات فصار مختصا بالإله المعبود بحق وهو رب العزة سبحانه. و(خير) بِنْيَة تفضيل من الخير ضد الشر، وأصل التفضيل بهما على أفعل فكان الصل أن يقال: فلان أخير من فلان وأشر منه، ومما يدل على ذلك قولهم: الخُورَى والشُرَّى تأنيث الأخيَر والأشرّ، إلا أنهم رفضوا الصل لكثرة الاستعمال فيهما وحذفوا الهمزة، وقد جاءوا بهما علىلأصل نادرا، وقال رؤبة
بلال خير الناس وابن الأخير
وقرأ أبو قلابة: «منِ الكَذّابُ الأشرّ». والمالك: الذي يملك الأشياء ويصرّفها تحت يده وقهره باستحقاق، وحقيقة الملك: احتواء على الشيء والقدرة على الاستبداد به، وإضافة خير إلى مالك هي من إضافة أفعل التفضيل إلى جنسه، وأصله في الإضافة خير المَالِكِين، إلا أنهم اختصروا وأضافوا المفرد، إذا كان يعطي من المعنى ما يعطيه من الأصل. ومعناه: أنه خير كل مالك قيس ملكه بملكه، وسيأتي في أفعل التفضيل حكمه مستوفى إن شاء الله. ولفظ (الله) هنا بدل من (ربي)، أو عطف بيان، و(خير مالك) بدل، أو منصوب على المدح، ولا يكون صفة، لأنه نكرة. وإنما أتى الناظم بفعل الحمد فقال: (أحمد ربي) ولم يقل الحمد لله مع أنه أبلغ، لأنه قصد إظهار ولاية ذلك بنفسه وعمله فيه، تحقيقا للعبودية بذكره، مضافا
1 / 8
ذلك إلى قَصد الابتداء بالحمد لئلا يكون كلامه أجذم عن البركة والخير، على ما جاء في الحديث خرجه أبو داوود، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: " كل كلا لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم". وفي لفظ النسائي: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع.
وقوله: "خير مالك" قصد به المجانسة لقوله في القسم الأول: (هو ابن مالك) وليسا بمترادفين، لأن الأول معرفة والثاني نكرة، فهو سالم عن الإيطاء، إذا هذا عند أهل القافية مما يقع به الاختلاف، ونظيره ما أنشده أبو الحسن من قوله:
١ - يارب سلّم سَدْوَهُنَّ الليلة ... وليلة أخرى وكل ليلة
لأن النكرة والمعرفة مختلفان بالشياع والخصوص، بل الاختلاف في كلام الناظم أتمّ منه في الشاهد، لأن العلمية مخرجة للمسمى به عن أصل معناه، وإن كان ملحوظا من طرف خفيّ في مثل هذا، فيمكن أن يكون الجرمي موافقا هنا وإن خالف في نحو الشاهد، وفي
1 / 9
مثله حكي الخلاف عنه فيما أحسب، لا في مثل كلام الناظم، وقد حصل الناظم في مثل هذه المجانسة معنى لطيفا، وهو أن مالكا العلمَ إنما سمي بذلك ليكون ممن يملك وتحصل له رتبة المالكين، على عادة العربي في التسمية بالصفات كحارث وقاسم ونحوهما من قصد التفاؤل بالأسماء، فكأنه خطر للناظم في نسبته إلى مالك هذا المعنى، فصرف عنان الاعتناء به إلى الدخول في خفارة خير المالكين، الذي له الملك الصحيح والاستيلاء الحق، وهو المعتصم المانع والحصن الثابت بالأصل والاستحقاق والدوام، وأيضا فإنه قصد مع ذلك التنبيه على أنه عبد داخل تحت يد ذلك المالك فليحمده بلسان الافتقار والاضطرار الذي هو أقرب للنجاح وأحرى بالفلاح، ولذلك أيضا قال (أحمد ربي) بإضافة الرب إلى ضمير نفسه، إذا كان قصده تقييده بالعبودية التي هي مناط قيام الرب له بما يصلحه في جميع شئون وتصرفاته عموما، وفيما يحاوله من هذه الإفادة التي أخذ فيها خصوصا، وهذه كلها مقاصد حسنة مجدية بفضل الله.
وقوله: (مصليا على الرسول المصطفى) نصبَ (مصليا) على الحال من الضمير الفاعل في أحمد، أي أحمد الله في كل حال كوني مصليا، وأراد الجمع بين الثناء على الله ﷿، والصلاة على رسوله لما في ذلك من البركة الموعود بها في الشرع، وذلك مرجو القبول والإجابة، كما جاء في
1 / 10
حديث فضالة بن عبيد أنه قال: بينما رسول الله ﷺ قاعد، إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله ﷺ: عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله وصل عليه، ثم ادعه، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله وصلى على النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ: أيها المصلي ادعُ تُجَب.
فإن قلت: إنما جاء هذا في السؤال، فأين السؤال، في هذا الكلام؟
فالجواب: أن في تنصله [تنفله] أولا بالثناء على الله تعالى وإدخاله نفسه نصا تحت الرق للمالك الحق، واعتصامه بإضافته إلى اسمه الرب تعرضا بباب مالكه القائم بمصالحه، وهو معنى السؤال بلسان الحال، وهو معروف عند العرب، وله أصل في الشرع، ذكر الرشاطي
1 / 11
في تاريخه عن الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا أبا محمد: ما تفسير قول النبي ﷺ: كان من أكثر دعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وليس فيه من الدعاء شيء؟ فقال لي: أعرفت حديث مالك بن الحارث؟ إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، ثم قال: أعلمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله؟ قلت: لا أدري. قال: قال:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضك الثناء
ثم قال سفيان: هذا مخلوق ينسب إلى الجود، قيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي على حاجتنا، فكيف الخالق؟
1 / 12
وذكر ابن عبد البر هذه الحكاية في التمهيد على نحو آخر، والمقصد واحد، فأردف الناظم بالصلاة على الرسول صلى الله عليه (وسلم) لتحصل الإجابة؛ لأن الصلاة على الرسول ﷺ مستجابة على القطع، فإذا اقترن بها السؤال شفعت بفضل الله فيه فقبل، وهذا المعنى مذكور عن بعض السلف الصالح، والصلاة أصلها الدعاء، أي داعيا له بالرحمة والبركة وزيادة التشريف والإكرام، والرسول هو الذي أرسله الملك ليبلغ الرعية، فالرسول ﷺ مبعوث إلى الخلق المرسل إليهم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، و(النبي) هو المنبئ، أي المخبر عن الله تعالى، وهو أعم من الرسول والرسول أخص، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فقد يخبر النبي من غير أن يرسل، ولا يرسل الرسول من غير أن يخبر، فهو إذًا أمدح، فلأجل هذا أتى به الناظم، ولم يقل مصليا على النبي المصطفى.
و(المصطفى): مفتعل من صفو الشيء وصفوته، وهو خالصه، أي الذي اختصه الله واختاره من سائر الخلق صفوةً ولبابا منهم، وهو محمد رسول الله ﷺ، ويعيِّنه أمران:
أحدهما: أنه أخص بهذه الأمة من سائر الرسل ﵈.
والثانهي: أنه صفوة الصفوة الذين هم الأنبياء والرسل، فالمصطفون
1 / 13
من الخلق هم الأنبياء والرسل، ومحمد ﷺ مصطفى من أولئك المصطفين. ألا ترى إلى ما جاء من نحو قوله: " أنا سيد ولد آدم"، وما في معنى ذلك.
وقوله: (وآله) أصل آل عند سيبويه، أهل بدليل تصغيره على أهيل وعند الكسائي أَوَلُ، وحكي في تصغيره أُويل والأول أشهر، ولما كثر فيه التغيير قلّت إضافته إلى المضمر، فالكثير ان يقال: آل فلان، والقليل نحو قول عبدالمطلب:
٢ - وانصر على آل الصيـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
لكن جرت عادة المحدثين باستعمال الوجه القليل، فاتبعهم الناظم فيه وذلك يدل على جوازه عنده خلافا لمن منع ذلك، ولا يضاف "آل" إلا إلى مُعَظّم واختلف المراد بآل الرسول ﵇ فقيل: هم رهطه الأقربون وعشيرته الأدنون.
فقوله: (المستكملين الشرفا) يعني باتباعه والإيمان به؛ لأن آله ﵇ كانوا هم أهل ذروة الشرف غير مدافعين، ثم باتبعاه على مقدار الاقتداء به كمل لهم ذلك الشرف، كما قال ﵇ "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" وقيل: آل الرسول ﷺ من يؤول إليه في الدين -يعني أمته-
1 / 14
وهذا القول مبني على مذهب الكسائي في آل؛ لأن الاشتقاق من آل يؤول يدل عليه، بخلاف الأول: فإنه يصح على مذهبي سيبويه والكسائي، وعلى كل تقدير فقوله: "المستكملين الشرفا" يعني به الصحابه رضوان الله عليهم، فإن هذا الكلام يقتضي أنهم كانوا أهل شرف قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فاستكملوه به، ولا أحد من الأمة أعظم شرفا في الأصل منهم.
وقد جاء في الصحيح عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله اصطفى من ولد آدم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"
وخرج الترمذي عن العباس أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، والشرف: الرفعة في نسب أو دين، وأصله من الشرف: وهو المرتفع من الأرض.
***
وأستعين الله في ألفية ... مقاصد النحو بها محوية
تقرب الأقصى بلفظ موجز ... وتبسط البذل بوعد منجز
1 / 15
هنا أخذ في بيان مقصده من هذا النظم، وذلك بعد ما قدم ما ينبغي من تقديمه من التعريف بنفسه، والثناء على الله تعالى، والصلاة على النبي ﷺ. والاستعانة: طلب العون، وهو طلب بالتصريح بعد ما قدم الطلب بالتعريض، وأصل الاستفعال للطلب.
وقوله: (وأستعين الله) جملة معطوفة على قوله: (أحمد ربي الله) أي: أحمده على جميع نعمه وأستعينه في كذا، وحرف الجر متعلق بأستعين، وأتى الحرف الذي يقتضي الظرفية ليجعل هذه القصيدة محلا للاستعانة بالله، وكأنه على حذف مضاف، أي: في نظم ألفية، وفي هذا القول معنى الدعاء لله أن يعينه على ما قصد، وهو محل صادف فيه مَحَزَّ الدعاء؛ لأنه وقع له بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله ﷺ، وعلى هذا الترتيب حضّ الشارع كما تقدم، والألفية منسوبة إلى الألف، وهي صفة لموصوف محذوف، أي في قصيدةٍ ألفية، والقصيدة من الشعر من عشرة أبيات فما زاد.
وحكى القاضي ابن الطيب، عن الفراء بسند يرفعه إليه أن
1 / 16
العرب تسمي البيت الواحد يتيما، ومن ذلك الدرة اليتيمة لانفرادها، فإذا بلغ الاثنين والثلاثة فهي نتفة، والعشرة تسمى قطعة، فإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا، والعرب تجعل القصيدة كلها تارة على روى واحد وهو المشهور في أشعارها، وتارة تجعله على حروف مختلفة، وتستعمله شطرين شطرين، أو أربعة أربعة، ولا يكون إلا مزدوجا.
وهذه القصيدة الألفية التي ابتدأها الناظم من هذا القسم، ويسمى المخمس ويكثر في الرجز والسريع، ومنه قول امرأة من جديس:
لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بهذا يا لقومي حر ... أسدى وقد أعطى وسيق المهر
لأخذه الموت غدا بنفسه ... خير من أن يفعل ذا بعرسه
ويعني الناظم بقوله: (ألفية) النسبة إلى ألف مزدوج، لا إلى ألف بيت لأنها ألفا بيت من مشطور الرجز، ويبعد أن يكون قصده النسبة إلى الألفين وإن كان في اللفظ ممكنا.
وقوله: (مقاصد النحو بها محوية) معنى محوية: مجموعة محاط بها، يعني أن هذه القصيدة قد أحاطت بمقاصد النحو وجملتها مجموعة فيها.
وأصل النو في اللغة: القصد، وهو ضد اللحن الذي هو العدول عن القصد والصواب، والنحو قصد إليه وهو في الإصطلاح: علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني ويعني بالأحوال وضع الألفاظ بعضها مع بعض في تركيبها للدلالة على المعاني المركبة، ويعني
1 / 17
بالأشكال ما يعرض في أحد طرفي اللفظ أو وَسَطِهِ أو جملته من الآثار والتغييرات التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، هذا حد بعض المتأخرين
وقال الفارسي: النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب يعني بالمقاييس القوانين الكلية الحاصلة في مَلَكَةِ الإنسان من تتبع كلام العرب.
ثم إن الناظم نص على أن قصيدته هذه محتوية من النحو على جميع مقاصده لقوله: (مقاصد النحو) وهذه صيغة عموم تفيد الاحتواء من المقاصد على جميعها، وعلى هذا فيه سؤال وهو أن يقال: إنه قد نص آخر النظم على أنه إنما احتوى الجُلَّ، لا على الجميع لقوله هنالك: (نظما على جُلّ المهمات اشتمل) ولم يقل: على المهمات اشتمل، ولا على جميع المهمات، ومهمات النحو ومقاصده بمعنى، فإما ان يكون نظمه مشتملا على الجميع، وإما على الجُلّ دون الجميع، وعلى كلا التقديرين يكون أحد الموضعين، غذ قد فاته أشياء من مقاصد النحو ومهماته كباب القسم، وباب التقاء الساكنين، وغير ذلك مما يتبين في موضعه إن شاء الله تعالى، فتخلص أن كلامه هنا غير صادق.
والجواب: أن الكلامين غير متنافرين، بل هما متوافقان؛ وذلك أن المهمات ليس بمرادف للمقاصد، لأن المقاصد أعم المهمات لانقسامها
1 / 18
إلى المهم وغيره، فمن مقاصد النحو ما هو مهم كالذي ذكر في نظمه، ومنها ما ليس بمهم كباب التسمية، ومسألة الأمثلة الموزون بها في باب ما ينصرف، وفصل الاستثناء من الاستثناء وما أشبه ذلك، إلا أنه يبقى وجه إتيانه بلفظ العموم، مع أنه لم يتكلم إلا على الجُلّ من المقاصد، بل على جاءني أهل مصر، إذا جاءك جلُّهم أو رؤساؤهم، وأهل مصر صيغة العموم كمقاصد النحو، ومن هنا صح الاستثناء الاستثناء من العام على ما هو مبسوط في موضعه، فإذا كان كذلك سقط الاعتراض فإن قلت: فلم لمْ يبين هنا كما بين هناك؟
فالجواب: إن مقصده هنا ليس البيان عما احتوت عليه على الحقيقة، وإنما مقصده أمر آخر خلاف ما قصد هنالك، وذلك أنه أراد هنا التعريف بأن نظمه احتوى على الضروري من علم النحو، لأن علم النحو يحتوي على نوعين من الكلام:
أحدهما: إحراز اللفظ عند التركيب التخاطبي للإفادة عن التحريف والزيغ عن معتاد العرب في نطقها -وما وقع عليه كلامها، حتى لا يرفع ما وضعه في لسانهم أن ينصب أو يُخفض، ولا ينصب ما وضعه في لسانهم على أن يُرفع أو يُخفض، ولا أن يؤتى بما حقه أن يكون عندها على شكل وهيئةٍ على شكل آخر وهيئة أخرى، بل يجري في ذلك على مَهْيَع نُطقهم، ومعروف تواضعهم. فإن كان المتكلم فيه مما قد تقدمت العرب للتكلم به، وحفظ عنهم لم يحرفه عما نطقوا به وإن كان مما لم يحفظ عنهم من التركيب النطقي، إما لأنهم لم يتكلموا به، أو تكلموا به ولم يبلغنا، أو بلغ بعضا ولم يبلغ بعضا، أعملنا في ذلك المقاييس التي استقرأناها من كلامهم
1 / 19
حتى توصلنا إلى موافقتهم، وحت نقطع أو يغلب على ظنوننا أنهم لو تكلموا بهذا لكان نطقهم كذا، فإذا تحصل لنا مجاراتهم في ذلك ومساواتهم كنا جديرين بأن نسمى مُعربين، واستحق المتصف منا بذلك أن يسمى نحويا، وهذا النوع هو المقصود من علم النحو، وهو الذي أراد الناظم أن يأتي به في هذا النظم، فلذلك قال: (مقاصد النحو بها محوية).
والنوع الثاني: التنبيه على أصول تلك القوانين وعلل تلك المقاييس والأنحاء التي نحت العرب في كلامها وتصرفاتها، مأخوذا ذلك كله من استقراء كلامها، وهذا النوع متمم وليس بواجب، ولا هو المقصود من علم النحو، فلذلك لم يتعرّض له الناظم. إذا لا يبنى عليه من حيث انتحاء سمت كلام العرب شيء، لكن لما كان هذا النوع لائقا بغرض الشرح لم أخل هذا الكتاب منه فيما استطعت، وعلى ما أعطيه الحال في شرح كلام الناظم والله المستعان.
وقوله: (تقرب الأقصى بلفظ موجز) له تفسيران:
أحدهما: أن يكون معنى الكلام أن هذه الأرجوزة تضم أطراف المعاني البعيدة عن التحصيل والضبط، فتضبطها بقوانين وجيزة مختصرة، حتى تجمعها سهلة الانقياد، لا تتعاصى على ذي فهم، ولا تشذ عن الضبط، ولعمري إنه لكما قال: إذا كان قد سهل فيها طريق التحصيل، ويسر الأمر على منتحلة، خلاف ما عليه كثير من التقدمين الذين لم يصلوا من الضبط والتنقيح إلى ما وصل إليه وعلى
1 / 20