الاقتداء
وهناك لفظ ثالث -وهو كلمة شرعية- وهو لفظ الاقتداء، وهذا اللفظ إذا ذكر في القرآن فإنه يذكر معلقًا بالوحي، يقول تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام:٩٠] فهو لم يقل: فبهم اقتده، وإنما قال: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) أي: بما بعثوا به من الوحي، فالاقتداء حقيقته الاتباع للوحي.
ولذلك من اتبع إمامًا من الأئمة في مسألة على وجه من الدليل البين للمتبع، فإن هذا يسمى مقتديًا، وقد أمر النبي ﷺ بالاقتداء بـ أبي بكر وعمر رضي الله عهما، وبين للناس أنهم إن يقتدوا بهما يرشدوا فهذا الاقتداء إذا كان مفصلًا على دليل الوحي فهو الاقتداء المشروع، وهذا لا يسمى تقليدًا محضًا، فضلًا عن أن يسمى تعصبًا.
وعليه: فليس المقصود من الكلام في التعصب أن يقال: إن المسلمين يجب أن يكونوا أهل اجتهاد، فإن هذا الطلب ليس طلبًا شرعيًا، ولا طلبًا عقليًا، فإن جمهور المسلمين لا يسعهم لا شرعًا ولا عقلًا أن يكونوا من أهل الاجتهاد، بل التقليد وأجلّ منه الاقتداء سنة ماضية في شأن المسلمين، ولاسيما من بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لما كثر العامة، وفتحت البلاد، وانتشر سواد المسلمين، فإنه يتعذر هنا شرعًا وعقلًا أن يتحول جميع الناس إلى أهل اجتهاد.
ولذلك أمر الله في كتابه عند عدم العلم بسؤال أهل الذكر، ودل ذلك على أن المسلمين وأهل الإيمان يكون فيهم من هو من أهل الذكر والعلم، ويكون فيهم من هو ليس كذلك.
إذًا: التعصب في عامة موارده ليس اسمًا شرعيًا ولا مناسبًا للعقل والحكمة، ولذلك غلب التعصب كاسم في كلام الجاهليين على التجمع الجاهل، كالتعصب لولاءات قبلية وثارات جاهلية ونحو ذلك.
أما التقليد فإنه أرفق من هذا بكثير، فقد استعمله أهل العلم كمصطلح علمي، وتكلم جمهورهم في جوازه، إلى غير ذلك.
والناظر إلى ما عليه أهل الإسلام من قرون مضت يجد أنهم يتجافون عن مصطلح التعصب، ولا ينتحلونه؛ لما فيه من قلة الاهتداء بالشريعة، والتحيز الجاهل، وآثار العزم بغير علم، إلى غير ذلك، وإنما يستعملون إما مصطلح التقليد، وهو الذي غلب على أتباع الفقهاء، أو مصطلح الاقتداء، وهو الذي غلب على أصحاب الاختصاص في مذهب العقائد أو السلوك.
ولا شك أن الاعتبار ليس بمجرد الأسماء، وإنما الاعتبار بحقائق المعاني والأحوال؛ فإن أهل السلوك من طوائف الصوفية يستعملون كلمة القدوة؛ فإذا بلغ بعض الخاصة عندهم مبلغًا سموه قدوة، وصار من تعريفه ولقبه: الشيخ العارف القدوة، فهذا الاقتداء وتعيين أحد به هو من باب استعمال هذه الكلمة التي أصلها شرعي، لكن هذا التخصيص لا بد أن يكون مبينًا على القواعد الشرعية، وهذا من حيث ظاهر الحال، ولكن من حيث حقيقة الحال، فإن التعصب وإن سمي في بعض الأحوال في حال كثير من الفقهاء تقليدًا، أو في حال بعض أهل الاختصاص بعقائد غير أهل السنة والجماعة أو طرق في السلوك سمي تقليدًا أو اقتداء؛ فإنه في حقيقة حاله وفي جمهور حاله إما أن يكون تعصبًا، وإما أن نسميه تقليدًا ليس مشروعًا، والتقليد إذا لم يكن مشروعًا ولا جائزًا فإنه هو التعصب.
فهذه الأحوال هي التي تغلب من حيث الحقيقة، أعني التعصب الجاهل، والتقليد الذي لا تجيزه الشريعة، ولا تقره أصول الحكمة والعقل.
8 / 5