شرح العقيدة التدمرية [١]
تمس حاجة الإنسان إلى معرفة أصول الدين، ليبني دينه على معتقد صحيح، وقد كتب علماء الإسلام في ذلك رسائل مختصرة، من أهمها وأجلها رسالة العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀.
1 / 1
الداعي إلى الكتابة في تحقيق الأصلين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نبدأ درسنا اليوم إن شاء الله في المجلد الثالث ضمن الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأوله: كتاب التدمرية؛ وسمي بذلك لأنه ألفه في (تدمر) من بلاد الشام، وهو من الكتب التي تعتبر مرجع التأصيل والتقعيد في منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات والقدر.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ﵁ وأرضاه: [الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين].
هذان الأصلان يدور عليهما أكثر الكتاب، بل كل الكتاب، والكلام في التوحيد والصفات منشؤه الخبر، أو يدخل تحت الأخبار، والمقصود بالخبر هنا ما أخبر الله به، وما علمه خلقه أو بعض خلقه، سواء من الأمور المعرفية الفطرية، ككثير من أمور توحيد الربوبية، فإنها علمية، سواء جاءت عن طريق الوحي أو مقتضى الفطرة، فهي خبرية علمية، وأكثر تفاصيلها إنما جاءت عن طريق الخبر، يعني: عن طريق الوحي، لكن مع ذلك يدخل فيها بعض الأمور العلمية الفطرية التي فطر الله الناس عليها.
والآخر: وهو توحيد الأمر والطلب، ويدخل فيه توحيد الشرع والقدر، وتوحيد الإلهية كله، وهو مبني على الشرع، أي: مبني على شرع الله وما شرعه رسوله ﷺ.
إذًا: عندنا أصلان: الأول: ما يتعلق بالتوحيد الخبري، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وكثير من مسائل القدر؛ لأن القدر سيدخل في جانبين: في جانب الأمر، وفي جانب الخبر.
والثاني: التوحيد العملي الإرادي، وهو ما يتعلق بتوحيد الإلهية الذي يرتكز على الأمر والشرع.
1 / 2
أصناف الناس الذين خاضوا في مسائل الدين
قال ﵀: [وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لاسيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات].
قوله: (ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر) يشير بذلك إلى الخائضين في هذه المسائل بحق وبباطل، فهم أصناف: الصنف الأول: وهم من أكثر الناس خوضًا فيما لا يعلمون، فقد خلطوا الحق بالباطل، فيخطر لهم خواطر بعضها يوافق الحق، وكثير منها داخل في الظنون والأوهام والتخرصات، وكثير من هؤلاء هم من أهل الكلام الذين يسمون بأهل النظر من الفلاسفة ومن سار على نهجهم، أو على بعض مناهجهم من المتكلمين، كمتكلمة الفرق من المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي جاءت بعدها، والتي تسمى بالفرق الصفاتية الكلامية، وكذلك من دخل منهم أو معهم في هذا المجال من متكلمة الخوارج ومتكلمة الشيعة الرافضة ومتكلمة القدرية ومتكلمة المرجئة وغيرهم، فكلهم يجمعهم وصف واحد، أعني: وصفهم بأنهم أهل النظر.
كما قد يدخل في أهل النظر أيضًا: من نظر على مقتضى القواعد الشرعية من أهل السنة والجماعة الذين تصدوا لهذه المناهج الكلامية، فقد يوصفون بأنهم أهل نظر من هذا الجانب، لا أن مناهجهم مناهج أهل النظر، فهم قد استعملوا بعض الأمور التي تتعلق بالنظر -كالتفكير- في الدفاع عن الحق وفي رد الباطل.
لكن إن أطلق: (أهل النظر) فالمقصود به غالبًا أهل الكلام الذين خاضوا في كثير من مسائل الدين بغير حق، وذلك بمجرد المناهج الفلسفية أو النزعات العقلية أو الأوهام والتخرصات كما قلت، وأغلبهم يشملهم قول الله ﷿: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ [الذاريات:١٠ - ١١].
الصنف الثاني: أهل العلم، والمراد بهم أهل العلوم الشرعية؛ لأنه غالبًا إذا أطلق (أهل العلم) فالمراد بهم أهل العلوم الشرعية، فهم قد أخذوا بمقتضى العلم منهجًا وعملًا وتطبيقًا.
والعلم: هو العلم بالكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من الحديث وعلومه والفقه وأصوله والفرائض واللغة العربية وغير ذلك من العلوم الشرعية، أو الوسائل والأدوات إليها، فهذه تدخل في العلم بمفهومه الخاص، والذي قد ورد الثناء عليه في الكتاب والسنة هو العلم الشرعي.
الصنف الثالث: أهل الإرادة، ويبدو لي أنه يشمل أولئك الذين اتجهوا إلى العمل، سواء على مقتضى الحق أو الباطل، لكن غالبًا يقصد بأهل الإرادة العاملين من أهل الحق.
وأما العباد فمعرفون، فهم الذين سلكوا مسلك العبادة وجنحوا إليها، ومالوا إلى التعبد دون الأخذ بكمال الدين، وإفرادهم هنا من مجموع هذه الأصناف يدل على أن المقصود بهم: العباد النساك الذين سلكوا طريق العبادة والعزلة، وهذا مسلك فيه خير، وفيه شطحات كما تعلمون.
فهؤلاء الأصناف كلهم قد تناولوا مسائل من الدين، وهذا معنى قوله: (لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال)، لكن الذي أخذ بالهدى الذي جاء عن الله وعن رسوله ﷺ قد أصاب الحق، والذين شطحوا وخرجوا قد أخطئوا الطريق، وسلكوا مسالك الضلالة، ولذا كل هذه الأصناف محتاجة إلى بيان الهدى من الضلالة.
لاسيما مع كثرة من خاض في هذه الأمور بالحق تارة وبالباطل تارات، وفي هذا إشارة إلى أن أغلب ما خاض فيه الخائضون في أمور الدين من الباطل؛ لأن الحق في أصوله وقواعده وكثير من جزئياته، بل في كل جزئياته -حتى فيما يمكن أن يطرأ على أذهان الناس أو أعمالهم ولو في مستقبل الزمن- جاء مقررًا في الكتاب والسنة، إما بنص أو بنصوص، أو بقواعد شرعية مأخوذة من النصوص.
ولذلك فإن كل جزئيات وسلوكيات وحاجات البشر تندرج تحت قواعد الدين، والقواعد مأخوذة من النصوص، لكن مع ذلك نجد أن أكثر من خاض في هذه الأمور قد سلك مسلك الباطل، وهذا يصدقه وقوع الافتراق الذي أخبر به النبي ﷺ، فقد أخبر بأن أغلب هذه الأمة -كسائر الأمم- ستقع في الافتراق، وهو الخوض بالباطل.
ولذلك لما عد الفرق عدها ثلاثًا وسبعين فرقة، واحدة منها على الحق، واثنتين وسبعين على الباطل، ولا شك أن واحدة من ثلاث وسبعين تعتبر قليلة؛ لأن أغلب الذين خاضوا في مسائل الدين قد خاضوا بالباطل، ثم أيضًا ما يعتري القلوب من الشبهه التي توقعها في أنواع الضلالات، وهذا مما يصرف الناس عن الحق إلى مسالك ومناهج الضلالة، وقد أخبر النبي ﷺ وحذر من ذلك في حديث: النهي عن السبل.
1 / 3
توحيد الربوبية والصفات من باب الخبر، وتوحيد الشرع والقدر من باب الطلب
قال ﵀: [فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفيًا وإثباتًا، والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة].
إذا أردنا أن نقسم أصول الدين بناء على هذا فإنا نقول: ما يتعلق بتوحيد الربوبية والقدر وما يتفرع عنهما، وما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، كل ذلك دائر في باب الخبر، ولذلك لا مجال فيه للزيادة والنقص والتجديد، ولا يقوم إلا على مجرد التسليم والتصديق، وما عدا ذلك فهو تكذيب لخبر الله.
وأما ما يتعلق بالشرع وهو توحيد الإلهية، فهو أمر ونهي، وهو يدور على الإنشاء، يعني: أن الله ﷿ شرع الشرائع، فأنشأ للعباد الأوامر والنواهي، وهذا -كما قلت- هو مضمون توحيد العبادة؛ لأن الأمر والنهي يحتاج إلى امتثال، والخبر يحتاج إلى تصديق، فإذا كان الخبر صادرًا عن الله ﷿ وثابت عن الرسول ﷺ فلابد من تصديقه، ولا محيد للمسلم عن ذلك في أي فرع من فروع الاعتقاد.
وإذا كان الأمر راجعًا إلى الأمر والنهي فالمسلم أصلًا قد استسلم لله ﷿، بأن استعد لأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وذلك راجع إلى الاستطاعة، لكن مبدأ التسليم لابد منه، بل لا يقوم ولا يصح توحيد العبادة -توحيد الألوهية- إلا على مبدأ التسليم، بمعنى: مبدأ الاستعداد للعمل واجتناب النواهي، فيبقى الاستعداد هو الأصل، وأما العمل فبحسب القدرة والاستطاعة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
1 / 4
أقسام التوحيد وتقرير رجوع الدين كله إليها
قال ﵀: [وإذا كان كذلك فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيمانًا خاليًا من الزلل.
وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دل على ذلك سورة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١]، ودل على الآخر سورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون:١]، وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان النبي ﷺ يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك].
قصد الشيخ بهذا الكلام: تقرير معنى كون التوحيد كله أو الدين كله يرجع إلى هذين الأصلين: الأول: توحيد العبادة، وسماه بـ: (توحيد القصد والإرادة والعمل)، وهذا وصف لهذا النوع من التوحيد قد سبق تقريره، كما سيأتي تقرير بأننا إذا استقرأنا معاني التوحيد، سواء في منشئها من الكتاب والسنة، أو في تطبيقها في أحوال البشر، أنه يمكن أن نقسمها إلى عدة أقسام، فممكن أن تكون في قسمين، وممكن أن تكون في ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، وهذا التقسيم تقسيم علمي استقرائي، وعليه يمكن أن نقول: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد علمي، وتوحيد عملي، أو نقول: توحيد ربوبية، وتوحيد إلهية، أي: توحيد إرادي طلبي، وهو ما ينشأ عن البشر من الإرادة والطلب، وتوحيد خبري.
وكل ذلك يرجع إلى أن التوحيد ممكن أن يقسم في التقسيم الأساسي إلى نوعين من الناحية العلمية، وهذا التقسيم لا يلزم، فيمكن أن نقسم كل قسم أيضًا إلى أقسام، لكن هذا كما قلت: تقسيم علمي استقرائي، ولذا فإن المتأمل إلى أنواع أوامر الشرع أو المتأمل لأنواع الوحي فيما يتعلق بالتوحيد يجد أنها على نوعين: نوع من التوحيد هو خبر، يعني: علم، وهو أن الله علمنا الكثير من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بربوبيته وقدره، والأمور التي قد تدركها أو يدرك بعضها شيئًا من الفطر والعقول، وبعضها لا يدرك تفصيلًا إلا بالخبر، كأسماء الله وصفاته، فإن تفصيلات كثير منها لا نعلمه إلا بالخبر الذي جاءنا من عند الله، وعليه فتوحيد الربوبية كثير منه جاء بالخبر، ويدخل فيه أيضًا توحيد الأسماء والصفات، وهو علم عن أمور الغيب قد أخبرنا الله به.
ومن هنا سمي توحيد علمي وتوحيد خبري، وهذا اصطلاح راجع إلى معان، ويمكن أيضًا أن نتجاوز هذا الاصطلاح إلى معنى أوسع أو إلى معان أكثر دقة أو أكثر تفصيلًا، وهذا هو الأصل، فلابد من الإيمان به دون الخوض فيما لا تطيقه العقول.
الثاني: توحيد الطلب، أي: ما يطلب منا؛ فنحن قد علمنا بالفطرة مجملات توحيد الربوبية، وعلمنا بالوحي تفصيلات توحيد الربوبية والأسماء والصفات لله ﷿، هذا العلم يتطلب منا أمرًا آخر يسمى: توحيد الألوهية، وهو أن نعبده بما شرع، وأن نوجه له الدعاء والذكر والصلاة وجميع أنواع العبادات، ولذلك سمي بالتوحيد الطلبي، أي: توحيد القصد.
والمقصود بالقصد: أن العباد يقصدون به الله ﷿، لكن لا يقصد الله ﷿ إلا بما شرع هو، ومن هنا رجع إلى كونه يدخل في الشرع كما دخل توحيد الربوبية في العلم.
كما يسمى أيضًا بتوحيد الإرادة؛ لأن الناس يريدون به الله ﷿.
ويسمى بتوحيد العمل؛ لأنه مقتضى العمل المبني على المعرفة، وهو عمل القلوب والجوارح بالتوجه إلى الله ﷿، ويسمى بتوحيد الشرع، وتوحيد الأمر.
وعليه فهذه كلها ألفاظ صحيحة، لو اقتصرنا على بعضها صح، ولو أخذناها كلها صح، ولو أجملناها بتوحيد الإلهية صح.
إذًا: فالتوحيد قسمان: قسم يرد من الله ﷿ من خلال الوحي، وهو توحيد الربوبية المسمى بالعلمي، وإن كان بعضه يعلم بالفطرة، لكن تفاصيله لا تعلم إلا بالوحي، وحتى العلم بالفطرة هو علم ركبه الله في العباد، ويسمى هذا: (توحيد علمي خبري) كما ذكرنا.
والقسم الآخر: وهو التوحيد الإرادي القصدي العملي، أي: توحيد الإلهية الذي يتلخص في الشرع.
1 / 5
دلالة سورتي الإخلاص على أنواع التوحيد
وقد مثل الشيخ للقسم الأول بسورة: الإخلاص، فقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١ - ٤]، فهذا خبر تضمن أسماء الله وصفاته.
كما مثل للقسم الآخر بسورة: الكافرون، فقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون:١ - ٢]، فالعبادة تعني القصد، أي: أن يقصد المسلم بعبادته الله ﷿، ولذلك جاء في سورة الكافرون ضرورة إخلاص التوحيد لله ﷿، ونفي الشرك الذي عليه أولئك الذين يعبدون غير الله ﷿.
ومن هنا جاء تحريم عبادة المسلم يقصد بها غير الله، كأن يقصد ما قصده المشركون حينما قصدوا، أو الكافرون حينما قصدوا غير الله، فعبدوا غيره، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون:١ - ٢]، فلا يقصد ويتوجه المسلم إلا إلى لله، ولا يعمل ولا يريد إلا لله ﷿، ولا يعمل إلا بمقتضى شرع الله، وهذا ظاهر جدًا، فإننا نجد السورة الأولى قد تضمنت الخبر عن أسماء الله وصفاته، وجوامع الأسماء والصفات.
والسورة الثانية: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون:١]، قررت لمن يكون القصد؟ لمن تكون العبادة؟ لمن يكون العمل؟ لمن تكون إرادة المسلم؟ لمن يكون توجهه؟ كل ذلك لا يكون إلا لله ﷿، ومن هنا خالف المسلم الكافرين مخالفة متميزة تقوم على البراء الكامل الذي لا تقارب فيه، ولذلك قد تكرر البراء في السورة بألفاظ تعطي الحدية الفاصلة التي لا مساومة فيها، فلا يمكن للمسلم أن يعبد أو يقصد أو يتوجه أو يعمل لغير الله ﷿، وهذا هو معنى توحيد القصد، وتوحيد الإلهية، وتوحيد العبادة.
1 / 6
الأصل في باب الأسماء والصفات
قال ﵀: [فأما الأول: وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيًا وإثباتًا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه].
هذه القاعدة هي القاعدة الحاكمة، والقاعدة الكبرى في أسماء الله وصفاته، وعليها سيدور كلام الشيخ في أكثر هذا الكتاب، ولذلك فإن استيعابها وفهمها وإدراكها أمر ضروري لطالب العلم خاصة عندما يقرأ هذا الكتاب؛ لأن جميع ما سيرد من القواعد المفرعة عنها يعود إليها، وهذه القاعدة لم يأت بها الشيخ من عند نفسه، وإنما هي راجعة إلى قول الله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
وقول الشيخ: (الأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه) ليس هذا الأصل مبنيًا على اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية أو غيره، وإنما هو مبني على نصوص قاطعة وثابتة من الكتاب والسنة، وسيأتي لهذا أدلة وأمثلة كثيرة جدًا تدل على أن هذه القاعدة هي القاعدة الحاكمة، وأن من عمل بها سلم، ومن أخل بها هلك.
وهي بمثابة الميزان في قلب المؤمن، متى ما أدركها وفهمها فإنه يستطيع بإذن الله أن يرجع إليها كلما ورد إليه، أو سمع أو قرأ أو خطر بباله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، كما أنه بإذن الله يستطيع أن يميز بين الحق والباطل إذا وفقه الله لذلك.
وقوله: (فالأصل في هذا الباب) أي: في باب الصفات -إذا قيل: في الصفات، فإنها تشمل الأسماء-: أن يوصف الله ﷿ بما وصف به نفسه، وجاءنا هذا من كتاب الله ﷿، يعني: أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه أتى بشيء عن الله من غير الوحي كما يزعم كثير من ضلال أهل الأهواء من البدع والافتراق، فإنهم يزعمون أنهم يتلقون عن الله، ولذلك وصفوا الله بأسماء وصفات وأفعال لم ترد في الكتاب والسنة، بل وزعموا أنها من عند الله! وهذا طريق ليس بسليم.
إذًا: أن يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفته به رسله، وهذا بالنسبة في جميع الأمم، وفي هذه الأمة نقول: وبما وصفه به رسوله ﷺ، أي: ما ثبت عن رسول الله ﷺ، وما لم يثبت لا يكون مصدرًا في أسماء الله وصفاته، بل ولا يحتج به.
وهذه القاعدة مجمع عليها عند السلف، وإن كان بعضهم أحيانًا قد يستدل بالضعيف، لكن لا يستدل بالضعيف في تقرير اسم أو صفة لله، وإنما في تأييد ما ثبت بنص آخر كما ذكرت لكم سابقًا.
وهذه مسألة لابد من التنبه لها، فقد ينسب إلى الرسول ﷺ أحيانًا أحاديث ضعيفة في الصفات، لكن قد يوردها بعض السلف لا للاستدلال بها استقلالًا، ولذلك لا يوجد عند السلف شيء من ذلك يستدل به في حديث ضعيف، إلا أن بعضهم قد يجتهد في حديث ويظن أنه صحيح وليس بصحيح، وهذه زلة عالم، لا أنه منهج السلف رحمهم الله تعالى.
إذًا: نصف الله بما ثبت عن النبي ﷺ بسند صحيح.
أما قوله: (نفيًا وإثباتًا) أي: أننا لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله ﷺ، ولا ننفي عن الله تفصيلًا إلا ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله ﷺ، وأما إجمالًا فننفي النقائص عن الله، لكن لا ننفي كل أمر يحتمل إلا ما جاء نفيه؛ لأن الأمور المحتملة تخضع لقاعدة التفصيل، يعني: بعض أهل الأهواء قد ينفر من معنى من المعاني، وينفيه عن الله، وهذا المعنى محتمل لحق وباطل، فجانب الحق نثبته لله على إلحاقه باسم من أسماء الله وصفاته، وجانب الباطل في هذه الألفاظ -مثلًا- ننفيه.
إذًا: لابد من الاحتراز في مثل ذلك، ولذا نقول: النفي بأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله ﷺ، والإثبات أن يوصف الله بما أثبته لنفسه، وبما أثبته له رسوله ﷺ.
1 / 7
مذهب السلف في باب الأسماء والصفات
قال ﵀: [وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل].
هذه قاعدة أخرى تتفرع عن الأولى، وستأتي قواعد كثيرة كلها تتفرع عن القاعدة الأولى، وهذه القاعدة الفرعية تتمثل في أن طريقة السلف الذين سبيلهم سبيل المؤمنين، والذين اقتفوا أثر الأنبياء، والذين هم أهل الحق، والذين عصم الله بهم الدين، وتحقق فيهم إجماع الأمة على الحق، هؤلاء السلف طريقتهم وطريق أئمتهم: إثبات ما أثبته الله ﷿ لنفسه، وأثبته له رسوله ﷺ.
وهذا الإثبات لابد فيه من احتراز، وهذا الاحتراز هو: أنه حينما نثبت لا نكيف ولا نمثل، فلا نكيف الغيبيات بما فيها أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولا نقرر الكيفية لا في عقولنا ولا بألسنتنا ولا باعتقاداتنا؛ لأن الكيفية هي الحقيقة المحسوسة التي تتمثل في الغيبيات والمحسوسات، وإحساس الغيبيات غير ممكن.
والتكييف هو: وصف الصفة وصفًا تفصيليًا كما توصف المخلوقات المعاينة والمشاهدة، وعليه فلا يجوز أن نصف أسماء الله وصفاته وصفًا كيفيًا، بمعنى: أن نحدد الشكل واللون والحكم والثقل ونحو ذلك مما هو من لوازم التكييف.
إذًا: المقصود التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله: الكلام في الشكل والهيئة التي عليها الحقيقة المعاينة، ونحن لا نعاين الحقائق الغيبية بحواسنا وإنما بقلوبنا، وعلى هذا فلا يجوز التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله.
وأما التمثيل فهو جزء من التكييف ومتفرع عنه، والمقصود به: أنه لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله أو بعض صفات الله أو بعض أسمائه مثل شيء من مخلوقاته، وكذلك العكس، فلا نمثل أسماء الله وصفاته وأفعاله بأمثلة من المخلوقات، ولا نشبهها بالمخلوقات تشبيهًا كيفيًا، والعكس كذلك، فلا نمثل صفات المخلوقات بصفات الله، ولا نجعل صفات الله كصفات المخلوقين، فإن هذا تمثيل، وهو كفر، ولا نجعل صفات المخلوقين كصفات الله، فإن هذا أيضًا تمثيل، وهو كفر.
إذًا: فالتمثيل ممنوع من طرفين: تمثيل خصائص الله بالمخلوقات، وتمثيل خصائص المخلوقات بصفات الله، وهذا كله لا يجوز، والسلف طريقتهم حينما يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال أنهم ينفون التكييف والتمثيل، بخلاف ما يزعمه خصوم السلف من الجهلة وأهل الأهواء والبدع والافتراق بأن السلف يكيفون ويمثلون، ولذلك سموهم: مجسمة ومشبهة؛ لأنهم أثبتوا -أي: السلف- صفات الله، وعند أولئك القوم -أفراخ الفلاسفة- من أثبت أسماء الله وصفاته، أو شيئًا منها فهو ممثل مجسم، وهذا من الزيغ والعياذ بالله.
وكذلك أيضًا نثبت الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فلا نؤولها ولا ننكرها ولا نشير إلى أنها رموز، أو أنها خيالات، أو أنها أمثال تضرب لا حقيقة لها، وكل ذلك مسالك الفلاسفة والمتكلمين وأفراخهم ممن تأثروا بهم، أو حكموا عقولهم، أو سلكوا مسالك الأمم الضالة، بينما قاعدة السلف تنبني على الإثبات من غير تحريف، والتحريف هو التأويل، ومن غير تعطيل، والتعطيل هو الإنكار، والتحريف قد سلكته طوائف من الفرق، والتعطيل هو منهج الجهمية والفلاسفة، فينفون الأسماء والصفات لله ﷿، ويصفونه بالسلوب فيقولون: لا كذا ولا كذا، مما سيأتي بيانه، وهم في الحقيقة لا يثبتون شيئًا، وحينما ترد الأسماء والصفات في الكتاب والسنة فإنهم يقفون منها مواقف، فبعضهم ينكرها ويسخر من الكتاب والسنة، وبعضهم قد لا يجرؤ على إنكار الكتاب والسنة، لكن يصرفونها عن الإثبات فيقولون: هذه معان خيالية! أو هذه مثاليات! أو هذه أمثال تقرب وليست حقائق! أو هذه تنبني على التخييل ومحاولة ربط الناس بمعاني لا حقيقة ولا ثبوت لها! إلى آخر ما يقولونه، وهذا الصنف الأول.
وأما الصنف الثاني: فهم أهل الكلام، وهؤلاء قد سلكوا مسلك التحريف الذي هو التأويل، أي: أنهم قد عمدوا إلى أسماء الله وصفاته، أو إلى بعضها فأخرجوها من حقيقتها إلى معان تخيلوها في عقولهم، مع أن هذه المعاني قد اختلفوا عليها كثيرًا كما سيأتي بيانه، بل لا يكادون يتفقون على معنى.
بينما السلف قد قام دينهم على الكتاب والسنة، وقامت طريقتهم على الكتاب والسنة، وهو الإثبات لله ﷿ من غير تمثيل وتشبيه، وإن كانت كلمة: (التشبيه) فيها تفصيل، وكذلك الإثبات من غير تحريف ولا تعطيل، أي: من غير إنكار ولا تأويل؛ لأن التعطيل إلحاد، والتحريف قول على الله بغير علم، وقول في الغيبيات، وتحكم فيما لا علم للإنسان به، وخروج عن مقتضى الحقيقة إلى أوهام وظنون وتخرصات كما سيأتي بيانه.
1 / 8
نفي ما نفاه الله عن نفسه من غير إلحاد في أسمائه وآياته
قال ﵀: [وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف:١٨٠]].
هذه القاعدة بيان للقاعدة التي قبلها، وهي نوع من استظهار القاعدة السابقة بأسلوب آخر، ولذلك قال: (وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد)، والإلحاد هو التعطيل والتحريف الذي أشار إليه؛ لأنه كله إلحاد، لكن هناك إلحاد خالص وهو كفري، وإلحاد غير خالص وهو بدعي، فالتحريف والتأويل بدعة، وهو نوع من الإلحاد، والتعطيل كفر، وهو نوع من الإلحاد، وكلها تدخل في قوله ﷿: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف:١٨٠]، أي: في أسمائه وصفاته، سواء بالتعطيل أو التأويل.
قال ﵀: [وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت:٤٠] الآية.
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، ففي قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] رد للإلحاد والتعطيل].
نجد أن من السمات والمميزات التي ميز الله بها أهل الحق أنهم لا يحتاجون في الاستدلال على القواعد الكبرى إلى كبير عناء وجهد، بل يستطيع أصغر طلاب العلم إذا فقه أن يستدل على الحق بأيسر أسلوب وأخصر عبارة.
ولذلك فإن هذه الآية -التي تمثل القاعدة التي أشرت إليها قبل قليل- من تمثلها واستشعرها دائمًا فإنه بإذن الله سيوفق ويسدد للحق والصراط المستقيم، كما نجد أن الذين ضلوا سواء من أهل التشبيه أو من أهل التعطيل -وهم على طرفي نقيض- ما فقهوا هذه الآية، ولو فقهوها ما خرجوا عن الصراط المستقيم، وهي رد عليهم جميعًا.
ففي قوله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، يتمثل الحق الذي هو نفي النقائص والمماثلة عن الله ﷿، وإثبات الصفات لله ﷿ على نحو مفصل: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]؛ لأن من أثبت السمع والبصر أثبت بقية الصفات، ولزمه أن يثبت كل ما ثبت لله ﷿ في الكتاب والسنة.
وهذا أنموذج هذه القاعدة: لذا فالمشبهة الممثلة المجسمة، وهم من الرافضة المشبهة الأوائل، وقفوا عند قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، ولم يعتبروا بقوله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١].
وكذلك العكس، فالمعطلة والمؤولة الذين خاضوا في الأسماء والصفات، سواء الذين حرفوها بالتعطيل أو التأويل، كلهم غفلوا عن قوله ﷿: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، وهؤلاء وأولئك لو أخذوا بهذه القاعدة التي يستطيع أن يحفظها كل مسلم -وهذا من يسر دين الله ﷿ وكل عالم وطالب علم وكل جاهل وعامي، وكل من أعطاه الله عقلًا، لسلموا من الوقوع في الخطأ والزلل.
إذًا: فهذه القاعدة هي الميزان الذهبي في جميع مسائل وأمور الدين، وليس فقط في الأسماء والصفات، لكن عندما اختلت عند أهل الأهواء اختلت مناهجهم، فالذين أخذوا بأول الآية دون آخرها وقعوا في التعطيل، والذين أخذوا بآخرها دون أولها وقعوا في التشبيه، ولذا كان أكبر خطأ وقع فيه أهل الأهواء والبدع والافتراق أنهم أخذوا بالنصوص التي تصلح لهم وتركوا ما لا يوافق أهواءهم، كما أنهم لا يجمعون بين نصوص الشرع.
إذًا: هذه القاعدة مثال لكل مناهج أهل الأهواء والبدع، وليس فقط محصورة في الأسماء والصفات، فجميع أهل الأهواء والبدع قامت مناهجهم في الاستدلال على هذا النحو، فيأخذون من الأدلة ما يوافق مناهجهم، ويتركون ما لا يوافق مناهجهم، ولو أخذوا بشمولية الأدلة على نهج السلف في الاستدلال لما وقعوا في الضلالة، إن كانوا يريدون الحق، وإلا فمن أراد الله له الغواية فلا هادي له، نسأل الله العافية.
1 / 9
الأسئلة
1 / 10
من التكييف السؤال عن الكيفية
السؤال
هل نستطيع أن نقول: إن التكييف هو السؤال عن الكيفية؟
الجواب
نعم، من التكييف السؤال عن الكيفية، وليس كله.
1 / 11
نفي المماثلة والتشبيه عن الله تعالى
السؤال
هل صحيح أن قوله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، هو نفي للتمثيل لا للتشبيه، وعليه فالمخلوق مشابه للخالق؟
الجواب
لا، والكلام هذا لا ينبغي أن يكون على إطلاقه؛ لأن التشبيه بعضه تمثيل وبعضه ليس بتمثيل كما سيأتي في درس قادم إن شاء الله، وكلمة: (التشبيه) من الكلمات المجملة، أما كلمة: (التمثيل) فهي ليست من الكلمات المجملة، إذ أن التمثيل هو المماثلة، والمماثلة لا يمكن أن تكون بين الخالق والمخلوق أبدًا، لكن التشبيه يقصد به أحيانًا معاني مجملة، فقد يكون مجرد وصف الله ﷿ بالرحمة أنه تشبيه له بالمخلوق! إذًا: فكلمة: (تشبيه) عبث بها أهل الأهواء، فاستعملوها على غير وجهها، لذا فتحتاج إلى تفصيل، أما عند الإطلاق فلا يجوز أن نثبت لله تشبيهًا، لكن عند التعيين لابد من التفصيل.
1 / 12
حكم قول القائل: قدس الله روحه
السؤال
ما حكم قول القائل: قدس الله روحه؟
الجواب
هذه من الكلمات المجملة التي يقصد بها معاني عدة، فقد تكون بمعنى: رفعه إلى الجنة، وهذا مما يسع فيه الخلاف، لكن الأولى اجتنابها، وربما تعني: التعظيم الذي لا يجوز إلا لله ﷿، وهذا غير جائز، أما إن قصد به: أنعم الله ﷿ على عبده -وهو معنى بعيد- فهو يكون مما يتسامح فيه، ولكن الأولى اجتنابها.
1 / 13
حكم إطلاق لفظ القديم وواجب الوجود على الله تعالى
السؤال
إذا كانت القاعدة في باب الخبر: التسليم والتصديق وعدم الزيادة، فكيف جوز بعض السلف إطلاق ألفاظ محدثة على الله ﷿، مثل: قديم وواجب الوجود؟
الجواب
السلف لم يطلقوا على الله ﷿: قديم وواجب الوجود من باب التسمية، بل لا أعرف أحدًا من السلف المعتبرين أطلق على الله ذلك، إلا بعض العلماء زلوا بذلك، والزلة ليست محسوبة على السلف، إذ أن منهج السلف أنهم لم يسموا الله ﷿ بهذه الأسماء، ولذلك عندما تجدون مباحث وفصولًا في أسماء الله لا تجدون من ضمنها هذه الأسماء، لكن قد يرد في درج الشرح، أو في ثنايا الكلام عن الصفات كلمة: (واجب الوجود)، وهي من باب الخبر، أو من باب المجاراة والرد على أهل الأهواء.
إذًا: فرق بين العبارة التي يقصد بها تسمية الله على سبيل الاستقلال، وبين العبارة التي تأتي في درج الكلام عن صفات الله ﷿، فهذه لا يجوز أن يذكر فيها إلا الأسماء الثابتة لله ﷿، أو يقصد بها الإخبار عن الله ﷿؛ لأن باب الإخبار عن الله واسع، فنقول مثلًا: الصانع، مع أنها ليست من أسماء الله، لكنها تأتي في باب شرح معنى الخالق.
1 / 14
مسألة زيارة ورؤية الموتى بعضهم لبعض
السؤال
هل الموتى يتزاورون أو يرى بعضهم بعضًا؟
الجواب
هذه مسألة خلافية كما تعرفون، وهي ليست مما نتعبد الله بها حتى نقف عليها.
1 / 15
اتفاق السلف على عدم تخليد الفرق الثنتين والسبعين في النار
السؤال
هل الفرق الثنتان والسبعون ممن يخلد في النار؟
الجواب
لا، وهذا باتفاق السلف، والفرق الخارجة عن السنة على نوعين: فرق خرجت عن الملة نسأل الله العافية، مثل: كثير من الغلاة الذين وقعوا في الشركيات، أو وقعوا في الإلحاد، فهؤلاء ليسوا من الفرق الثنتين والسبعين، وفرق لم تخرج عن الملة، وهي فرق المسلمين، كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية الثانية لا الأولى، والمرجئة، وأهل الكلام، فهؤلاء من فرق المسلمين، وهم من أهل الوعيد، وحكمهم حكم أهل الكبائر والبدع، مع أن أغلب أهل الكبائر هم أهل بدع، والبدع هي أغلب الكبائر، لكن لا يخرجون عن مسمى المسلمين، ولا يجوز أن يعتقد تخليدهم في النار؛ لأنهم من أهل الوعيد، وتحت مشيئة الله ﷿.
وأرجو أن يفهم هذا جيدًا؛ لأن كثيرًا من الشباب قد صار عندهم خلط في هذه المسألة، فيظن أن مجرد قول النبي ﷺ: (كلها في النار إلا واحدة)، أنه من باب الخلود في النار، وأن حكمهم حكم الكفار! وهذا غير سليم وصحيح، ولذلك حتى الوعيد بالنار كوعيد الزاني أو السارق أو آكل الربا، لا يعني التخليد في النار، وهذا كله باتفاق السلف، فينبغي أن يفهم هذا جيدًا؛ وخاصة في مثل هذه الظروف التي كثر فيها الخلاف والتنازع على بعض الأمور.
1 / 16
حكم التخيل والتفكر في أسماء الله وصفاته
السؤال
أحيانًا قد يتخيل الواحد منا صفات الخالق جل وعلا، فهل يأثم ويحاسب بمجرد التفكير أم لا؟
الجواب
الخواطر التي تخطر للإنسان لا يسلم منها أحد أيًا كان، مسلمًا أو غير مسلم، فإذا سمع بأوصاف وأسماء فلابد أن يتخيل، وهذا الخيال ما دام أنه خيال عارض فلا يؤاخذ به المسلم، لكن يجب ألا يعتقده؛ لأنه من أسباب ضلال الذين ضلوا في أسماء الله وصفاته، فالمشبهة اعتقدوا ما يتخيلون فوقعوا في التشبيه الكفري، والمعطلة تخيلوا وظنوا أنه هو حقيقة أسماء الله وصفاته فوقعوا في التعطيل والتأويل، وكلاهما خطأ، لذا فالمسلم لابد أن يتخيل، لكن يجب ألا يعتقد خياله، فإن الله ﷿ أعظم وأجل مما نتخيله، أما أن يسلم الإنسان من الخيال فهذا محال، فالخيالات هي أمثلة في الذهن تقرب إلى الحقائق، أو تقرب صور الحقائق لا تقريب حقيقي، لكن تقريب تمثيلي خيالي، والخيال خيال ليس بحقيقة، وعلى هذا كون الإنسان يتخيل أسماء الله وصفاته هذا لا يضره، وإنما يضره أن يعتقد ما يتخيل، أو أن يبني على خياله أحكامًا، مثل: التأويل والتعطيل، وهذا هو الممنوع كما سيأتي بيانه.
1 / 17
شرح العقيدة التدمرية [٢]
المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله صلوات الله عليهم هو إثبات صفات الكمال على سبيل التفصيل، أما النفي لصفات النقص فجاء على ألسنتهم مجملًا؛ وهذا المنهج الرباني قد جانبه الفلاسفة الجهمية والباطنية ومن نحا نحوهم تمام المجانبة، فوقعوا في الضلال.
2 / 1
بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]، قال أهل اللغة: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥] أي: نظيرًا يستحق مثل اسمه، ويقال: مساميًا يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥] مثيلًا أو شبيهًا].
الإثبات المفصل يتمثل بما جاء تعداده من الأسماء الحسنى لله ﷿، ومن صفات الكمال والأفعال لله ﷿، وهذا قد ورد تفصيله في الكتاب والسنة، وهذا يسمى إثباتًا مفصلًا، ولذلك لابد من الإشارة إلى أمر مهم في مثل هذا المقام، وهو: أن الكتاب والسنة -أي: ما صح عن رسول الله ﷺ قد اشتملا على صفات الكمال المطلق لله ﷿، بما لا يحتاج البشر معه إلى تقرير أسماء وصفات لله من عند أنفسهم، نعم أسماء الله وصفاته لا تحصى ولا تعد، وليست محصورة فيما ذكره لنا، لكن ما ذكره الله ﷿ من أسماء وصفاته، وما ذكره له رسوله ﷺ من أسمائه وصفاته تشمل كل كمال يمكن أن يرد على ذهن بشر، بل يمكن أن يخطر على بال مخلوق، وكل كمال يمكن أيضًا أن ينطق به البشر على أي لغة؛ لأن كل ما جاء في الكتاب والسنة يشمل هذا الكمال وزيادة، بمعنى: أن أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة تتضمن كل كمال يمكن أن يرد في أذهان المخلوقات، وعلى ألسنة البشر بأي لغة، وعلى هذا فهم ليسوا بحاجة إلى تقرير اسم أو وصف جديد لله ﷿، ويتفرع عن هذا الأصل أصل آخر، وهو: أنه لو افترضنا أن أحدًا قال: أنا أعرف من الكمالات ما لم يرد في الكتاب والسنة، فنقول له: هات ما عندك، فلو جاء من عنده بوصف كمال فلابد أن يرجع هذا الوصف إلى ما ورد في الكتاب والسنة، بمعنى: أن الألفاظ الجوامع في أسماء الله وصفاته لابد أن تتضمن كل ما يرد على أذهان البشر وزيادة، يعني: أنها تفي بما يرد على أذهان البشر وزيادة، بل لله من الأسماء ما يمكن أن يجمع جميع الكمالات، مثل: اسم الجلالة: (الله)، و(الحي القيوم) و(ذو الجلال والإكرام)، و(العلي العظيم)، ونحو ذلك من الأسماء التي تشمل كل كمال.
2 / 2
منتهى الكمال في أسماء الله تعالى وصفاته
ومنتهى الكمال يرجع إلى ثلاثة أمور: الأول: كمال العلم، فالله ﷿ بكل شيء عليم، وقد ورد من أسمائه وصفاته الدالة على كمال العلم ما لا يمكن أن يأتي البشر بأفضل منه.
الثاني: كمال القدرة، فالله ﷿ على كل شيء قدير، وكل ما يمكن أن يرد في أذهان الناس من وصف كمال القدرة فقد تضمنته أسماء الله وصفاته في الكتاب والسنة.
الثالث: كمال الغنى، فالله ﷿ هو الغني، وكل العباد مفتقرون إليه، ولا يمكن للبشر أن يأتوا بوصف يدل على كمال الغنى أفضل مما ورد في الكتاب والسنة، وعلى هذا فإن ألفاظ الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته كافية لتتضمن كل كمال ممكن أن يرد على أذهان البشر وفي لغاتهم، ومن هنا لا يحتج محتج أو يدعي مدع أنه بحاجة إلى أن يقرر لله من الأسماء والصفات ما لم يرد في الكتاب والسنة، وكما قلت: بأن الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة ليست حاصرة لكمال الله، فلله من الكمال ما لا تحيط به العقول، وقد ورد ذلك في كثير من الأحاديث، مثل دعاء النبي ﷺ: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، أي: أن الله قد استأثر في علم الغيب من الكمال له، والأسماء والصفات ما لم يرد في الكتاب والسنة؛ لأنها فوق مدارك البشر.
وكذلك ما ورد في حديث الشفاعة: أن النبي ﷺ سيدعو الله في ذلك الموقف العظيم بمحامد يلهمه إياها لم يكن يعرفها في الدنيا، ولاشك أن كمال الله لا يحاط به.
إذًا: بعث الله رسله بإثبات مفصل، فقد فصل الله من أسمائه وصفاته ما فيه الكمال المطلق مما تدركه مدارك البشر، وما لا تدركه مما حجب عنها أعظم وأكثر مما ورد، والله أعلم.
وأما النفي المجمل، فيعني: نفي النقائص عن الله ﷿، مثل قوله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، فيدخل فيه نفي كل ما يمكن أن يتصور ويرد من النقائص، ومثل قوله ﷿: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٣ - ٤]، نفي مجمل لجميع النقائص، ولا نحتاج إلى أن نفصل كما تفعل الفلاسفة وأهل الكلام، فتكثر من كلمة: (لا) في أوصاف الله ﷿، فيقولون: لا كذا ولا كذا، ولا يفعل كذا ولا كذا، وهذه كلها إساءة أدب مع الله ﷿، فالله ﷿ يكفي في تنزيهه بالنفي المجمل الذي ورد في الكتاب والسنة، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٣ - ٤]، لكن قد يقول قائل: ألم يرد نفي نقائص في القرآن والسنة غير هذه؟
و
الجواب
نعم، قد ورد نفي النقائص التي وردت في عقائد أهل الباطل، ولذلك لا أعرف أن هناك نفيًا لم يرد ضد اعتقاد باطل على ألسنة البشر من المشركين والمنافقين والضالين، وكل ما ورد نفيه مما اعتقده أهل الباطل في الله ﷿ هو من النقائص، ولذلك تكفي هذه المجملات، وأما الأسماء والصفات فقد جاءت مفصلة كما هو معلوم.
2 / 3