بسم الله الرحمن الرحيم
هذا باب في
تفسير الكلم التي سميت بها الأفعال
قال الأعشى:
فاذهبي ما إليكِ أدركنى الحل ... م عدانى عن هيجكم أشغالى
وأنشد أبو زيد:
أعيّاشُ قد ذاق القيون مرارتى ... وأقدرتَ نارى فادنَ دونك فاصطل
وأنشد أبو عبيدة:
فقلتُ لها فيئى فإنّنى ... حرام وإنّى بعدَ ذاكِ لبيبُ
1 / 3
وأنشد أحمد بن يحيى:
إذهب إليكَ فإنّى من بنى أسدٍ ... أهل القبابِ وأهلِ الخيل والنّادى
وقال الفرزدق:
إذا جشأتْ نفسى أقولَ لها ارجعى ... وراءك واستحيى بياضَ اللهازم
وأنشد علىّ بن سليمان:
فرتْ يهودُ وأسلمتْ جيرانها ... صمّى لما فعلتْ يهودَ صمام
وقال:
أيوعدنى بالقتل أعورُ عاقرُ ... إليكَ فنهنه من وعيدكَ عامر
وقال الأسود بن يعفر:
كان التفرق بيننا عن مئرةٍ ... فاذهب إليك فقد شفيت فؤادى
وقال عمور بن كلثوم:
1 / 4
إليكم يابنى بكر ٍإليكم ... ألمّا تعلموا منّا اليقينا
[قال أبو على ﵀]: إن سأل سائل عن هذه الكلم، أأسماء هي، أم أفعال؟
قلنا: إنّها أسماء. والدّلالة على ذلك أنّها لا تخلو من أن تكون أمساءً، أو أفعالًا.
ولو كان شئ من ذلك فعلًا، لا تّصلَ الضميرُ بما اتّصل به منها، على حدّ ما يّتصل بالأفعال، فلمّا اتّصل به على حدّ اتّصاله بغير الفعل، ثبت أنّه اسم، ليس بفعل.
فلمّا كان هاء اسمًا لقولهم: خذ، واتّصل به الضمّيرُ، على اتّصاله بغير الفعل، في قولهم: هاؤما، وهاؤمُ،، ولم يكن: هاءا، ولاهاءوا، كقولهم: اضربا، واضربوا، ولكن كقولك: أنتما، وأنتم، دّل أنّهليس بفعل، وإذا لم يكن فعلًا كان اسمًا.
فإن قلت: فقد يتّصلُ الضّميرُ بالفعل، على حدّ ما اتّصل بهاؤما، وهاؤمُ، وذلك قولك: قمتما، فهلاّ لم يدلّ اتّصاله على هذا الوجه عندك، أنّه اسم، إذ قد يتّصل بالفعل، على ما أريناك؟
قيل: هذا ليس بداخل على ما قلنا، لأنّ ما أورته من قمتما ليس بأمر وهذه الكلم موضوعة للأمر، فلو كان فعلًا لا تّصل بها الضمير، على حدّ ما يتّصل بأمثلة الأمر، فلمّا لم يتّصل به، على ذلك الحدّ، دلّ ذلك [على] أنّه ليس بفعل.
1 / 5
فإن قال: فهلاّ زعمت أنها أفعالُ، لأنه كما اتّصل به الضمير، على حدّ ما ذكرته، ممّا يتّصل بغير الأفعال، فقد اتّصل به أيضًا على نحو ما يتّصل بالفعل، لأنّ أبا عمر قد حكى أنّ منهم من يقول: هاءا، ومهاءوا، فهذا مثل: اضربا، واضربوا.
أو هلاّ قلت: إنّه يكون اسمًا تارةً، وفعلًا أخرى.
قلت: إنّ الذي قال: هاؤما وهاؤمُ، فهو عنده اسم، والذى قال: هاءءءا، وهاءوا، فهو عنده فعل، كما أنّ من قال: مررتُ عليه، كانت الكلمة عنده حرفًا، والذى قال: من عليه، وكانت عنده اسمًا
قيل: قد ثبت أنه اسمُ. بالدّلالة التي ذكرنا، من اتّصال الضّمير به، ومن قال: هاءا أو هاءى، فإنه عنده اسمُ أيضا، في الأصل، إلاّ أنّه لمّا كان واقعاّ موقع مثال
الأمر، أجراه مجراه، في اتّصال الضّمير به، على حدّ اتّصاله به، وأجراه مجرى ما يقابله، ويستعمل استعماله، من قولهم: هاتِ، وهاتيا، ألا ترى كيف ألحق حرف الّلين آخرها، كلحاقها في آخر هاتى، والمهاتاة، فشّبهه بهذا، كما شبّه ليس بما،
1 / 6
عند سيبوبه، في قولهم: ليس الطّيب إلاّ المسك، حيث كانت بمعناه، وواقعة موقعه.
واتّصال الضّميرِ بقولهم: هاء، في قول من قال: ها إيا، لا يدلّ أنّه فعلُ محضُ، إذ كان للشبّه بغيره، كما أنّ اتّصالَ الضّمير بليس، على حدّ اتصاله بكان، لم يجعله مثله، وإن كان قد جعل في الإعمال بمنزلته، ألا ترى أنه ينفى بليس ما في الحال، كما ينفى بما ما كان في الحال، فكونها على أمثلة الماضى، إنمّا هو شبه لفظىُّ، لا حقيقة تحته.
يدّلك على ذلك. أنّه لا يدلّ على زمان، كما يدلّ سائر أخواته عليه.
فأمّا دلالته على نفى الحال، فهى على حدّ دلالة (ما عليه، فلو جاز لقائل أن يقول: إنّه يدلّ على الكائن الذي لم ينقطع، كما تدلّ الأمثلة ُ. لجاز لآخر أن يقول ذلك بإزائه، في ما.
على أن ذلك يفسد من موضع آخر، وهو أنّه لم يلحقه من حروف الضارعة. شئ، ولو كان من أمثلة الحال، لم يخل من أحدها.
فإذا فسد كونه مثالًا للحاضر بهذا، ثبت أنه لا دلالة فيه على ما مضى، ولا على ما لم يقع، ولا على ما هو كائن لم ينقطع.
وإذا خلا من ذلك، لم يكن في الحقيقة فعلًا، إلا أنّه لماّ كان وصلهم المضمر به، على حدّ وصله بالأمثلة المأخوذة من الأحداث، ولم يكن ذلك في ما ونحوه، وذكره النحويّون مع الفعل، وإن لم يكن فعلًا، كما ذكروا إمّا مع حروف العطف، وإن لم يكن
1 / 7
حرف عطف، وليس في الحقيقة كذلك، ألا ترى أنّ هذه الأمثلة إنّما صيغت
لتدلّ على ضروب الزّمان، ولولا ذلك لأغنت ألفاظ الأحداث عنها، يدلّك على ذلك أنّها بنيت على أقسام الزّمان، فكما كان الزّمان على أنحاء ثلاثةٍ عندهم، كذلك كانت هذه الأمثلة التي صيغت من ألفاظ الأحداث، ويدلك على ذلك في الأمثلة، وخلعوا منه دلالة الحدث، وذلك في الأمثلة الداخلة على الابتداء والخبر، فمن ثمّ لزمتها الأخبارُ، وكان الكلامُ غيرَ مستقلّ بهذه الأمثلة مع الفاعل، لتوازى هذه الجملة ُ، بلزوم هذه الخبر لها، الأمثلة التي لم يخلع عنها دلالة الحدث. ألا ترى أنّها لو لم تلزمها الأخبار، لا نتقصت عنها، ولم توازها. فكان تجريدهم هذه الأمثلة للأزمنة، وخلعهم دلالة الحدث عنها، كتجريدهم من بعض الكلم، الخطاب، وخلعهم معنى الاسم عنه، وذلك قولهم: ذلك، وأولئك، وأنت، فكما أنّ الغالب والأعمّ في هذا، معنى الحرف، بدلالة بنائهم [لها] قبل خلع معنى الاسم عنه، كذلك نعلم أنّ الغالب والأعمّ في هذه الأمثلة، إنّما هو دلالة الزّمان، فمن ثمّ جاز أن يخلع عنها معنى الحدث، فتتجّرد دلالتها على الزّمان.
ويدّلك على ذلك، أنّه ليس مثال من هذه الأمثلة، التي تنزعُ عنها دلالتها على الحدث، إلا وجائز فيه أن لا ينزع ذلك عنه، فيستقل بفاعله استقلال سائر الأمثلة بفاعليها.
فالأصل الثابت في هذه الأمثلة، هو ما ى ينفك من دلالتها عليه، ومن ثمّ جاءت المصادر المشتقّة منها هذه الأمثلة، دالّةً على الحدث، دون الزّمان، ألا ترى أنّ الكون
1 / 8
الذي هو مصدر المثال بفاعله في دلالته على الحدث، كالكون الذي هو مصدر المثال الذي لا ستقل به؟
فهذا ممّا يدلّك على أخذ المثالين جميعًا من لفظ الحدث، وإنمّا جرد دلالة الزّمان، ليعلم أنّ الغرض في صياغة هذه الأمثلة إنّما هو الدلالةُ على أقسام الأزمنةِ.
وإذا كان حكم الأمثلة، هذا الذي ذكرنا، ولم يكن في ليس دلالة على ضرب من
الضروب الثلاثة، ثبت أنه ليس بفعل على الحقيقة، وإنّما أجروها مجرى الأفعال في اللفظ، كما أجروا ما مجراها، وكما أنّ أخواتها أجريت مجراها، [وكما] جعلوا النون في لدن عدوةً بمنزلة النون في ضارب ونحوه، من الأسماء المعملة عمل الفعل.
1 / 9
ويدلّك على أنّها ليست كالأمثلة التي ذكرناها، أنّها لا توصل بها ما التي تكون مع الفعل في تقدير المصدر، كما وصلوها بأخواتها، ألا ترى أنك لا تقول: ما أحسن ما ليس زيدُ قائمًا، فتصل بليس [ما]، كما لا تصلها بما النافية. فهذا مما يبين أنّها ليست بمنزلة أخواتها، وأنه قيل فيه: إنّه فعلُ، للشبه اللفظى ّ.
فكما كان هذا حكم ليس، وإن أتّصل بها الضمير على هذا النحو الذي اتّصل [به]، كذلك [يكون] حكم هاء في قول من قال: هاءيا، هاءوا.
واعلم أن قولهم: هاؤما، وهاؤموا، من نادر العربية، وما لا نظير له، ألا ترى أنّه ليس في الأسماءِ السمّى بها الأفعالُ. اسمُ ظهر فيه علامة الضّمير، كما ظهر فيه علامة الضمّير، كما ظهر في هاؤما، وهاؤم، وإنّما يكون الضمير الذي تتضمنّه على حدّ الضّمير الذي يكون في أسماء الفاعلين، وهذا مما يدّيلك أنّها أسماء، لأنّ الضّمير لا يظهر في الأسماء المقامة مقام الفعل، إلا أن ذلك وإن كان نادرًا عن قياس نظائره، فهو غير شاذ في الاستعمال، ألا ترى أنه قد جاء في التنزيل: (هاؤمُ اقرءوا كتابيهْ)، وقد جاء أيضًا على قياس نظائره.
1 / 10
وحكى أبو عمر أنّهم يقولون: ها يارجل، وها يا رجلان، وها يا رجال، وهذا بمنزلة رويد) في أنّك تستعمله للواحد والاثنين والجميع.
فأمّا الوجه الآخر، فهو نادر عن قياس نظائره، وقليل في الاستعمال أيضًا على ما حكاه أبو عمر، وقلّة هذا في الاستعمال، كقّلة الاستعمال ليس الطّيب إلا المسك على التشبيه بما.
ونظير ها في القياس ليس، إلاّ أنّ ليس مطّرد فلا الاستعمال، كثير فيه، وهذا غير مطّرد فلا الاستعمال.
وممّا يدّلك على أنّ هذا الضرّب أسماءُ، وليست بأفعال: أنّ فعال، نحو دراك [ونزال] وتراكِ، لا يخلو من أن يكون اسمًا، أو فعلًا، فلو كان فعلًا لوجب إذا نقلته، فسمّيتَ به شيئًا، أن تعربه، ولا تدعه من بنائه، ألا ترى أنّ الأفعالَ إذا نقلتْ فسمّى بها، تعربُ، وتزالُ عمّا كانت عليه من البناء، قبل النّقل، لا تختلفُ العربُ ولا النحويّون في ذلك، وإنكان عيسى قد خالفَ في كيفيّة الإعراب.
وأنت إذا نقلتْ شيئًا من ذلك، فكان في آخره راءُ، تركته، في قول الحجازّيين والتّميميين، على بنائه، ولم تغيرّه عمّا كان عليه قبل النقّل، فدّل ذلك على أنّه اسمُ، إذ لو كان فعلًا لغيّرتَ، كما غيّروا: [أضربْ و] كعسبَ، ويزيدَ، ونحو ذلك عمّا كان عليه قبل التسمية به.
1 / 11
فإن قلت: هلاّ قلتَ إنه فعلُ، لإعراب بنى تميمٍ، من ذلك في التسمية، ما لم يكن آخرهُ راءً؟
قيل: هذا لا يدلّ، لأنهم جهلوه بمنزلة أينَ و(٠ كيف إذا سمّىَ به، وإجماعهم مع الحجازّيين، على إقرار البناءِ فيه بعد النّقل، فيما كان آخره راءً، دلالةُ على أنه اسمُ عندهم، فلم يغيّروه عن البناءِ، كما لم يغيّروه قبلُ، لأنّه في كلا الموضعين اسمُ.
فإن قلتَ: إنما لم يعربه، لأنه [قد] حكى، فكان بمنزلة برقَ نحره، ونحوه.
قيل: هذا لا يستقيم، لأنّ الضّميرَ الذي يحتمله هذا الضّربُ، ليس على حدّ ما يحتمله الفعلُ، إنّما هو على حدّ ما يحتمله الاسمُ، ألا ترى أنّه لا يظهر إذا جاوزتَ الواحد، في عامّة هذه الأسماء كما لا يظهرُ في أسماءِ الفاعلين، والظّروف ونحوها، ولو كان الضّميرُ فيها على حدّ كونه في الأفعال، لظهرتْ له في اللفظ
علامةُ، فلمّا لم تظهر [كما لم تظهر] في أسماء الفاعلين، والصّفات المشبّهة بها، دلّ على أنّها احتملت الضّميرَ، على حدّ ما احتملته، وإذا كان ذلك لم تحكه، كما لا تحكى اسماءَ الفاعلين، إذا سمّيتَ بها في الأمرِ الأشهر الأفشى، فلا يكون إذنْ سفارِ وحذامِ في الحكاية، كقوله: أنا أبن جلا، ولكم جذامِ في قوله:
إذا قالتْ حذامِ فصدّقوها
1 / 12
بعد النّقل، مثله قبل النّقل، لأنه نقله من اسمٍ إلى اسمٍ، فتركله في النّقل على حالهِ قبل النّقل.
فإن قلت: فهلاّ استدللتَ بتنوين ما نوّنَ من هذا، على أنّه اسمُ، نحو صهْ وصهٍ، لأنّ التنوين مما يختصُّ الاسمَ، كما أنّ دخولَ لامَ التعريف كذلك؟
فإنّ هذا التنوينَ الذي في صهٍ ليس الذي في يدٍ، ودمٍ، ألا ترى أنّ هذا إنّما يلحق بعد استيفاء الاسمِ جميع وجوه الإعراب، ونمكّنه فيه، وقد لا يلحق ضربًا منها، وإن كان معربًا، كبابِ ملا ينصرف ُ.
فإذا كان التنوينُ من وصفهِ أن لا يلحقَ إلاّ بعد تمكّنِ ما يلحقه في الإعراب، ولم يكن صهٍ وبابه معربًا، علمتَ أنه ليس إيّاه، ولكنه التنوين الذي يلحقُ الأسماء التي هي غير متمكنّة، وما أشبهها في قلّة التمكّن من الأصوات، نحو غاقِ، وعمرويهٍ، فيدلّ على أن المرادَ بالاسم، أو بالصّوت، النّكرةُ، فلهذا [المعنى] يلحقُ، وليس الذي يلحقُ بعد استيفاءِ الاسمِ وجوه الإعراب كذلك، ألا انه يلحقُ المعرفة، في نحو زيدٍ، وجعفرٍ، وفرذدقٍ، كما يلحق النكرة، في رجلً، وفرس ٍ، فتعلم أنّه، وإن كان على لفظه، فهو غيره، كما أنّ الذي يلحقُ القوافىَ [في] نحو:
من طللٍ كالأتحمّى أنهجنْ
1 / 13
غير هما، وإن كان على لفظهما، ألا ترى أنه يلحقُ الفعلَ، كما يلحقُ الاسمَ، ويلحقُ ما فيه لامُ المعرفةِ، كما يلحقُ ما لا لامَ فيه، ويلحقُ المعرفة َ، كما يلحق
النكرة، ولو كانت التي في زيدٍ، ورجلٍ، لم تلحقْ في قوله:
يا أبتا علّكَ أو عساكنْ
ولا مع الام، في قوله:
يا صاحِ ما هاجَ الدّموعَ الذّرفنْ
و:
أقلّى اللّومَ عاذلَ والعتابنْ
1 / 14
فقد تتفّقُ الألفاظُ في الحروف، وتختلفُ المعانى، كما كان ذلك في الأسماء والأفعال.
وهذا باب منه آخر
أنشد أحمدُ بن إبراهيم، قال أنشدتنى امرأةُ من بنى قريط بن أبى بكر بن كلاب:
أوّه من ذكرى حصينٍ ودونه ... نقًا هائلُ جعد الثّرى وصفيحُ
قال: قالت: أوّهِ من ذكرى [أوّتِ من ذكرى]، وأوّيةِ من ذكرى، كلّ ذلك تأوّهُ.
قال أبو علىّ ﵀: أمّا أوّهِ [من ذكرى]، فمن قولهم، أوّاهُ، وآهةَ الرجلِ الحزينِ، وكان القياسُ أن تسكّنَ الهاءُ التي هي لامُ، لأنّ ما قبلها متحرّكُ، وما قبل الآخر من أفّ ولبّ غير متحرّك، ومن ثمّ أسكنوا الآخرَ من قولهم:
بذخْ بقرقارِ الهديرِ بذّاخْ
1 / 15
قال أحمد بن يحيى: معناه افخرْ به. إلا أنّه حرّك الآخر، من أوّهِ للإتباع، إذ قد فعلوا [ذلك] ببعض المعرب، نحو أخوكَ.
وأمّا أوّت من ذكرى، فمن ذكرى، فمن قولهم: آوّتاهْ، الفاء همزةُ، والعينُ والّلامُ من باب قوّةٍ.
ويحتمل ضربين: أحدهما أن يكون الفعلُ سمّىَ بغعلةٍ، كما سمّىَ بلبّ، وبأفّ، والكسرةُ فيه للبناء، ويقاربُ ذلك قولهم: كيّةَ، ودّية َ.
والآخرُ: أن يكون على فعلةٍ، والألفُ على حدّ التي في منتزاح، لأنّه لو كانت فاعلةً لا نقلبت اللامُ ياءً،
1 / 16
ولم تدغم العين فيه، ألا ترى أنّك لو بنيت مثل فاعلةٍ من قويت، لقلت: قاويةُ غدًا، ويمكن أن تكون فاعلةً في الأصل، إلاّ أنّ الواو صحّتْ، لأنه لم يشتق منه فعل، فيلزم قلب الواو الى الياء، فلمّا لم يجر على الفعل، وكانت مبنيّة على التأنيث، [صحّتْ] كما صحّت في شقاوة وغباوة، ونحو ذلك.
ويجوز أن تكون أوّت من ذكرى فعلة، سمّى بها الفعل، ألا ترى أنّهم قالوا: كان من الأمر كيّةَ وكيّةَ، وذيّةَ وذيّة، فكنوا بها لاعن الجمل، كذلك تكون اسمًا للفعل.
وأمّا أويّةِ من ذكرى فينبغى أن يكون تحقير أوّت، وحقرت كما حقّرت الأسماء المبهمة ُ، كما حقّر الذي والّتى، تحقيرها، ففتح الأوّل منه، كما فتح من المبهمة، ومن الذي، وهذه أجدر، لأنّها أقلّ تصرفاّ، والضمير الذي فيه لا يمنع من تحقيره، الا ترى أن رويد مصغّر، وهو اسم الفعل، لأن الضمير [الذي] فيه على حدّ الضمير الذي في اسماء الفاعلين، وما شبّه بها من الصفات.
ويجوز أن تكون أوّية تصغير آوّة، كقولك في حارثٍ: حريثُ، وأما قول الشاعر:
أولى فأولى يا امرأ القيس بعدما ... خصفنَ بآثار المطىّ الحوافرا
1 / 17
فإن أولى وزنه أفعل، من ولى يلي، كأنه يريد وليه الشّرُّ، وما يكرهه، وهو اسيمُ، إلا أنّه لا ينصرف، لأنه قد صار علمًا للوعيد، فصار بمنزلة رجلٍ اسمهُ أحمدُ، كما أنّ ما حكاه أبو زيد، من قولهم:
ما رأيت عنده أبعد، علم كذلك، فكذلك قولهم:: [أولى] وأمّا في التنزيل:
(أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى)، فهذا خطاب للموعد، وموضعه رفع بالابتداء، وحذف الخبرُ الذي هو
لك بعد قوله: (أولى) الثانية، كما حذف من قولهم: زيدُ منطلقُ وعمرو.
فإن قال قائل: أيجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويكون التقدير: الوعيد أولى لك من غيرك، فحذف المبتدأ، وألزم الحذف المبتدأ، وألزمَ الحذفُ الخبرَ، كما ألزمَ الحذفُ الصفّةُ، في قولهم: رأيته عامّا أوّل، وقول الشاعر:
يا ليتها لأهلى إبلا ... أو هزلت في جدب عامٍ أوّلا
أو هل يجوز أن يكون أفعل ميتدأ، والمراد به: أفعل من غيرك، ولك الخبرُ؟
1 / 18
فالقول في ذلك: أنّ أولى لا يجوز في واحد من التقديرؤين، أن يكون أفعل من كذا، كما كان ذلك في عامٍ أوّل، ونحو قوله: (فإنّه يعلمُ السّرّ وأخفى)، لأنّ أبا زيدٍ حكى أنّهم يقولون: أولاة الآن، وهاه الآن، إذا أودوا، فدخول علامة التأنيث على أفعل يدّلك أنّه ليس بأفعل من كذا، وأنّه مثل أرملةٍ، وأضحاةٍ، في أنّه علة أفعل، لا يراد فيه اتّصالُ الجارّ به، إلاّ أنّهم جعلوا المؤنث فيه أيضا معرفة، كما جعلوا المذكّرُ كذلك، فصار شئٍ سمّىَ بأضحاة، فلم ينصرف.
فأمّا ما في البيت من قوله: أولى فأولى يا امرأ القيس، فإنّ الخبر منه محذوف، للعلم به، ألا ترى أن الكلمة استعملت كثيرًا في الوعيد، حتى صارت علمًا لله، فحذف الخبر لذلك.
والمعنى في [قوله] بعد ما خصفنّ بآثار المطّى [الحوافرا]: [بعدما]
1 / 19
خصفنّ بآثار قوائم آثار الحوافر، ومثل ذلك في المعنى:
مستحقباتُ رواياها جحافلها ... يأخذنَ بينَ سوادِ الخطّ فالّلوبِ
ومثله قول الأعشى:
وما خلتُ أبقى بيننا من موّدة ... عراضُ المذاكى المسنفاتِ القىئصا
فإن قلت: أيجوز أن يكون أولى اسمًا للفعل، وفيه ضمير المخاطب، كأفّ،
1 / 20
ولبّ، وشتّان، ووشكان، وسرعان، وما أنشده أبو زيدُ، من قوله:
لو شكان ما غنّيتمُ وشمتّمُ ... بإخوانكمْ والعزّ لم يتجمّع
ويكون لك في أولى لك لا يكون الخبر، ولكنه بمنزلة قولهم: لك في هلمّ لك للتّبيين، وفى سقيًا لك، ونحو ذلك، ويكون امتناع التّنوين من الدّخول عليه، كامتناعه من الدّخول على سرعان ونحوه، [لا] كما امتنع من الدّخول على غير المنصرف.
فالقول ذلك أنّ أبا زيدٍ حكى [عنهم] أنهم يقولون: أولاة الآن، بالرفع، وهذا تأنيث أولى، ولو كان اسمًا للفعل، لم يرفع، ألا ترى أنك لا تجدُ فيما سمّىُ به الفعل شيئًا مرفوعًا، فتجعل أولى مثله.
فأمّا الكسر في أوّة فللبناء، ولا يكون التقديرُ بالكلمة، بالإضافةَ، لأنّ هذه الكلمُ لم تضف.
1 / 21
فإن قلتُ: فهلاّ جازت الإضافة فيها، كما جازت إضافةُ أسماءِ الفاعلين، والصفّات المشبّهة بها، وفى كلّ من ذلك ضميرُ.
فالقول أن ّ ذلك الضميرَ، الذي في اسم الفاعلِ، لمّا لم يقعْ به اعتدادُ، صار الاسم الذي يتضمنه بمنزلة غلامٍ، ورجلٍ، وليست هذه الأسماءُ كذلك، ألا ترى أنها قد قامت مقام الجمل، في نحو: صه، ورويد عليّا، فلمّا مقامها لم تجز إضافتها، كما لم تجز لإضافة الجمل.
فإن قلت: فقد قالول: رويدُ زيدٍ.
فهذا ليس سمّىَ به الفعلُ، ولكنه المصدر المصغّر بحذف الزّوائد، وعلى هذا وصف به، في نحو: ضعه وضعًا رويدًا، وكذلك القول في بله زيداّ، من نصب زيدًا، جعل بله اسمًا للفعل، ولا يجوز إضافته على هذا القول، ومن قال: بله زيدٍ، جعله مصدرًا مضافًا، مثل رويدُ زيدٍ.
وإذا لم يجز إضافة هذه الأسماء، كانت الهاء في تراكها، ومناعها، في موضع
1 / 22