وكانت أمهما من السيدات العاقلات المجملات بأحسن الصفات قد أرضعتهما بلبانها وأشربتهما منذ الصغر روح التقى والحشمة، فنشأتا في حجرها ومهدتا في كنفها وسترها ودرجتا من وكرها، وهما تألفان الدار الوالدية لا ترضيان لها بديلا، وكادتا لا تعرفان من العالم إلا اسمه، فكان من يراهما يستدل بصفاء عيونهما على طهارة قلبهما.
وبمجمل القول: إن «سوسنة» و«وردة» كانتا تحققان بشخصيهما ما افتتحنا به كلامنا عن ائتلاف الأخوات الشقيقات، والحق يقال إن الأخوة كانت تأنست منهما بملاكين أرضيين فأخرجتا إلى حيز الوجود ما تخيله القصاصون في رواياتهم المختلفة ذات الغلو البين عن أمر التوأم وما يوجد بينهم من العلائق الوثيقة.
ومن خواص الابنتين المذكورتين تشابههما بالخلقة والقد والصوت كتشابه الذرة بالذرة، لم تفرز بينهما العين اللهم إلا عين والدتهما، أما باقي أهلهما فاضطروا إلى أن يفرقوا بين النجلتين زمنا طويلا بعلامات خاصة؛ لئلا يقع التباس بينهما.
وبقيتا على هذه الحال إلى السنة الثانية من عمرهما، حيث بدا في وجههما بعض تباين، وذلك بأن لون «سوسنة» جعل يضرب إلى البياض وشعرها إلى الشقرة، بينما أضحت «وردة» مزدهرة اللون قانئة الشعر كأن الطبيعة نوت فيهما تطبيق المسمى على الاسم، وجارت الأم الطبيعة بأن كستهما ثيابا تشعر باسميهما وخلقتيهما.
ولا غرو أن ما سبق لنا من الوصف لخلق الشقيقتين وخلقهما وقع في قلب البارون «دي لينس» موقعا أثيرا، وما زاد على ميله نحوهما ما طبع هو نفسه عليه من لين العريكة والهمم العالية، ونما اعتباره للأختين لما رآهما تتباريان فضلا وصلاحا لا تعكر بينهما صفاء الوداد شائبة فكان يشبههما بزنبقتين نمتا من فرع واحد تزدهيان حسنا وتتكاتفان ولاء.
وفي واقع الحال كانت «سوسنة» و«وردة» مرتبطتين ارتباطا غير منفصم، تتشاطران الأفراح والأتراح وتتباثان الأفكار والعواطف فتخالهما نفسا واحدة في جسدين.
وكان مع ذلك في طبعهما بعض اختلاف، فإن «سوسنة» كانت كثيرة التصون بينما كانت «وردة» فكهة طيبة النفس، فكانت من ثم تميل «سوسنة» إلى التخلي والانفراد، وربما فكرت أن تلبس الثوب الرهباني في جمعية الراهبات اللواتي ربينها صغيرة وهذبنها فتاة، وأفشت بسرها لأختها «وردة». بيد أن هذه استولى عليها الكأب وصرحت لأختها ألا سبيل للفراق مطلقا، فلم تعد «سوسنة» إلى الكلام بهذا الصدد.
أما البارون «دي لينس» فمع ما وجده في نفسه من الانعطاف إلى الأختين كان يشعر قلبه مائلا إلى وردة أكثر منه إلى «سوسنة» يسره منها طلاقة لسانها وتوقد ذهنها ودعابة طباعها، فضلا عن سذاجة أخلاقها واستقامة قلبها.
فمذ ذاك الحين لم يعد يرى مانعا لأن يتأهل؛ لأنه كان وجد المرأة الفاضلة التي يصفها السفر الكريم ويؤثرها على قيمة اللآلئ، ولم يلبث اعتباره لخصائل «وردة» أن يتحول إلى مودة صادقة وحب متين، ولما انتهى بعد شهرين زمن رخصته فآن وقت رجوعه إلى أثينة صرح إلى القنصل بنيته وخطب منه ابنته «وردة»، فبعد فحص الأمر وعرضه على الفتاة لم ير المسيو «ب» بدا من الإجابة إلى طلبته.
3
Неизвестная страница