قال علي: بارك الله عليك في مالك وولدك! ولكن أفهمت معنى الآية التي تلاها الشيخ؟ قال عبد الرحمن: لم أفهمها، ولكني قدرت أن الأمانة هي هذه الولاية التي يتعرض لها خالد على حين قد خلق للتجارة والعمل فيما نعمل فيه من أمور الدنيا، وما ينبغي أن نتحرى الدقة حين نسمع شيوخنا يتحدثون أو يتلون القرآن ويروون الحديث؛ فإن لهم آفاقا لا نبلغها، ولو قد فهمنا عنهم كنه ما يريدون لكنا مثلهم أساتذة وشيوخا، وأنت تعلم أنه لم يؤذن لنا في شيء من ذلك. قال علي: لأراجعن الشيخ فيما أراد إليه.
وأنفق الصديقان يومهما كما تعودا أن ينفقا أيامهما، فلما صليت العصر وشربت القهوة، وكان التدخين والنشوق، سعيا إلى الشيخ، فأقاما عنده بين التلاميذ والمريدين ما شاء الله أن يقيما، وعلي يهم أن يراجع الشيخ فيما سمع منه، ولكنه لا يجرؤ. حتى إذا نودي لصلاة المغرب التفت الشيخ إلى علي باسما، وقال له: يا علي، زوج ابنك وليعنك علي ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية التي لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة. وهم علي أن يسأله، ولكنه نهض فاستقبل القبلة وأقام الصلاة وصلى من خلفه تلاميذه ومريدوه.
وكان الشيخ إذا أقام صلاة المغرب لم يفرغ لأحد بعدها، وإنما يمضي في تسبيحه وتحميده حتى يتقدم الليل، فيقيم الصلاة الآخرة، ويمضي في تسبيحه وتحميده ساعة تطول أو تقصر حسب ما يكون من إقامة الذكر أو لا يكون، ولكنه على كل حال لم يكن يخلص لأصحابه إلا في ساعة متأخرة جدا من الليل. وقد حضر الصديقان مع شيخهما صلاة المغرب والعشاء وطرفا غير قصير من تسبيحه ودعائه، ثم انصرفا ولم يستطع علي أن يراجع الشيخ في شيء، وإنما عاد إلى أهله مشغولا كثير التفكير، ولكنه على ذلك لم يتحدث إليهم في شيء، بل ركع ركعتيه وأوى إلى مضجعه، فتلا آية الكرسي وترك نفسه للنوم، ثم أصبح من غده كما أصبح من أمسه حائرا يسأل نفسه عن هذه المعونة التي طلبها الشيخ إلى عبد الرحمن، ويؤكد بينه وبين نفسه أنه سيراجع الشيخ لا محالة ليعرف منه ما أراد. وقد أقبل الصديقان على شيخهما، فصليا معه المغرب والعشاء، ومضيا معه في تسبيحه وتحميده ودعائه ينتظران حلقة الذكر، ولكن الشيخ التفت فجأة إلى الصديقين، وأعاد على علي للمرة الثالثة مقالته وتلا عليه الآية. وهم علي أن يسأله، ولكن الشيخ قال باسما: سبحان الله! ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما شأن نفيسة؟! ثم أمر بإقامة الذكر، وقد فهم عنه الصديقان، ولم يستطيعا مع ذلك أن يقولا له شيئا، أو يسألاه عن شيء، على أنهما لم يعودا صامتين بعد أن تفرقت الحلقة، وإنما قال عبد الرحمن لصاحبه: أفهمت الآن هذه المعونة؟ قال علي: قد فهمتها منذ الليلة الأولى، ولكني لم أكن أقطع بذلك ولا أجرؤ على تقديره عن أن أحدثك فيه. قال عبد الرحمن: فإن هذا الخاطر لم يخطر لي، وما كنت أعرف أن الشيخ يعلم أن لي ابنة، وأن اسمها نفيسة. قال علي: فإن الشيخ لا يخفى عليه شيء من أمر تلاميذه ومريديه، ولكن ما رأيك فيما أصدر إلينا من أمر؟ قال عبد الرحمن: سنستخير الله وسنتحدث إذا كان الغد. ودخل علي على أهله فرحا مسرورا يقول: أبشري يا أم خالد، فستزورين القاهرة بعد قليل. قالت أم خالد مبتهجة: شيئا لله يا أهل البيت، ولكن زوجها كان قد استقبل القبلة ليركع ركعتيه.
الفصل الثاني
وكان الحديث بين الصديقين أثناء قهوة الصباح قصيرا سريعا حاسما، بدأه علي حين سأل صاحبه هل استخرت الله؟ قال عبد الرحمن: صدق الله العظيم:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا . وقد أرتني الأحلام شيخنا غير مرة يتلو علي هذه الآية، فأفقت وأنا واثق أن الخيرة فيما اختاره الله.
قال علي متهللا: فابسط يدك لنقرأ الفاتحة. قال عبد الرحمن: مهلا أبا خالد؛ فإن بيننا وبين ذلك أمورا ثلاثة. قال علي: وما هي؟ قال عبد الرحمن: أما أولها: فأن تعلم أن ابنتي قبيحة الشكل بشعة الصورة، لا تكاد تقع عليها العين إلا انصرفت عنها مشمئزة، وانحرفت عنها نافرة. وأما الثاني: فهو أن لابنك أما كما أن له أبا، ويجب أن تعلم من هذا الأمر كله مثل ما نعلم، ويجب أن تنقل إليها في أمانة ما حدثتك به عن قبح ابنتي. وأما الثالث: فهو أنك لن تتزوج ابنتي وإنما سيتزوجها خالد، فيجب أن يعلم من هذا الأمر ما نعلم، ويعرف أن الشيخ لا يهدي إليه عروسا رائعة، وإنما يبتليه بمحنة مروعة.
قال علي وهو يضحك: أوليس قد أمر الشيخ؟! أوليس قد تلا عليك الشيخ هذه الآية في أحلامك؟! فأينا يقدر على أن يخالف أمر الشيخ؟! وأينا يقدر على أن يختار لنفسه غير ما اختار له الله؟! ثم نهض من فوره فدخل على أهله، وعاد بعد ساعة أشد ما يكون سرورا وابتهاجا، ثم سأل عن ابنه، فالتمس له في المساجد حتى جيء به بعد حين. فلما أنبأه النبأ قال في شيء من الاستحياء: وما دام شيخنا قد أمر بذلك فهو الخير.
ولم تمض إلا أيام حتى كانت سفينة من السفن تهبط بعبد الرحمن وأصهاره إلى القاهرة، ثم لم يمض بعد ذلك إلا شهر أو أقل من شهر حتى كانت سفينة من السفن تصعد بعلي وأسرته إلى الإقليم، وقد زاد عددها حتى بلغ الأربعة.
الفصل الثالث
Неизвестная страница