فلم يكن بد إذا من أن ينهض علي بهذه الحقوق كلها، وقد حاول الرجل فلم يستطع، وجد في إصلاح أمره فلم يجد إلى إصلاحه سبيلا، فلجأ إلى الاستدانة، مقتصدا فيها ما وسعه الاقتصاد، مؤملا أن يجعل الله له فرجا من حرج ومخرجا من ضيق، مجتهدا في تجارته، ولكن تجارته كانت مجتهدة هي أيضا في أن تسلك طريقا معاكسا لطريق صاحبها، مجتهدا فوق كل شيء في صلاته وعبادته وتوسله إلى الله أن يضع عنه هذا الإصر الذي يثقله، وأن يرد إلى خير ما كان فيه من أيام السعة والرخاء، ولكن أبواب السماء كانت كأنما أغلقت من دونه، أو كأن الله يسمع دعاءه ويجيبه إلى خير مما كان يطلب؛ فقد كان يطلب دارهم ودنانير، يؤدي بها بعض دينه، ويشتري بها لبنيه وبناته وأزواجه الغذاء والكساء والحذاء، ولكن الله كان يقبل صلواته ويسمع دعواته، ويدخر له بهن قصورا في الجنة على هذه الأنهار التي يجري فيها ماء لذة للشاربين، ويجري فيها اللبن والعسل والخمر، ويقام عليها من القصور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد انتهى الأمر بعلي إلى أن أصبح شديد الأمل في رضوان الله حين يبلغ الدار الآخرة، شديد اليأس من روح الله في هذه الدار الأولى؛ فلم يزده ذلك إلا اجتهادا في العبادة والطاعة، ليستكثر من رضا الله عنه، ومما كان يرجو أن يدخر له في الجنة من نعيم، ولكنه قصر في التجارة وأهمل أمرها، وأخذ ينظر إلى أمور الدنيا في شيء من الازدراء والاستخفاف دون أن ينسى نصيبه من متاعها ولذاتها، وقد اجتهد في أن يحمل نفسه على الرضا بما قسم له، لولا أن بطون بنيه وبناته لم تكن تطمئن إلى الجوع ولا تقنع بالقليل من الطعام، ولولا أن أزواجه وبنيه لم يكونوا يقدرون أزمته في تجارته ولا يعرفون من ضيق ذات يده شيئا، فكانوا يطلبون ويلحون في الطلب، فإذا قصر الرجل في تحقيق آمالهم استحال بيته إلى جحيم لا يطاق ولا يمكن الصبر عليه، وكثيرا ما كان الرجل يفزع إلى المساجد ومجالس الشيوخ، يرى الناس أنه يبتغي بذلك العبادة والطاعة، ويرى هو أنه يفر من أزواجه وبنيه وإلحاحهم عليه فيما يريدون وما لا يطيق من الأمر، وقد انتهى ذلك بعلي إلى شيء من سوء الخلق لوحظ عليه في أحاديثه وسيرته مع الناس، ولكن الناس كانوا يلتمسون له المعاذير لما يرون من إدبار الأمر عنه وإلحاح الكساد عليه.
ولم تبخل الظروف عليه بصديق السوء الذي يحرضه على ابنه خالد ويغريه به ويسأله: كيف تشكو الضيق، وتتعرض للحرج وخالد موظف يتقاضى أربعة جنيهات في كل شهر غير ما يمكن أن يصل إلى يده من ذوي الحاجات؟! فلا تصدق أن موظفا يكتفي براتبه الذي يقبضه في كل شهر، ويقضي للناس حاجاتهم دون أن يأخذ على ذلك أجرا، إن خالدا لقادر - إن شاء - على أن يتحمل عنك بعض أعبائك، ويسد بعض خلتك، وينهض على أقل تقدير بحاجات امرأته وابنتيه.
والواقع أن خالدا كان يبذل أكثر ما يستطيع أن يبذله، فقد كان يؤدي إلى أبيه آخر الشهر أكثر راتبه لا يستبقي لنفسه إلا ربعه، وكان يرى أن في ذلك أداء لحق أبيه عليه ونهوضا بحاجة أهله الأدنين، ولكن أباه قال له ذات يوم: أنفق على أهلك يا بني، فإني لا أجد ما أنفق على أهلي، وحسبك أنكم تقيمون في داري لا تؤدون على ذلك أجرا. وقد صعق خالد لهذا القول الذي لم يكن ينتظر أن يسمعه من أبيه لما كان يعرف من حبه له وبره به، ولم يكن ينتظر أن يسمعه لما كان يعلم من أدائه للحق ونهوضه بالواجب، فلما سمع مقالة أبيه لم يحر جوابا، فأعاد أبوه عليه مقالته مرة ومرة. قال الفتى: ومن أين أنفق على أهلي وأنا أؤدي إليك أكثر راتبي؟! قال الشيخ: لا أدري؛ ولكن أنفق على أهلك فإني لا أجد ما أنفق على أهلي. قال الفتى: سأؤدي راتبي كاملا إذا كان آخر الشهر. قال الشيخ: وأين يقع هذا الجنيه الذي تحتجزه لنفسك مما أريد؟! قال الفتى: فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. قال الشيخ: صدق الله العظيم؛ فإن الله لا يكلفني إلا ما أطيق، ولست أطيق أن أنفق على أهلك. قال الفتى: فإنك لا تنفق على أهلي، وإنما أنفق عليهم بما أؤدي إليك من راتبي. فقهقه الشيخ قهقهة كلها غضب وقال: فإنك تمن علي بما تؤدي إلي من هذا المال القليل كأني لم ألدك، ولم أربك، ولم أزوجك، ولم أنفق عليك وعلى أهلك إلى أمس القريب، إني لا أريد منك مالا ولا معونة، ولكن تحول عني وحول أهلك إلى دار أخرى، وأنفق على نفسك وعليهم براتبك إن استطعت إلى هذا سبيلا. قال الفتى محزونا: فإني لا أمن عليك شيئا، ولا أجحد من نعمتك قليلا ولا كثيرا، ولكني لا أستطيع إلا ما عرضته عليك، فسأؤدي إليك راتبي كاملا. قال الشيخ وقد ملكه غضب مجنون: لا أريد منك مالا، وإنما أريد أن تتحول بأهلك عني، فحسبي من عندي من العيال وانصرف عني الآن، فإني أخشى أن ينطق لساني بما أكره.
وخرج الفتى محزونا كئيبا لا يدري ماذا يصنع! ولكنه نظر فإذا هو يطرق باب صديقه وأخيه سليم، ولم يكد يلقى صديقه حتى قال له هذا في لهجة قد امتزج فيها الغضب والحنان: ما رأيت كاليوم رجلا يدخل على الناس بما يكرهون! ألقيت بهذا الوجه أحدا في طريقك إلى هذه الدار؟ قال خالد: وما ذاك؟ قال سليم: وجه مظلم، وجبهة مقطبة، وشفتان تمتدان شبرين إلى أمام؛ أي كارثة ألمت بك؟ أتراك قد أوسقت سفينتك بنا فغرقت في طريقها إلى المدينة؟! وكاد خالد يضحك لهذا العنف الرحيم، ولكن سليما مضى في تأنيبه وقد أخذ صوته يزداد قسوة، وأخذت لهجته تزداد حدة، فقال: أمسك عليك سرك أيها الرجل، واحفظ على نفسك غيبها، ولا تجعل من وجهك للناس كتابا مفتوحا يقرءون فيه من أمرك ما يشاءون، ليكتئب قلبك ما أرادت الأحوال أن يكتئب، وليبتئس ضميرك ما شاءت الحوادث أن يبتئس، ولكن ليكن وجهك مستوي المنظر في أوقات الشدة والرخاء! فليس يعني الناس ما يصيبك من خير وشر، وإنما أنت تثقل عليهم حين تلقاهم بوجه عابس إن تنكرت لك الدنيا، وحين تلقاهم بوجه باسم إن ابتسمت لك الأيام، تثقل عليهم وتغري شرارهم بالشماتة بك إن أصابك الضر، وبالوجد عليك والحسد لك إن أصابك ما تحب.
قال خالد وقد أخذ وجهه المنقبض ينبسط، وأخذت شفتاه الممدودتان تعودان إلى مكانهما سواء، بل أخذت تفرق بينهما ابتسامة يسيرة فيها شيء من رضا وكثير من حزن، قال خالد: ما أدري لم لا تصطنع مهنة الخطباء والوعاظ! فإنك لتحسن القول، وتحسن النفوذ إلى دخائل النفوس. قال سليم وهو يضحك: بل أحسن الإنباء بالغيب أيضا! فقد كان بينك وبين أبيك شر منذ اليوم، أليس كذلك؟ قال خالد: بلى. قال سليم: فإنه ينقم منك قلة ما تمنحه من المعونة، وقد أخرجه الغضب عن طوره، فقال لك ما لم تتعود أن تسمع منه. قال خالد: هو ذاك. قال سليم: وقد قمت منه مقام الصبي الذي لا يعرف كيف يجيب، ثم انصرفت عنه مبتسما مكتئبا، فأسرعت إلي لتشركني في ابتئاسك واكتئابك، وتجد عندي تسلية وعزاء. قال خالد: لله أنت! لقد كفيتني مئونة الحديث. قال سليم: اجلس يا بني ورفه عن نفسك، فالأمر أيسر مما تظن، ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى وهو يصيح: أرسلي إلينا قهوة يا أم سالم وأقبلي إن شئت، فابسمي لصهرك، فقد عبست له الحياة. وأقبلت زبيدة ساخطة متضاحكة معا، تقول لزوجها: أما تنفك ترفع صوتك بكل شيء، وتشرك الناس معك في كل شيء؛ لقد كنت تلوم خالدا لأنه يجعل وجهه كتابا مفتوحا يقرأ فيه الناس من أمره ما يشاءون، فهلا خافت بصوتك وقصرت نجواك على نجيك؛ فليس كل الناس يحسن قراءة الوجوه، ولكن أكثر الناس يحسنون الاستماع لك والفهم عنك إذا رفعت صوتك بكل شيء. قال سليم وهو يضحك لامرأته: ما رأيت أطول ولا أحد من هذا اللسان! قالت زبيدة: إنه لسان امرأة من أهل النار. وأعاد الزوجان على خالد حوارهما الذي قصصناه آنفا، فضحك له ثلاثتهم وهم يشربون القهوة.
فلما انصرفت زبيدة لبعض شأنها قال سليم لأخيه: اعذر أباك؛ فإن عبئه ثقيل، وموارده أضيق من أن تعينه على النهوض به، وأعنه إن استطعت إلى معونته سبيلا. قال خالد: أما أن عبئه ثقيل فهذا حق، ولكنه هو الذي خلق لنفسه هذا العبء الثقيل، ما حاجته إلى هؤلاء الضرائر اللائي يكلفنه من النفقة ما لا يطيق ويجعلن داره جحيما؛ وما حاجته إلى هؤلاء الصبية الذين ينبتون في الدار كما ينبت العشب على شاطئ القناة. قال سليم: لمه فيما بينك وبين نفسك ولكن أعنه، فالأمر الواقع هو أن لديه ثلاث زوجات كلهن ولود. قال خالد: وكيف أعينه بأكثر مما أفعل، وأنا أؤدي إليه معظم ما أقبض آخر الشهر؟! وقد عرضت عليه أن أؤدي إليه راتبي كاملا فلم يقبل مني، وطلب أن أتحول عنه بأهلي، فحسبه من عنده من العيال. قال سليم : وقد انتهى بكما الأمر إلى هذا الحد؟ قال خالد: ولولا أنه صرفني فانصرفت لتجاوز الأمر هذا الحد.
فأطرق سليم ساعة ثم رفع رأسه وقال في صوت هادئ: فإني سأقرضك دنانير تدفعها إليه من يومك، وتؤديها إلي متى استطعت. قال خالد: ما جئت لهذا. قال سليم: فقد أخطأت، وكان يجب أن تجيء لهذا؛ فإن أباك يعاني ضيقا يجب أن نجد له منه مخرجا، فادفع إليه هذه الدنانير من يومك، فإذا كان الغد فسأدفع إليه مثلها؛ فإن له علي مثل ما له عليك من الحق. ثم نهض إلى صندوق ففتحه، وإلى درج صغير في الصندوق فاستخرج منه ذهبا وضعه في يد خالد، وخالد صامت لا يقول شيئا؛ لأنه لا يجد ما يقول، ثم استأنف سليم حديثه فقال: ولست أدري كيف تدبر أمرك، ولا كيف تعيش بهذا الراتب الذي تقبضه آخر الشهر والذي يستكثره الناس وآراه ضئيلا لا يقوم بمثل نفقتك. قال خالد: ماذا تريد أن أصنع؟ قال سليم: تصنع كما أصنع أنا وكما يصنع غيري من الموظفين. قال خالد: وماذا تصنعون؟ قال سليم: نأخذ من الناس أجر ما نؤدي إليهم من خدمة. قال خالد: فإنها الرشوة إذا. قال سليم: سمها أنت الرشوة، فأما أنا فأسمي بعضها أجرا مستحقا وأسمي بعضها الآخر هدية مبذولة. قال خالد: فإن الأسماء لا تغني عن الحق شيئا، فإنكم تتقاضون أجركم على ما تعملون آخر الشهر، فما تأخذونه من الناس لا يحل لكم؛ لأنه الرشوة لا أكثر ولا أقل. قال سليم: يحل لنا أو لا يحل، هذا آخر شيء نفكر فيه، يجب أن نعيش قبل كل شيء، والراتب الذي نقبضه لا يمكننا من أن نعيش، ونحن لا نستكره الناس على ما يضعون في أيدينا من نقد، وما يحملون إلى دورنا من عروض، وإنما هم يفعلون ذلك طائعين، ويسوءهم أن نرده عليهم، وهبك قترت على نسيم مولاتك في الرزق ومنحتها من الطعام أقل مما يقيم أودها أفتلومها إن سرقت لتشبع من جوع؟ قال خالد: فعلي ألا أضطرها إلى السرقة . قال سليم: فعلى الحكومة إذا ألا تضطرنا إلى قبول الرشوة، وإلى أن تأجرنا الحكومة أجرا حسنا، لا أرى علينا بأسا من أن نستعين على الحياة بما يدس إلينا أصحاب المصالح من المال. قال خالد: فإن هؤلاء الناس يدفعون أجور مصالحهم مرتين: يدفعونها حين يؤدون الضرائب، ويدفعونها حين يؤدون إليكم ما يؤدون من المال؛ وهذا هو الظلم الذي ليس بعده ظلم. قال سليم: يدفعونها مرتين أو مرات، هذا شيء لا يعنيني، وإنما الذي يعنيني، هو أن أعيش أولا؛ فأما هذا الظلم الذي تذكره فلست أنا الذي أقترفه، وإنما يقترفه الذين يأخذون الضرائب ثم لا يأجرون الموظفين أجرا ييسر لهم الحياة.
وهنا أطرق الرجلان إطراقتين مختلفين؛ فأما خالد فقد أطرق إطراقة الذاهل الذي يسمع ويعي، ولكنه لا يقر ما يسمع وما يعي، ولا يحسن مع ذلك أن يرد عليه، وأما سليم فقد أطرق إطراقة الرجل الذي يعرف أنه يأتي إثما من الأمر، ويقول منكرا من القول، ولكنه مع ذلك يلتمس لنفسه العذر مما يأتي ومما يقول، وهو يعيد على نفسه ذلك المثل الذي ضربه للموظفين الذين يضيق عليهم في الأجر فيرتشون، مثل الخادم التي يقتر عليها في الرزق فتسرق لتتقي الجوع، ثم رفع سليم رأسه وقطع هذا الصمت الذي كاد يطول، فقال في صوت خافت: أيهما شر: رجل يرتشي ليعيش، أم رجل يرتشي ليستكثر من المال؟ قال خالد: كلاهما آثم، ولكن الذي يرتشي ليستكثر من المال أشد إغراقا في الإثم وتورطا في المعصية. قال سليم: فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ أما أنا وأمثالي فنرتشي لنعيش، هذه رشوتي قد أتاحت لي أن أقرضك ما تعين به أباك، وأن أعينه من غد، فأما غيرنا ... ثم سكت قليلا، ثم قال: فأما رؤساؤنا وسادتنا فإن الحكومة تبسط لهم في الأجر، وتوسع عليهم في الرزق، وتقوم لهم بأكثر مما يحتاجون إليه، وهم مع ذلك يرتشون لا كما نرتشي، ويأخذون لا كما نأخذ، إنا نأخذ الدرهم والدراهم، ونأخذ الدينار والدنانير، ونأخذ السفط من البن أو الجماعة من رءوس السكر، أو الحقيبة من الأرز؛ فأما هم فيأخذون أضعاف ذلك وأضعافه، ونحن نأخذ ما نأخذ لننفق على أنفسنا وعيالنا، وهم يأخذون ما يأخذون ليشتروا الضياع يضفونها إلى الضياع. صدقني! إنك لا تملك كما أني لا أملك إصلاح ما فسد من الأمر، والله وحده القادر على أن يرد الناس أخيارا أبرارا. هنالك نهض خالد وهو يتلو قول الله عز وجل:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس . ولكنه لم يكد يبلغ باب الدار حتى كان سليم يجذبه جذبا عنيفا وهو يقول: لقد تركت دنانيرك أيها الأحمق؛ خذها وادفعها إلى أبيك؛ فليس عليك من إثمها شيء، ولو عرفت أنك سترد إلى قلبه الهدوء وإلى نفسه الأمن، وستمكنه من أن يطعم صبية جياعا ويكسو جواري كدن يبتذلن، لما ترددت ولا تحرجت.
وبعد فإلى أين تذهب بهذا الوجه الذي كسته الظلمة وعاد إليه الانقباض؟! أقسم لا تخرج حتى تستبدل به وجها آخر، ثم جذبه إليه جذبة كادت تخلع عنه جبته.
Неизвестная страница