Дерево растет в Бруклине
شجرة تنمو في بروكلين
Жанры
تقديم
مقدمة المؤلفة
الباب الأول
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
تقديم
مقدمة المؤلفة
الباب الأول
Неизвестная страница
الباب الثاني
الباب الثالث
الباب الرابع
الباب الخامس
شجرة تنمو في بروكلين
شجرة تنمو في بروكلين
تأليف
بيتي سميث
تقديم
حلمي مراد
Неизвестная страница
ترجمة
نوال السعداوي
تقديم
بقلمحلمي مرادرئيس تحرير مجلة كتابيالكاتبة والكتاب
وراء هذه القصة الفذة، قصة أخرى فذة، هي قصة مؤلفتها «بيتي سميث»، فقد ولدت هذه الكاتبة في سنة 1904م، أي في أوائل القرن العشرين، وكان مولدها في «وليامسبيرج» ببروكلين، وبروكلين في أوائل القرن العشرين هي المسرح الحقيقي الذي تدور فيه أحداث هذا الكتاب، ومن هنا يبدأ التشابك والتشابه - ولا نقول التطابق - بين واقع القصة في الحياة، وواقع التجربة الإنسانية التي تصورها المؤلفة ... فنلمس منذ البداية، ذلك المصدر الخصب الذي استمدت منه المؤلفة صدقها النابض بالحياة. والحق أن «فرانسي» - بطلة القصة المكتوبة - فيها الكثير جدا من ملامح «بيتي سميث» الكاتبة الموهوبة:
ففي ظلال الفقر، ولدت كل منهما.
وفي ميادين الفاقة، والجوع، والحاجة إلى الملبس الكافي، والتعليم الوافي، خاضت كل منهما حربا قاسية مريرة، طويلة الأمد.
وفي وجه اليأس، صمدت كل منهما، فلم تسمح له بأن يتطرق إلى قلبها الباسل.
فمنذ سن مبكرة اضطرت المؤلفة إلى التماس العمل لتقيم أودها، فعملت في مصانع ومكاتب شتى في بروكلين، وفي المؤسسات الشعبية تعلمت أصول الطهو والحياكة والرقص، وفي سن الثامنة عشرة غادرت بروكلين، لتقضي في «ميتشيجان» عشر سنوات، وهناك تزوجت وأنجبت.
وهناك أيضا بدأت صلتها بدنيا القلم والكتابة، في مناسبة طريفة، هي بلا شك أقرب إلى نسيج الخيال منها إلى الواقع المألوف في الحياة: كانت «بيتي سميث» تخترق أرض جامعة ميتشيجان في «آن أربور» وهي تدفع أمامها عربة بها طفلها الصغير، وإذا بالمطر يفاجئها؛ فالتجأت، كي تحتمي منه، إلى مدخل أحد الأبنية، وشاءت المصادفة أن تكون هناك حلقة منعقدة في داخل المبنى لمناقشة بعض الموضوعات التي يلقيها الطلاب، فدعيت - ريثما يكف المطر عن الهطول - للدخول، وإبداء رأيها، والتعليق على ما تسمع؛ باعتبارها محلفة «محايدة »!
Неизвестная страница
ويبدو أن تعليقاتها كانت سديدة ورشيدة، بحيث استولت على إعجاب الأستاذ والطلاب، قبل أن ينقطع المطر وتصفو السماء؛ فدعوها، عند انصرافها، للحضور في المستقبل للمشاركة في مثل هذه المناقشات والإدلاء بتعليقاتها الصائبة.
ولكن الأثر الذي تركته، في نفس «بيتي سميث»، تلك المناقشة التي ساقتها إليها المقادير، كان أضخم بكثير من الأثر الذي تركته «بيتي» في الأستاذ وتلاميذه؛ فقد فتحت هذه الحادثة العارضة عينيها على عالم جديد، بهرها واستهواها، فما إن كبر أطفالها وبلغوا سن الالتحاق برياض الأطفال، حتى قررت أن تتعلم تعليما جامعيا.
وواجهتها عقبة لا يستهان بها: وهي أنها لم تحصل من التعليم، من قبل، على ما يؤهلها رسميا لدخول الجامعة؛ فليست لديها أية إجازة مدرسية معترف بها. ولكن نفرا من كرام الأساتذة الذين عرفوا لها ألمعيتها - وعلى رأسهم الدكتورة «كلارنس كوك»، والبروفيسور «بيترجاك» - قاموا بتزكيتها، فقبلت طالبة بالجامعة «بصفة خاصة»، بيد أن ظروفها - كربة بيت، وأم، وعاملة كادحة - لم تسمح لها بأكثر من الانتظام في دروسها خمس ساعات فقط، كل أسبوع، فاقتضى ذلك منها أن تقضي عشر سنوات، في دراسة تستغرق في العادة أربع سنوات فقط!
وفي أثناء هذه الدراسة، كتبت مسرحية فازت بها - في إحدى المسابقات - بالجائزة الأولى! وبعد إتمام دراستها الجامعية في «ميتشيجان» التحقت بمعهد الدراما في جامعة «ييل» حيث كانت - خلال سنوات الدراسة الثلاث - محل احتفاء كبار الأساتذة بها، وفي مقدمتهم البروفيسور «جورج بيكر» الشهير، وفي غضون تلك المدة كتبت، وباعت حقوق تمثيل، أكثر من سبعين مسرحية من ذات الفصل الواحد!
وبعد سنوات من العمل في التأليف المسرحي، كتبت «بيتي سميث» تحفتها هذه: «شجرة تنمو في بروكلين»، التي أتمتها عام 1942م، فأرسلتها يومئذ بطريق البريد إلى دار «إخوان هاربر» للنشر، فكان أن نالت على الفور إعجاب لجنة القراءة بالمؤسسة، وحقق نشرها، بالفعل، نجاحا باهرا، ثم اشترت شركة «فوكس للقرن العشرين» حقوق إخراجها في السينما، وطبعت منها عشرات الطبعات «حتى إن الناشر كان يضطر إلى طبعها في أربع مطابع دفعة واحدة، كي يلاحق الطلبات التي تنهال عليه من المكتبات!».
وقد ترجمت الرواية إلى ست عشرة لغة، وتعتبر هذه الترجمة العربية هي السابعة عشرة في تلك القائمة المجيدة!
والآن، ما هي قصة الكتاب، بعد أن عرفنا قصة الكاتبة؟
إنها قصة «فرانسي نولان»، ابنة أسرة نولان، حيث الأب السكير «جوني نولان» الذي يجمع في طباعه بين عنصر الفنان الفاشل، وعنصر الخادم المتعطل، إنه أشبه بطائر كسير الجناح، لم يبق في ذيله من الريش إلا القليل، ولا بد له مع ذلك أن يحاول الطيران والتقاط الرزق رغم كل شيء!
أما الأم «كاتي نولان» فحارسة بيت من بيوت المساكن الشعبية، وهي التي تقوم بحمل عبء المسئولية، إنها «الرجل» الحقيقي في هذه الأسرة الصغيرة، هي التي تدبر، وترعى، وتعطف، ولا بد لها أيضا من عنصر الصلابة حتى تقود السفينة الصغيرة - فليس في حياتها متسع للعواطف الرقيقة - ولكن تحت صلابتها قلبا طيبا كبيرا.
وهناك أيضا الأخ الأصغر «نيلي» إنه الرفيق الحالم الذي تمارس «فرانسي» تجاهه منذ نعومة أظفارها دور الأم، وأمامها القدوة المثلى في الجلد والمثابرة؛ أمها «كاتي».
Неизвестная страница
ومن الأب الفنان الكسير المريض ورثت «فرانسي» الحساسية الحالمة، ومن الأم القوية المكافحة ورثت الجلد، وتحدي الصعاب، والإصرار على البقاء، والانتصار على الزمن مهما يكن الثمن!
إنها في بداية القصة تشترك مع أخيها في جمع القمامة والنفايات، وبيعها، ومن هذه الطريق كانا يحصلان على مصروفهما الشخصي، فكانت هذه حرفتها الأولى ومنفذها الأول إلى شيء من الشعور بالاستقلال.
فماذا كانت هوايتها الأولى في تلك الآونة؟
إنها هواية لا تمت بصلة إلى القمامة والنفايات، تلك هي هواية المعرفة! ولكنها لم تكن تدري كيف تجمعها؛ فالمكتبة العامة مفتوحة للجميع، ولكنها لا تدري بأي ترتيب تطالع ما فيها من الكتب المبذولة للقارئين؛ ومن هنا اتبعت في ذلك نفس المنهج الذي كانت تجمع به القمامة: وهو الترتيب الواقعي، ترتيب المكان! فبدأت بالكتب التي تبدأ عناوينها بحرف الألف، ثم الباء، ثم التاء ... وهكذا! كانت تجد - بالمصادفة - معلومات تناسبها، تماما مثلما تجد في أكوام النفايات - بالمصادفة أيضا - أشياء تناسبها، «من قبيل الشرائط، والورق المفضض»، وقد تجد أشياء تصلح للبيع، كالمعادن، والخرق، والمطاط، والعظام ... إلخ.
وهكذا راحت تقرأ بشراهة، كتابا كل يوم! وفي يوم السبت، كانت تخلو لتأملاتها، في الفناء الخلفي للبيت، حيث تجلس على سلم الطوارئ الخلفي، وتتلهى بمراقبة الجيران من حولها وهم يستعدون لليلة الأحد وسهراتها، في داخل البيوت وخارجها.
وفي ذلك الفناء الخلفي شجرة صغيرة يتيمة، كانت «فرانسي» ترقبها أسبوعا بعد أسبوع، وهي تمد فروعها شيئا فشيئا، وتنمو نحو السماء، لا يشعر بها أحد! إنها ذلك الكائن الحي الصغير، النبات الوحيد وسط جدران الحجارة، وسلالم الحديد، وحبال الغسيل، وكل ما هو جامد، خامد، مضاد للنمو والحياة والازدهار.
ومن هذه الشجرة الوحيدة الشجاعة النامية، استمدت القصة عنوانها!
ولم يكن ذلك اعتباطا، بل لما هناك من توازن واضح بين خط هذه الشجرة، وكفاحها في سبيل حق النمو والصعود من الأرض إلى السماء؛ وبين خط حياة البطلة «فرانسي»، التي تشق بكدها المضني سبيلها من حضيض جمع القمامة، إلى سماء المعرفة والتحليق في دنيا الإلهام، في تمكن واقتدار.
وأي تصوير أمين تطالعه عيوننا في تلك الأضواء المشرقة بين ظلال الفاقة الداكنة! أي حنان نلمسه نابضا في صورة الأب و«فرانسي» تكوي له ملابس العمل يوم السبت، يوم عمله الوحيد، حين يتيسر له العمل! وكيف يمضي هذا الرجل ليخدم السكارى ليلة الأحد، ويغني لهم وهو يقدم الأقداح، ويجرع الثمالات، وابنته تنتظره حتى يعود قبيل الفجر منتشيا، وقد يغلبها النعاس، فلا ينسى أن يوقظها وأخاها ليعطيهما شيئا من الفطائر والحلوى والمشهيات التي تبقت في الأطباق، أو التي دسها في جيبه خلسة! وتنعم الأسرة الصغيرة بدفء هذه اللحظة، ثم يخلد الأب والأم إلى حجرتهما يثرثران حتى مطلع النهار.
وهذان الأبوان إن خلف حياتهما هذه قصة حب رومانسي عجيبة، فقد كان «جوني» في التاسعة عشرة، وكانت «كاتي» في السابعة عشرة، حين التقيا وتحابا في ليلة من ليالي الآحاد، في مرقص شعبي. «وكانت قدما «جوني» طويلتين رفيعتين، وحذاؤه لامعا، وهو يرقص على أطراف أصابعه، ويتبختر مهتزا على عقبيه في إيقاع جميل، وحمي وطيس الرقص وعلق «جوني» معطفه على ظهر كرسيه، وكان سرواله ينسدل متناسبا على حقويه، وقميصه الأبيض ينسدل على حزامه، ويرتدي بنيقة عالية صلبة، ولم تستطع «كاتي» أن تحول نظرها عنه، فقد كان شابا ممشوق القوام، يشرق بشعره الأشقر المجعد وعينيه الزرقاوين العميقتين، وكان أنفه مستقيما وكتفاه عريضتين، وسمعت «كاتي» البنات الجالسات إلى المائدة المجاورة لها يقلن عنه إنه أنيق الملبس، وقال رفاقهم إنه راقص بارع أيضا، ومنحها «جوني» رقصة من قبيل المجاملة حين عزفت الموسيقى مقطوعة «روزي الجميلة»، وعرفت «كاتي»، حينما شعرت بذراعيه تلتفان حولها فانساقت بلا وعي إلى مجاراته في الإيقاع، أنه الرجل الذي تنشده، إنها لا تطلب شيئا أكثر من أن تنظر إليه وتستمع له بقية حياتها.»
Неизвестная страница
و«كاتي» هذه من سلالة ألمانية، فوالدها رجل صارم، قاس، فظ، أناني، وأمها قديسة وأمية في آن واحد.
من هذه السلالة جاءت «فرانسي»، ومن أبيها ورثت حب الموسيقى والرقص والغناء، وعندما أتيح لها أن تدخل المدرسة كانت دروس هذه الفنون الثلاثة أحب الدروس إلى قلبها، ثم فوجئت معلمتها باستعدادها الكبير للتعبير الواضح السليم.
وما إن أتمت «فرانسي» الثالثة عشرة، حتى حلت بالأسرة كارثة اضطرت الفتاة معها إلى العمل كخادمة، واضطر أخوها بدوره إلى الخدمة في مطبخ الحانة التي كان أبوهما يعمل بها حينا، ويعاقر فيها الخمر في أكثر الأحيان! ولم تلبث الأم أن ولدت فما جديدا في حاجة إلى مزيد من الطعام!
ثم انتقلت «فرانسي» للعمل في مشغل للأزهار الصناعية، وهي تصف أيامها الأولى في ذلك العمل وصفا صادقا أمينا، وتصف خيبتها ومتاعبها، وكيف طردت بعد أيام لتعمل في «أرشيف» أحد المكاتب الصغيرة. ولما نشبت الحرب العالمية - الأولى - اشتغلت عاملة تلغراف، في نوبات ليلية، مكنتها من مواصلة دراستها، فكانت تتقدم للامتحانات كلما تيسر لها ذلك.
سنوات من الكفاح المتصل، تتخللها ومضات من السعادة، ومن الحب، منذ عرفت «فرانسي» طريقها إلى موعدها الغرامي الأول!
وتتوالى أحداث القصة، في تحليل رائع وتصوير صادق لأدق خلجات النفس البشرية؛ نفس الفتاة المراهقة «فرانسي »، ونفس أمها «كاتي»، التي تهب عليها ذكريات أيام كانت قد نسيتها، وينبري لها - من الماضي البعيد - شبح يحدث في حياتها الأثر الذي يحدثه حجر يسقط فوق سطح بحيرة ساكنة! لكني لن أفسد عليك متعة متابعة أحداث القصة بنفسك، فلأدعك تستمتع بصحبة هذه الأسرة وهي تنتقل من مرحلة في حياتها، إلى مرحلة أخرى جديدة، اقتضتها أن ترحل إلى «ميتشيجان» حيث تغيرت ظروفها، كما تقلب أسطوانة على وجهها الآخر، وهناك التحقت «فرانسي» بالجامعة، لتحقق حلمها الكبير!
لقد بدأت الشجرة تجد طريقها إلى رقعة فسيحة من السماء.
وهذا يصدق على الشجرة الحية «فرانسي»، كما يصدق على الشجرة النابتة في الفناء، على السواء.
فها هي ذي «فرانسي» في آخر يوم لها في «بروكلين» تمضي دافعة أمامها عربة شقيقها الأصغر في الطريق، كي ترد - لآخر مرة - الكتب التي استعارتها من المكتبة العامة، وها هي ذي تتوقف لتنظر إلى الفناء القديم وإلى سلم الطوارئ الذي كفت عن الجلوس عليه منذ سنين، وإذا بها ترى في مكانها القديم المعهود، فتاة في نحو العاشرة - نفس سنها هي يوم كانت تجلس في ذلك الموضع - ثم تفجع برؤية الشجرة المكافحة، وقد قطع السكان جذعها حين كبر وحجب عن غسيلهم الشمس!
ولكن الشجرة لم تمت، بل نبتت من جذورها القديمة أغصان جديدة، في اتجاه جديد، لقد تحاشت مواضع حبال الغسيل، وشقت لها طريقا إلى سماء حرة.
Неизвестная страница
كذلك كانت حال «فرانسي»، اقتطعت منها الأيام بعض أغصانها، ولكنها أكسبت من ذلك مزيدا من القدرة والقوة، وها هي ذي تشق أيضا طريقا جديدة إلى سماء حرة، في أفق جديد. «ولكن الشجرة التي أقام السكان الجدد حولها نارا في فناء الدار، محاولين أن يحرقوا جذعها قد عاشت!
أجل عاشت ...
وما من شيء يستطيع أن يقضي عليها!
ثم عادت «فرانسي» فنظرت إلى الفتاة الصغيرة التي تقرأ وهي جالسة على سلم الحريق، وهمست: وداعا ... يا «فرانسي»!» ... ومضت طارحة وراء ظهرها صفحات من حياتها وحياة أسرتها في «بروكلين»، لتتطلع إلى صفحات جديدة لن تلبث أن تطالعها في موطنها الجديد «ميتشيجان»!
وهكذا تلتقي صورة حياة المؤلفة في الواقع بصورة بطلتها في القصة؛ لتقولا لنا معا، في هذا العمل الفني المؤثر الصادق الجميل: إن حياة الإنسان لا تقتلها الصعاب، بل تقويها حرارة الكفاح! «وما من شيء يستطيع أن يقضي عليها.»
إنها ليست شجرة تنمو في «بروكلين» دون غيرها من الأماكن ... كلا! فإن وراء صورتها المحلية المحدودة، إحساسا أعمق وأشمل، يشعر به القارئ في كل مكان في الأرض؛ إنها شجرة تنمو بشجاعة وإصرار، في أي ركن يعيش فيه إنسان!
وهذا هو سر جمالها الفني الإنساني الرفيع!
مقدمة المؤلفة
حين يصبح الشخص المغمور بين عشية وضحاها شخصية معروفة، فإن الناس ينسجون أحيانا حكايات عن السنين المجهولة من حياته، وكان هذا شأني؛ إذ يروى أنه كانت لي عادة مفزعة، فقد درجت على السير في شوارع القرية المظلمة في منتصف كل ليلة، يرافقني كلب أسود كبير كالشبح، ويقولون إنني كنت على هذا النحو أستوحي الإلهام في كتابة روايتي «شجرة تنمو في بروكلين».
وكنت أسير حقا وسط القرية في منتصف كل ليلة ومعي كلب أسود، ولكني لم أكن أبغي من ذلك إلا أن أصل إلى مكتب البريد لأرى هل هناك رسالة في البريد الأخير، وكان الكلب، وهو كلب صيد لطيف من نوع اللابرادوري، صديقا لي، ينتظرني عند المنعطف كل ليلة؛ لأنه كان يستمتع بالمسير في صحبتي إلى المدينة.
Неизвестная страница
وكنت أشعر بالوحدة في تلك الفترة قبل أن ينشر لي كتاب، فأفعل ما يفعله توماس وولف، طالب الجامعة هناك، إذ دأب على أن يحوم حول مكتب بريد تشابل هيل، راغبا في أن يلقى شيئا من الرسائل، وكنت أنا أيضا أقصد إلى هذا المكتب لأراقبهم وهم يخرجون بريد منتصف الليل، آملة أن يكون أحد قد بعث إلي برسالة، ولم تكن تصلني رسالات إلا قليلا اللهم إلا قوائم الحساب.
ولقد كففت عن هذا السير الآن؛ لأن صندوق البريد رقم 405 أصبح يمتلئ في أي وقت من أوقات اليوم برسائل الذين قرءوا كتابي، فتفد إلي الرسائل من المدن والبلاد والقرى والنواحي الريفية في أمريكا، وقد اعتدت أن أتسلم رسائل واردة من خنادق المحاربين، والبوارج، والمستشفيات، ومراكز الترفيه، ومعسكرات التدريب، وهي لا تزال ترد من مناطق الاستيطان، ولقد وردت إلي رسالة من رجل شرير من رجال العصابات بعث بها إلي، وهو على شفا الإعدام من محبسه يقول فيها إن كتابي كان آخر ما قدر له أن يقرأ في هذا العالم. وجاءتني رسالة أخرى من امرأة وضعت وشيكا، تنبئني فيها أنها كانت فقيرة جدا، ولكن مولودها لن يحرم زاده من الحنان والفهم إذا استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وكانت معظم الرسائل تبدأ على هذا النحو: هذه أول رسالة إعجاب أخطها، إنني قرأت كتابك لتوي، ولا مناص لي من أن أقول لك ...»، ومنهم من يكتب لي قائلا: «كنت فتاة مثل فرانسي نولان» أو «عاشت أسرتي تعاني مثل هذا الصراع وكانت أمي مثل كاتي» أو «إنني لم أعش قط في بروكلين، لكن شخصا ما لا بد أن يكون قد أنبأك بقصة حياتي؛ لأنها هي هي ما كتبت»، ويبلغ بهم الأمر إلى حد القول: «إنني أتميز غيظا لأنك كتبت روايتي قبل أن تواتيني الفرصة لكتابتها.»
وليس ثمة ما يلزمني بالرد على جميع هذه الرسائل، فإن ذلك يستغرق الوقت الذي ينبغي لي أن أفرغ فيه للكتاب الثاني، لكنني أذكر كيف قرأت مرة وأنا طفلة كتابا ملك علي قلبي، وحررت رسالة إلى مؤلفه المشهور، وضعت فيها ذوب نفسي، ولكنه لم يرد علي؛ وشعرت بالألم والخزي لأن ما بذلته من صميم مشاعري كان جزاؤه الجحود، فأقسمت أن أحاول حين يشتد ساعدي أن أكتب كتابا أفضل من كتابه، وأن أرد على أية رسالة تصلني بشأنه؛ ولذلك فأنا أرد على كل رسالة تصلني، وحسبي أن أقول «شكرا». ويبدو لي الأمر أحيانا كأنه عبء ثقيل فأرغب في الإقلاع عنه، ولكني أخشى حينذاك أن أولم أحدا كما فعل معي ذلك المؤلف منذ عهد بعيد؛ ولذلك دأبت على أن أرد على الرسائل التي تصلني.
ولم أشأ أن أهدي كتابي إلى أحد؛ لأني لم أستطع أن أقرر من كان أكثر عونا لي على كتابته، فكرت في أمي التي وهبتني الحياة وإني لمدينة لها بالكثير، ومدينة لأختي ولأخي، اللذين أضفيا على طفولتي جمالا وسحرا، وإني لمدينة لأطفالي الذين أمدتني سنوات طفولتهم بحياة ممتعة راضية. وهناك فضل أدين به لصديق حبيب ولزوج واسع الإدراك، وهناك دين آخر في عنقي لمعلم محبوب، ولا يمكنني أن أنسى البدال الذي منحني ثقة حانية أثناء سني الكتابة الجدباء، ولا الطبيب البيطري الذي عالج ساق كلبي المكسورة، وتنازل عن تعهدي بأن أرد إليه بعض ما يستحق قائلا في كرم ولطف: لا عليك، انسي هذا الأمر.
وإني لمدينة لمعارف لقيتهم مصادفة في القطارات وفي محطات السيارات العامة، لما بادلوني إياه من ثقة عن حقائق الحياة الخالدة، وإني لأحس من صميم قلبي أيضا بفضل من آلمني؛ لأن الحزن زاد في نضج عاطفتي ووسع من إدراكي، وكذلك أشعر بالامتنان حيال صاحب عمل أنبأني منذ عهد بعيد في يوم قائظ من أيام شهر أغسطس، بأن الوظيفة التي كنت أطلبها قد شغلت، ولكنه ألح علي أن أجلس وأستريح لحظة قبل أن أستأنف ردي على إعلان آخر، وأحضر لي كأسا من الورق فيها ماء مثلج، وفاضت كأسي حقا حينما سكبت فيها دمعة أو دمعتين، طفرتا من عيني بسبب التعب والإجهاد.
وإن هؤلاء جميعا - ومئات منهم لم أذكرهم - بل في الحقيقة كل من أثر في حياتي، إن خيرا وإن شرا، قد عاونوني في كتابة هذه القصة، وما كنت لأستطيع أن أهديها إلى أحد بالذات دون أن أجحد فضل الآخرين.
ولكني أريد أن أهدي هذه الطبعة الخاصة - التي لم تخرج إلى الناس إلا لأن عددا كبيرا منهم كانوا مع الشجرة متجاوبين - أريد أن أهديها لكم، أريد أن أهديها لكم جميعا يا من قرأتموها، ولكم يا من تقرءونها الآن، وأريد أن أقول:
شكرا، شكرا جزيلا.
بيتي سميث
Неизвестная страница
تشابل هيل، كارولينا الشمالية
يونيو 1947م
هنالك شجرة تنمو في بروكلين،
يسميها القوم شجرة السماء،
وأيا كان الموضع الذي تسقط فيه بذرتها،
فإنها تنبثق شجرة سامقة تناضل؛
لكي تبلغ عنان السماء.
إنها تنمو أنى تكن؛
وسط الأحواش،
وبين أكوام النفايات،
Неизвестная страница
وتنطلق خلال الأسوار الحديدية،
وتبزغ من شقوق الصخر،
وتنمو يانعة نضرة،
وتحيا وتؤتي أكلها،
دون أن تغاديها شمس،
أو يسقيها مطر،
بل إنها لتعيش فيما يخيل إلى الناس ... عدما،
وكانت هذه الشجرة خليقة بأن تعد فذة في جمالها
لولا مثيلات لها كثيرات،
وكثيرات ...
Неизвестная страница
الباب الأول
1 «الهدوء» هي الكلمة التي كان يمكنك أن تصف بها بروكلين في نيويورك في صيف سنة 1912م، ولعله كان من الأفضل أن توصف بكلمة «موحشة» لتعبر عن هذا المعنى، ولكن هذه الصفة لا تنطبق على ويليامسبرج في بروكلين. إن كلمة برية كلمة حلوة، وكلمة شناندوه
1
لها جرس جميل، ولكن هذه الأوصاف لا يمكن أن تجعلها تنطبق على بروكلين؛ ذلك أن الهدوء هو الصفة الوحيدة التي تلائمها، وخاصة في عصر يوم سبت من أيام الصيف.
وكان الوقت متأخرا بعد الظهيرة حين مالت الشمس منحدرة في فناء منزل فرانسي نولان المغشى بالطحلب باعثة الدفء في السور الخشبي البالي، وانتاب فرانسي وهي تنظر إلى أشعة الشمس المائلة ذلك الشعور المرهف المعهود، الذي كان ينتابها حين تذكر قصيدة كانوا يتلونها في المدرسة:
هذه هي الغابة البدائية،
تقف فيها أشجار الصنوبر والشوكران الهامسة،
وقد غشي عوارضها الطحلب واكتست بالخضرة،
كالكهنة الوثنيين من قدماء الإنجليز،
لا تبين معالمها ساعة الغسق.
Неизвестная страница
ولم تكن الشجرة الوحيدة النامية في فناء فرانسي من أشجار الصنوبر ولا من أشجار الشوكران، وإنما كانت أوراقها مدببة الطرف تنمو على سوق خضر تنتشر من الغصن فتجعل الشجرة تبدو للعين كأنها مجموعة من المظلات الخضراء المنبسطة، وقد سماها بعض الناس شجرة السماء؛ لأنها كانت تناضل حتى يبلغ طولها عنان السماء، أيا ما كان الموضع الذي تسقط فيه بذرتها، وكانت تنمو وسط الأحواش وتنبثق من أكوام النفايات المهملة، وإلى جانب ذلك كانت الشجرة الوحيدة التي برزت من الأسمنت ونمت، نمت في نضارة، ولكن في أحياء السكن فحسب.
وإنك لتسير في عصر يوم من أيام الأحد فتبلغ حيا قريبا غاية في الإبداع، وترى الشجرة الصغيرة من تلك الأشجار من خلال البوابة الحديدية المؤدية إلى فناء بيت، فتدرك أن ذلك القطاع من بروكلين سوف يصبح عما قريب حيا من أحياء السكن، وكانت الشجرة تعلم ذلك، إذ كانت أول الساكنين، ثم يتسلل إلى الحي من بعدها أغراب من الفقراء، وتتحول البيوت القديمة الهادئة المشيدة من الحجر الأسمر إلى طوابق، وتدفع الحشايا المصنوعة من الريش إلى الخارج على عتبات النوافذ لتهويتها، وتزدهر شجرة السماء، كانت تلك الشجرة من هذا الطراز، تحب الفقراء من الناس.
أجل، كانت الشجرة التي في فناء فرانسي من ذلك الطراز، كانت أفنانها المتشابكة تلتف حول سلم الطوارئ في الطابق الثالث ومن فوقه ومن تحته، وثمة فتاة في سن الحادية عشرة جالسة على هذا السلم تتخيل أنها تعيش في شجرة، ذلك ما كانت تتخيله فرانسي في عصر كل سبت من أيام الصيف.
ما كان أروع يوم السبت من يوم في بروكلين! وما كان أروعه في أي مكان آخر: كان الناس يتسلمون أجورهم في يوم السبت، وكان يوما من أيام العطلة لا يتسم بما يتسم به يوم الأحد من تزمت، يجد فيه الناس جيوبهم عامرة بالمال، فيخرجون من بيوتهم ويشترون ما يريدون، ويصيبون من الطعام الجيد مرة، ويمعنون في الشراب، ويلتقون على ميعاد، ويمارسون الحب، ويقضون ساعات الليل جميعها يغنون ويعزفون الموسيقى، ويتصارعون ويرقصون، فالغد يوم عطلتهم، وفي مقدورهم أن يناموا إلى وقت متأخر؛ حتى القداس الأخير على أية حال.
وفي يوم الأحد كان معظم الناس يحتشدون في قداس الساعة الحادية عشرة، ولو أن بعضهم أو قليلا منهم، كانوا يذهبون إلى قداس الساعة السادسة في الصباح المبكر، وكانوا يثابون على ذلك، وإن لم يكونوا يستحقون هذا الثواب لأنهم ظلوا خارج بيوتهم إلى الهزيع الأخير من الليل، فعادوا إلى بيوتهم مع الصباح؛ ولذلك ذهبوا إلى هذا القداس المبكر، وانتهوا منه ثم عادوا إلى بيوتهم وناموا النهار كله بنفس راضية.
ويبدأ يوم السبت بالنسبة لفرانسي برحلة إلى بائع النفايات ، وكانت هي وأخوها نيلي - مثل باقي صبية بروكلين - يجمعان الخرق البالية والورق والمعدن والمطاط، وغير ذلك من أنواع النفايات، ويكدسانها في الصفائح المغلقة الموضوعة في بدروم الدار، أو في صناديق يخفيانها تحت الفراش، وكانت فرانسي في أيام الأسبوع جميعا تمشي على استحياء عائدة إلى بيتها من المدرسة، وعيناها مصوبتان إلى كومة القمامة تبحثان عن رقائق القصدير من صناديق السجائر أو أغلفة العلك، وكانت هذه الرقائق تذاب في غطاء إناء من الأواني؛ إذ إن بائع النفايات لم يكن يقبل كرة من الرقائق دون أن تذاب؛ لأن عددا كبيرا من الصبية كانوا يضعون في وسطها حلقات من الحديد لتصبح أثقل وزنا، وأحيانا كان يعثر نيلي على زجاجة من زجاجات ماء سلتزر،
2
فتعاونه فرانسي في استخلاص غطائها وإذابته للحصول على الرصاص، وكان بائع النفايات لا يشتري عنق الزجاجة كاملا؛ لأن ذلك كان يوقعه في مشاكل مع صناع ماء الصودا، وكان غطاء زجاجة سلتزر شيئا قيما، يساوي بعد صهره خمسة سنتات.
وفي كل مساء كانت فرانسي ونيلي يهبطان إلى «الكرار»، ويفرغان الرفوف مما كدس عليها في النهار من نفايات، وكان لهما هذا الامتياز لأن أم فرانسي كانت هي خادمة الدار، ويسلبان من الرفوف الورق والخرق البالية والزجاجات الفارغة، ولم يكن للورق قيمة كبيرة، فقد كانا يتقاضيان عن كل عشرة أرطال منه سنتا واحدا، وعن رطل الخرق البالية سنتين، ورطل الحديد أربعة سنتات، وكان النحاس معدنا له قيمته، الرطل منه بعشرة سنتات، وكانت فرانسي تعثر أحيانا على قاع مهمل من قيعان غلايات الغسيل، فتنتزعه بفتاحة العلب وتثنيه ثم تطرقه، ثم تثنيه وتطرقه مرة أخرى.
وكان الصبية بعد التاسعة من صباح السبت يبدءون مباشرة مسيرهم نحو طريق مانهاتان، وهو الطريق العام الرئيسي، بعد أن تلفظهم الشوارع الجانبية كالرذاذ ويشقون طريقهم في بطء صاعدين في الطريق إلى شارع سكولز، وقد حمل بعضهم النفايات التي جمعها بين ذراعيه، وجر البعض الآخر عربات صنعت من صناديق الصابون الخشبية، لها عجلات متينة من الخشب، ودفع القليل منهم أمامهم عربات صغيرة من عربات الأطفال محملة بالنفايات.
Неизвестная страница
ووضعت فرانسي ونيلي النفايات التي جمعاها كلها في حقيبة مصنوعة من القنب (الخيش)، وأمسك كل منهما بطرف فيها، وجراها في الطريق، صاعدين شارع مانهاتان، مارين بشوارع موجير، وتن آيك، وستاج، حتى يبلغا شارع سكولز، ويا لها من أسماء جميلة لشوارع قبيحة، وكانت جموع من المساكين الصغار لابسي الأسمال تبرز من كل شارع جانبي لتنضم إلى هذا الحشد الرئيسي، وفي طريقهم إلى محل كارني، كانوا يقابلون الصبية الآخرين العائدين بأيديهم فارغة، بعد أن باعوا نفاياتهم وبعثروا ما أخذوه من بنسات، وعادوا يسيرون في خيلاء، ويهزءون بالصبية الآخرين صائحين: لمام الخرق، لمام الخرق!
واحمر وجه فرانسي حين سمعت هذا النداء، ولم يخفف عنها ما تعلمه من أن هؤلاء الساخرين هم من لمامي الخرق أيضا، أو أن أخاها سوف يعود هائما على وجهه خالي اليدين من عصبته، ويسخرون بالطريقة نفسها من الصبية الذاهبين بعدهم. أجل لقد أحست فرانسي بالعار.
وكان كارني يمارس حرفة جمع النفايات وبيعها في حظيرة آيلة للسقوط، ورأت فرانسي وهي تلف من المنعطف أن بابي الحظيرة قد فتحا على مصراعيهما لاستقبال الوافدين، وخيل إليها أن قرص الميزان يغمز لها مرحبا، ورأت كارني يتصدر الميزان بشعره المغبر، وشاربه المصوف، وعينيه المتآكلتين بالصدأ، وكان كارني يفضل البنات على الصبيان، ويعطي البنات بنسا إضافيا إذا لم تجفل حين يقرص خدها.
وخطا نيلي منتحيا ليفسح لها صدر المكان، انتظارا لما قد تناله فرانسي من منحة، وتركها تجر الحقيبة إلى داخل الحظيرة، وقفز كارني إلى الأمام وقلب الحقيبة وأفرغها على الأرض، ثم نال قرصة أولى من خدها، وبينما كان كارني يكوم النفايات على الميزان، رمشت فرانسي بجفنيها لتعود عينيها الظلام الجاثم على الحظيرة، وتنبهت إلى الجو المعتق، ونفذت إلى أنفها رائحة الخرق المبللة. وصوب كارني نظرة إليها وقال كلمتين هما القيمة التي يشتري بها البضاعة، وكانت فرانسي تعلم أن المساومة ممنوعة، فأطرقت برأسها موافقة. وركل كارني النفايات بعنف، وترك فرانسي تنتظر وهو يكوم الورق في ركن ويرمي الخرق في آخر ، ويصنف المعادن، وفي هذه اللحظة فقط وضع يديه في جيب سرواله، وجذب كيسا قديما من الجلد ربط بخيط مشمع، وعد بعض البنسات القديمة الصدئة التي تشبه النفايات أيضا، وصوب كارني إليها نظرة عفنة باهتة وهي تهمس قائلة: أشكرك.
وقرص خدها بشدة، وملكت فرانسي زمام نفسها، فابتسم كارني وأعطاها بنسا آخر، ثم تغير حاله وأصبح نشطا صاخبا.
ونادى من يليها في الصف، وكان صبيا، قائلا: تعال، أخرج الرصاص.
وضحك ضحكة في أوانها وقال: ولست أريد نفايات.
وضحك الأطفال في إذعان ورن ضحكهم كغثاء حملان صغيرة ضالة، لكن كارني كان يبدو عليه الرضا.
وخرجت فرانسي وقالت لأخيها: لقد أعطاني ستة عشر، وبنسا على القرصة.
ورد أخوها وفقا لاتفاق قديم بينهما: ذلك البنس لك.
Неизвестная страница
ووضعت البنس في جيب ردائها وقدمت له باقي المبلغ، وكان نيلي في العاشرة من عمره، أصغر من فرانسي بسنة واحدة، ولكنه كان «الرجل»، فأخذ المبلغ وقسم البنسات في عناية وحرص: «ثمانية سنتات للحصالة وأربعة سنتات لك وأربعة سنتات لي»، تلك كانت القاعدة أن يودعا نصف ما يحصلان عليه من أي مصدر في علبة القصدير، التي ثبتاها بمسامير في أشد أركان الكرار ظلاما.
وعقدت فرانسي النقود المدخرة في منديل يدها، ونظرت إلى البنسات الخمسة التي تمتلكها، وقد أدركت مغتبطة أنها يمكن أن تستبدل بها قرشا كاملا.
ورفع نيلي الحقيبة المصنوعة من القنب وطواها تحت ذراعه، وشق طريقه إلى محل تشارلي الرخيص الأسعار، وقد سارت فرانسي خلفه مباشرة، وكان مخزن تشارلي الرخيص الأسعار محلا مجاورا لكارني، يبيع صنوف الحلوى ببنس لكل قطعة، وتمونه تجارة النفايات، وكانت خزانته تمتلئ في نهاية يوم السبت ببنسات علاها الصدأ، بيد أن فرانسي لم تدخل المحل ووقفت بجوار بابه، حيث إن العرف جرى على أن المحل للصبية من الذكور.
وكان الصبية ما بين الثامنة والرابعة عشرة من عمرهم، يتشابهون في شكلهم المتشرد بسراويلهم الصغيرة وقلانسهم ذوات القمم المنكسرة، ووقفوا حول المحل وأيديهم في جيوبهم وأكتافهم النحيلة محنية إلى الأمام في حدة، وإنه لمن المحتمل أن تنمو أجسامهم محتفظين بمنظرهم هذا ، واقفين على هذا النحو في غير ذلك من الأماكن التي يغشاها المتسكعون، وقد يكون الفارق الوحيد الذي يحدث هو السيجارة، التي تبدو وكأنما ثبتت إلى الأبد بين شفاههم، ترتفع وتنخفض مع نبرات أصواتهم حين يتكلمون.
ومضى الصبية حينئذ يثرثرون في عصبية، ووجوههم النحيلة تستدير من تشارلي إلى بعضهم، ثم تتجه إلى تشارلي مرة أخرى، ولاحظت فرانسي أن بعضهم قص شعره لحلول الصيف، وأن الشعر قد اجتز قصيرا، حتى إنها رأت على فروة رءوسهم حزوزا في الأمكنة التي تخللها المقص بعمق، واستطاع هؤلاء المحظوظون أن يطووا قلانسهم في جيوبهم أو يزيحوها إلى الخلف على رءوسهم. أما أولئك الذين لم يحلقوا والذين تجعد شعرهم عند مؤخرة أعناقهم في رفق لا تزال فيه سمات الطفولة، فقد أحسوا بالخزي وجذبوا قلانسهم على رءوسهم حتى بلغت آذانهم، فأكسبتهم بعض الشبه بالبنات على الرغم من حركاتهم النابية.
ولم يكن محل تشارلي الرخيص الأسعار رخيصا، كان اسما على غير مسمى ولم يكن صاحبه تشارلي، ولكنه أخذ ذلك الاسم ووضعه على لافتة المحل، وما كان لفرانسي أن تكذب اللافتة، وكان تشارلي يعطي رقما لكل صبي مقابل كل بنس، ومن خلف مائدة الصرف ثبت خمسين خطافا على لوح من الخشب، تتدلى من كل خطاف جائزة، ولم يكن من الجوائز القيمة إلا القليل، مثل قبقاب الانزلاق ذي العجل، وقفاز لعبة البيسبول، ودمية لها شعر حقيقي، وما إلى ذلك ... وحملت الخطافات الأخرى نشافات وأقلام رصاص وغيرها من الأدوات التي تباع ببنس واحد، وراقبت فرانسي نيلي وهو يشتري رقما، وينزع الورقة القذرة من الظرف المهلهل ليجدها ستة وعشرين، ونظرت فرانسي على اللوحة آملة في نيل إحدى الجوائز، ولكن نيلي سحب ممحاة تساوي بنسا.
وسأله تشارلي: أتختار جائزة أم حلوى؟ - أختار الحلوى، فما قولك؟
وكان هذا ما يحدث دائما، ولم تسمع فرانسي أبدا عن صبي ربح جائزة قيمتها أكثر من بنس واحد، وكانت قباقيب الانزلاق في الحقيقة صدئة، وشعر الدمية يغشاه التراب، وكأنما بقيت هذه الأشياء تنتظر هناك أمدا طويلا، مثلها مثل دمية الكلب الأزرق والجندي المصنوع من القصدير.
وقررت فرانسي أنها سوف تشتري في يوم ما حين تملك خمسين سنتا الأرقام جميعا، وتربح كل شيء على اللوحة، وتصورت أنها ستكون صفقة رابحة حين تحصل على قباقيب الانزلاق والقفازات والدمية والأشياء الأخرى جميعها مقابل خمسين سنتا. ترى ما الذي جعل قباقيب الانزلاق وحدها تساوي أربعة أضعاف هذه القيمة، ولسوف يحضر نيلي في هذا اليوم العظيم لأن البنات نادرا ما كن يناصرن تشارلي. والحق أن عدد البنات كان قليلا في ذلك اليوم من أيام السبت، بنات جريئات عصبيات، أكثر نضجا مما يتناسب وأعمارهن، يتكلمن بصوت عال ويلعبن مع الصبية لعبة الجياد، بنات تنبأ لهن الجيران بمستقبل لا يبشر بخير.
واخترقت فرانسي الشارع ذاهبة إلى محل جيمبي لبيع الحلوى، وكان جيمبي أعرج، لكنه كان مهذبا عطوفا على الأطفال الصغار، أو لعله كان كذلك في نظر الناس، حتى كان ذلك اليوم المشمس بعد الظهيرة، حين غرر ببنت صغيرة في حجرته الخلفية المعتمة.
Неизвестная страница
وتساءلت فرانسي عما إذا كان يجدر بها أن تضحي ببنس مما معها من أجل تحفة جيمبي الخاصة، وهي الحقيبة الفائزة، وكانت مودي دونافان التي كانت ذات يوم صديقة فرانسي على وشك أن تبتاع شيئا، فشقت فرانسي طريقها إلى الداخل حتى وقفت خلف مودي، وتظاهرت بأنها تنفق البنس، وكتمت فرانسي أنفاسها حين أشارت مودي بطريقة مسرحية بعد تفكير طويل إلى حقيبة بارزة في نافذة العرض، كانت فرانسي خليقة بأن تنتقي حقيبة أصغر حجما، ونظرت من فوق كتف صديقتها، ورأتها تلتقط قليلا من قطع الحلوى القديمة، وتفحص جائزتها التي كانت منديل يد من الكتان الخشن، وحصلت فرانسي مرة على زجاجة صغيرة من عطر له رائحة نفاذة، وتساءلت مرة أخرى أيصح لها أن تنفق بنسا لتنال جائزة تفوز فيها بالحقيبة، وكان جميلا أن تفاجأ بالجائزة وإن لم تستطع أن تأكل الحلوى، لكن فرانسي رأت حين تدبرت الأمر أن المفاجأة كانت في وجودها مع مودي وهي تشتري، وكان هذا لا يكاد يقل جمالا عن مفاجأة الجائزة.
وسارت فرانسي صاعدة في شارع مانهاتان تقرأ بصوت عال أسماء الشوارع ذات الجرس الجميل، وهي تمر بها: سكولز، ميزيرول، مونتروز ثم شارع جونسون، وكان الإيطاليون يقطنون في الشارعين الأخيرين، وكانت الضاحية المسماة بمدينة اليهود تبدأ من شارع سيجل وتشمل شارع مور وشارع ماكيبن حتى شارع برودواي، واتجهت فرانسي تلقاء برودواي.
وماذا كان هناك في شارع برودواي في حي ويليمسبرج ببروكلين؟ لا شيء، اللهم إلا أجمل محل في العالم يبيع بضائعه بعشرة أو خمسة سنتات، وكان محلا كبيرا تتلألأ أنواره، وبه كل شيء في العالم، أو هكذا خيل لفتاة في الحادية عشرة من عمرها، وكانت فرانسي تمتلك عشرة سنتات، تمتلك قوة ... تستطيع أن تشتري أي شيء تقريبا في ذلك المحل، وكان هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك.
ووصلت فرانسي إلى المحل، وأخذت تتجول بين أقسامه ذهابا وإيابا، تمسك بأي سلعة يهفو إليها خيالها، يا له من شعور رائع تحسه حين تلتقط شيئا ما وتمسكه بيديها لحظة، تتحسس هيكله وتجري يدها على سطحه، ثم تعيده إلى مكانه في حرص وعناية، وكانت السنتات العشرة التي معها تمنحها هذا الامتياز، فإذا ما سألها سائل إذا كانت تنوي شراء شيء فإنها تستطيع أن تقول نعم، وتشتريه مشيرة إلى شيء أو شيئين، وقررت فرانسي أن المال شيء عجيب، واستقر رأيها بعد فترة من المتعة العارمة في لمس الأشياء، على أن تشتري رقائق من النعناع قرنفلية اللون مقابل خمسة سنتات.
وعادت فرانسي إلى بيتها هابطة طريق جراهام وشارع غيتو، وبهرتها عربات اليد الممتلئة بالسلع، وكل عربة في ذاتها بمثابة محل صغير، زاخرة ... بالمساومات، واليهودي الحاد المزاج، والرائحة الغريبة التي تنبعث من المنطقة المجاورة، رائحة السمك المطهو، وخبز الجويدار الحريف حين يخرج طازجا من الفرن، ونفذت إلى أنفها رائحة تشبه رائحة العسل وهو يغلي، وحملقت فرانسي في الرجال الملتحين وعلى رءوسهم قلانس مصنوعة من صوف الباكاه، يرتدون معاطف من قماش السلكلين، وتساءلت في عجب عما جعل عيونهم ضيقة إلى هذا الحد ، تنبعث منها تلك النظرات النفاذة، ونظرت من خلال الفتحات الصغيرة في جدران المحال، وشمت رائحة أقمشة الأردية التي وضعت بغير نظام على المناضد، ولاحظت الأسرة المصنوعة من الريش تبرز خارج النوافذ، والملابس ذات الألوان الشرقية الزاهية منشورة على سلم الطوارئ، والأطفال أنصاف العرايا يلعبون في بالوعات المياه، وقد جلست على حافة الطريق على كرسي خشبي صلب امرأة تحمل في أحشائها طفلا؛ جلست في صبر تحت أشعة الشمس الدافئة، تراقب الحياة الجارية في الشارع، وترعى ما يستكن في أعماقها من سر حياتها.
وكانت الساعة الثانية عشرة حين وصلت فرانسي إلى بيتها، وأقبلت أمها بعد مجيئها مباشرة تحمل دلوها ومكنستها، وضربت بهما في الركن، تلك الضربة الأخيرة التي تعني أنها لن تمسهما مرة أخرى حتى يوم الإثنين.
وكانت أمها في التاسعة والعشرين من عمرها، سوداء الشعر، داكنة العينين، يداها سريعتا الحركة، وكانت جميلة الشكل أيضا، تعمل خادمة وتنظف ثلاثة بيوت مستأجرة، ترى هل يطرأ ببال أحد قط أن أمها تمسح الأرض لتعولهم هم الأربعة؟ كانت جميلة، خفيفة، مليئة بالحياة، تفيض بالمرح والنشاط دائما، وكانت يداها جميلتين وأظافرهما جميلة بشكلها المقوس البيضاوي بالرغم من أن يديها كانتا حمراوين مشققتين من أثر استعمال الماء الممتزج بالصودا، وكان كل شخص يقول إنه لأمر يستدر الشفقة أن امرأة خفيفة جميلة مثل كاتي نولان، تقتضيها الظروف أن تسعى لتمسح الأرض، ولكنهم كانوا يتساءلون: ماذا عسى أن تعمل ولديها ذلك الزوج الذي تعوله؟ وكانوا يعترفون أن جوني نولان رجل وسيم محبوب أفضل بكثير من أي رجل في الحي، بصرف النظر عن اختلاف نظرة الناس إليه، ولكنه كان سكيرا. ذلك ما كانوا يقولونه، وكان قولا حقا.
وتعمدت فرانسي أن تجعل أمها تشاهدها وهي تضع السنتات الثمانية في الحصالة المصنوعة من القصدير، واستمتعتا بخمس دقائق طيبة تخمنان فيها قيمة النقود التي في الحصالة، وظنت فرانسي أنه لا بد أن يكون فيها ما يقرب من مائة دولار، ولكن أمها قالت إن ثمانية دولارات ربما تكون أقرب رقم إلى الحقيقة.
وأصدرت الأم لفرانسي تعليماتها بشأن الخروج لتشتري شيئا للغداء، قائلة: خذي ثمانية سنتات من الفنجان المشدوخ، واشتري ربع رغيف من الخبز المصنوع من الجويدار وتأكدي أنه طازج، ثم خذي خمسة سنتات واذهبي إلى محل سوروين واطلبي طرف لسان، ولكن يجب أن تلحي وتلحفي لكي تحصلي عليه، ثم أضافت في تصميم وحزم: أخبريه أن أمك هي التي قالت ذلك.
وأخذت تفكر في شيء، ثم قالت: لا أدري هل يجب أن نشتري كعك السكر الصغير بخمسة سنتات، أو نودع هذا المبلغ في الحصالة؟ - أوه يا أماه! هذا يوم السبت، وإنك ظللت تقولين طوال الأسبوع إننا سنأكل الحلوى يوم السبت. - حسنا، أحضري الكعك الصغير.
Неизвестная страница
وكان المخبز الصغير مليئا بالذين يشترون الخبز المصنوع من الجويدار، وشاهدت فرانسي البائع وهو يدس ربع رغيفها في كيس من الورق، وظنت أنه بلا شك أروع خبز في العالم، وهو طازج بقشرته العجيبة الفضية الهشة وقعره المغطى بالدقيق، ودخلت حانوت سوروين في إحجام وتردد، فقد كان أحيانا يبيع اللسان بثمن مناسب وأحيانا يبيعه بثمن غير مناسب؛ ذلك أن شرائح اللسان يباع الرطل منها بخمسة وسبعين سنتا، وهو ثمن لا يناسب إلا الأغنياء، ولكنك كنت تستطيع بعد أن يوشك الرجل على بيع اللسان كله، أن تشتري طرفه المربع بخمسة سنتات فحسب، لو أنك ساومته. ولم يكن يبقى بطبيعة الحال من طرف اللسان شيء اللهم إلا غضاريف صغيرة معظمها رخو، وليس به إلا أثر يسير يذكرك باللحم. وتصادف أن كان ذلك اليوم من الأيام التي يكون فيها سوروين معتدل المزاج وديعا، وقال الرجل لفرانسي: لقد نفد اللسان بالأمس، ولكني حفظته لك؛ لأني أعلم أن أمك تحب اللسان أخبري أمك بهذا.
وهمست فرانسي: نعم يا سيدي.
وأطرقت وهي تحس بالحرارة تسري في وجهها، لقد كرهت سوروين، ولم تصح نيتها على أن تنبئ أمها بما قال.
واختارت فرانسي حين وصولها إلى الخباز أربع كعكات صغيرة، وأخذت تنتقي بعناية الكعكة التي يغطيها السكر أكثر من غيرها، وقابلت نيلي خارج المخبز، واختلس نيلي نظرة إلى داخل الحقيبة ، ثم قفز من الفرح حين رأى الكعك، وبالرغم من أنه أكل في ذلك الصباح حلوى قيمتها أربعة سنتات، فإنه كان يشعر بجوع شديد، وحمل فرانسي على أن تجري الطريق كله إلى البيت.
ولم يعد أبوها إلى البيت وقت الغداء، وكان نادلا يغني بالقطعة، ومعنى ذلك أنه لم يكن يعمل في كثير من الأحيان، وكان يقضي عادة صباح يوم السبت في مكتب العمل ينتظر عملا يوكل إليه.
وحظيت فرانسي ونيلي وأمهما بأكلة شهية جدا، أخذ كل منهم شريحة سميكة من اللسان، وقطعتين من خبز الجويدار الطيب الرائحة تغطيها طبقة من الزبد غير المملح، وأصاب كل منهم كعكة من كعك السكر ثم فنجانا من القهوة الساخنة ممزوجة بملعقة من اللبن المركز المحلى بالسكر.
وكان لأسرة نولان فكرة خاصة عن القهوة، فقد كانت متعتهم الوحيدة الكبرى، تصنع الأم منها كل صباح ملء وعاء كبير، ثم تعيد تسخينه للغداء والعشاء، فتصبح القهوة أكثر تركيزا كلما انقضى اليوم، وكانت الأم تضع كمية هائلة من الماء على كمية قليلة جدا من اللبن، ولكنها كانت تضيف إليهما قطعة من الشيكوريا تجعل لها طعما مركزا مرا، وتسمح لكل فرد أن ينال ثلاثة فناجين منها مع اللبن، ويمكن في الأوقات الأخرى أن ينال المرء فنجانا إضافيا من القهوة السوداء في أي وقت يشاء. وإنك في بعض الأحيان، حين تكون خلي البال والجو ممطرا والشقة خاوية إلا منك، تشعر بالثقة إذ تعلم أنك تستطيع أن تصيب شيئا، حتى ولو لم يكن سوى فنجان من القهوة المرة السوداء.
وكان نيلي وفرانسي يحبان القهوة، ولكنهما قلما كانا يشربانها، وترك نيلي اليوم كشأنه دائما فنجان قهوته على حاله، والتهم نصيبه من اللبن المركز واضعا إياه على الخبز، ورشف من القهوة السوداء جريا على العرف، وأفرغت الأم لفرانسي قهوتها ومزجت بها اللبن، بالرغم من أنها كانت تعلم أن الطفلة سوف لا تشربها.
وكانت فرانسي تحب نكهة القهوة وسخونتها، فبينما كانت تأكل خبزها وقطعتها من اللحم، تركت يدها مثنية تلتف حول فنجان القهوة مستمتعة بدفئها ، ومن حين إلى حين تشم نكهة حلاوتها الممررة، وكانت تؤثر ذلك على احتسائها، وكان مصير القهوة بعد فراغها من طعامها إلى البالوعة.
وكان للأم أختان: هما سيسي وإيفي، تأتيان إلى الشقة في كثير من الأحيان، وكانتا في كل مرة تريان فيها القهوة تنتهي إلى هذا المصير، تعطيان الأم محاضرة في الإسراف، وشرحت الأم لهما الأمر قائلة: إن فرانسي يخصها في كل وجبة فنجان من القهوة مثل الباقين، وإذا كانت تؤثر إلقاءها في البالوعة على احتسائها، فلا ضير من ذلك، وإني أظن أنه من الخير لأناس مثلنا أن يبددوا شيئا من حين لآخر، ويستمتعوا بشعور الذين يتوافر لديهم مال وفير، ولا يشغلون أنفسهم بالتقتير.
Неизвестная страница
وأرضت الأم هذه النظرة الغريبة إلى الأمور، وطابت لها نفس فرانسي؛ إذ كانت إحدى الروابط التي تجمع بين الفقراء المعدمين والأغنياء المسرفين، وشعرت الفتاة أنها كانت تملك أقل مما كان يملكه أي شخص في ويليمسبرج، فإنه كان لديها بوجه من الوجوه شيء أكثر مما لديهم جميعا؛ لقد كانت أغنى لأن لديها شيئا تستطيع أن تبدده، وأكلت كعكة الحلوى في بطء مشفقة من أن تفقد طعمها الحلو، على حين أصبحت القهوة في برودة الثلج، ثم أفرغتها في البالوعة في عظمة، وقد أحست إحساسا عارضا بالتبذير، واستعدت بعد ذلك للذهاب إلى محل لوشر، لتشتري ما تحتاج إليه الأسرة من الخبز غير الطازج، الذي يكفيهم نصف أسبوع، وأخبرتها أمها بأن تأخذ خمسة سنتات وتشتري فطيرة بائتة، إذا استطاعت أن تحصل على فطيرة لم تضرب عند عجنها ضربا شديدا.
وكان مخبز لوشر يزود بالخبز حوانيت المنطقة المجاورة، ولم يكن الخبز يلف في ورق الشمع، كما كان يفسد سريعا؛ لذا فإن لوشر كان يخفي الخبز البائت عن زبائنه ويبيعه بنصف ثمنه للفقراء، وكان الحانوت الخارجي يتبع المخبز وتشغل جانبا منه مائدة البيع المستطيلة، ويشغل الجانبين الآخرين صف من الأرائك، وثمة باب ذو مصراعين ضخم مفتوح وراء مائدة البيع، وكانت عربات المخبز تقف في مؤخرتها لصق المائدة، وتفرغ حمولتها من الخبز على هذه المائدة مباشرة، حيث كانوا يبيعون الرغيفين بخمسة سنتات، ويندفع الجمهور حينما كانت العربات تفرغ حمولتها، ومن ثم فقد كان على المائدة متزاحما يجاهد في سبيل شراء الخبز، ولم يكن الخبز يتوافر قط للجميع، على البعض أن ينتظر حتى تقبل ثلاث عربات أو أربع قبل أن يتمكنوا من شراء الخبز، وكان الزبائن يشترون الخبز بهذا السعر ويتكفلون هم بلفه، وكان معظمهم من الأطفال، وكان بعض الصبية يطوون الخبز تحت أذرعتهم، ويعودون أدراجهم إلى بيوتهم يعلنون بلا حياء للعالم كله أنهم قوم فقراء، أما ذوو الكبرياء فكانوا يلفون خبزهم في أوراق الصحف القديمة أو في أكياس الدقيق النظيفة أو القذرة، ولكن فرانسي أحضرت معها كيسا كبيرا من الورق.
ولم تحاول فرانسي أن تحصل على خبزها سريعا، وجلست على إحدى الأرائك وأخذت تراقب الناس، كان نفر من الصبية يتدافعون ويتصايحون عند مائدة البيع، وأربعة رجال مسنون ينعسون على الدكة المقابلة، وكان الرجال المسنون، وقد أصبحوا عالة على أسرهم، يكلفون بتوصيل الرسالات ورعاية الأطفال، وكان ذلك هو العمل الوحيد الذي بقي لهؤلاء الرجال الذين بلغوا من الكبر عتيا في ويليمسبرج، كانوا ينتظرون ما وسعهم الانتظار قبل أن يشتروا لأن رائحة الخبز في مخبز لوشر كانت طيبة، والشمس النافذة من الشرفات تسقط على ظهورهم الكليلة وتشعرهم بالراحة؛ لهذا جلسوا ونعسوا والساعات تمر، وأحسوا بأنهم يزجون بذلك وقت فراغهم، وقد جعل الانتظار لحياتهم هدفا إلى حين، وأوشكوا أن يشعروا بأن الناس ما فتئوا يحتاجون إلى وجودهم.
وحملقت فرانسي في أكبر الرجال سنا، وأخذت تمارس لعبتها المفضلة في تأمل أشكال الناس، وكان شعره الخفيف المتشابك رماديا قذرا كالهشيم يعف على خديه الغائرين، وأحاط لعابه الجاف بزاويتي فمه، وراح الرجل المسن يتثاءب فبدا فمه خاليا من الأسنان، وراقبته فرانسي معجبة منفعلة، وهو يغلق فمه ويجذب شفتيه إلى الداخل، حتى يصبح وكأنه بلا شفتين، ويرفع ذقنه حتى يكاد يلمس أنفه، وأخذت تدرس معطفه العتيق، وقد تدلى حشوه عند طية الحياكة من الكم المهلهل، وكانت ساقاه تستلقيان على الأرض متباعدتين في استرخاء لا حول له ولا قوة، وقد فقد «زرار» من فتحة السروال التي تحيط بها طبقة من الشحم، ورأت أن حذاءه كان متعجنا ممزقا عند الأصابع، على أن فردة من فردتي الحذاء، كانت قد خيطت بخيط من خيوط الأحذية كثير العقد، وخيطت الأخرى بقطعة من الدوبارة القذرة، ورأت إصبعين من أصابع قدميه سميكتين قذرتين لهما أظافر رمادية مجعدة، وصرحت بأفكارها قائلة بينها وبين نفسها: إنه لرجل مسن جاوز بلا ريب سبعين سنة، وولد تقريبا في الوقت الذي كان فيه إبراهام لنكولن يعيش متأهبا لرياسة الجمهورية، وما من ريب أن ويليمسبرج كانت حينئذ بلدة ريفية، ولعل الهنود كانوا لا يزالون يعيشون في فلاتبوش، كان ذلك منذ أمد بعيد.
واستمرت تحملق في قدميه وهي تهمس لنفسها: لقد كان طفلا في يوم من الأيام، ولا بد أنه كان جميلا نظيفا، تقبل أمه أصابع قدميه الصغيرة الوردية اللون، وربما كانت تمضي إلى مهده حين ترعد السماء بالليل، وتحكم الغطاء حوله، وتهمس في أذنه بألا يخاف لأنها بجانبه، ثم ترفعه إليها وتضع خدها على رأسه، وتقول إنه طفلها الجميل، ولعله كان صبيا مثل أخي، يجري داخل المنزل وخارجه ويصفق الباب، وحينما تؤنبه أمه يذهب بها التفكير إلى أنه قد يصبح رئيسا للجمهورية ذات يوم، ثم أصبح شابا قويا سعيدا تبتسم له الفتيات حين يمشي في الشارع، ويلتفتن إليه ليشاهدنه ويبادلهن الابتسام وقد يغمز بعينيه لأجملهن، وإني لأخمن أنه لا بد قد تزوج وأنجب أطفالا، كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى أروع أب في العالم؛ لأنه كان يكد في العمل ويشتري لهم اللعب في ليلة عيد الميلاد، ولكن أطفاله الآن يتقدمون في العمر أيضا مثله، وقد أنجبوا أطفالا ... بدورهم، ولم يعد أحد منهم يرغب في الرجل المسن وإنهم لينتظرون موته، ولكنه لا يريد أن يموت، بل يريد أن يبقى حيا بالرغم من تقدمه الكبير في السن، ولم يعد أمامه شيء بعد يبعث في قلبه السعادة.
وكان المكان هادئا، وشمس الصيف تنفذ إلى الداخل، محدثة شعاعات يغشاها الغبار تنحدر إلى أسفل من النافذة إلى الأرض، وأخذت ذبابة كبيرة خضراء تطن داخلة خارجة في الغبار المشمس، وكان المكان خاليا إلا من هذه الذبابة والرجال المسنين الناعسين، وقد خرج الأطفال الذين ينتظرون الخبز ليلعبوا في الخارج، وبدأت أصواتهم العالية الصاخبة كأنها تأتي من بعيد.
وفجأة قفزت فرانسي واقفة، وقلبها يدق دقا سريعا، وشعرت بالفزع وظنت بلا سبب مطلقا أن أحدا قد شد أوتار «الأكورديون» إلى آخرها ليعزف نغمة قوية، وانتابتها فكرة بأن «الأكورديون» يقترب ... ويقترب ... واستولى عليها رعب لا سبيل إلى وصفه حين تحققت أن كثيرا من الأطفال الملاح في العالم، قد ولدوا لينتهوا في يوم من الأيام إلى ما انتهى إليه هذا الرجل المسن، وخيل إليها أنها يجب أن تخرج من ذلك المكان وإلا فقد يحل بها ذلك فجأة، فتصبح امرأة عجوزا خلا فمها من الأسنان، وينظر الناس إلى قدميها في تقزز واشمئزاز، وفي تلك اللحظة انفتح مصراعا الباب المزدوج خلف مائدة البيع، معلنين عن قدوم عربة من الخبز، وأقبل رجل ووقف خلف المائدة، وبدأ سائق العربة يقذف له الخبز الذي أخذ يكومه على المائدة، واحتشد الصبية الذين سمعوا الباب وهو يفتح في الداخل، وأخذوا يتشاجرون حول فرانسي التي وصلت إلى المادة من قبل.
وصاحت فرانسي قائلة: إنني أريد خبزا.
ودفعتها فتاة كبيرة دفعة قوية، وأرادت أن تعلم من تكون، وما هو الشأن الذي تدعيه لنفسها، وقالت لها فرانسي: لا عليك، لا عليك.
وصاحت فرانسي قائلة: أريد ستة أرغفة وفطيرة لم تضرب ضربا شديدا.
Неизвестная страница
ودفع لها البائع، وقد تأثر بإلحاحها، ستة أرغفة وأقل الفطائر ضربا من العائد، وأخذ منها عشرين سنتا، وشقت طريقها خارج الزحام، وسقط منها رغيف التقطته من الأرض بعد عناء، حيث إنه لم تكن هناك فسحة تتيح لأحد أن ينحني.
وجلست في الخارج على حافة الطريق تسوي الخبز والفطيرة في حقيبة الورق، ومرت امرأة تجر طفلا في عربة صغيرة، وكان الطفل يحرك قدميه في الهواء، ونظرت فرانسي، ولم تر قدمي الطفل، وإنما رأت شيئا غريبا داخل حذاء كبير مهلهل ، واستولى عليها الرعب مرة أخرى، وأطلقت ساقيها للريح طول الطريق إلى البيت.
ووجدت الشقة خالية، كانت أمها قد ارتدت ملابسها وخرجت مع الخالة سيسي لتشهد حفلة صباحية في السينما، مقابل عشرة سنتات لكل مقعد في الشرفة العليا، وحفظت فرانسي الخبز والفطيرة في المكان المخصص لهما، وطوت الحقيبة بعناية حتى يمكن استعمالها في المرة المقبلة، وذهبت إلى حجرة النوم الصغيرة الخالية النوافذ، التي كانت ترقد فيها هي ونيلي، وجلست في مهدها في الظلام تنتظر انحسار موجات الرعب التي كانت تنتابها.
ودخل نيلي بعد قليل وزحف تحت مهده وجذب قفازا مهلهلا ثم وقف، وسألته قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟ - ذاهب لألعب الكرة في الخلاء. - هل أستطيع أن آتي معك؟ - لا.
وتبعته هابطة إلى الشارع حيث كان ينتظره ثلاثة من إخوانه، وكان أحدهم يحمل مضربا ويحمل الآخر كرة البيسبول، والثالث لا يحمل شيئا، ولكنه يرتدي السراويل الخاصة بكرة البيسبول، واستأنفوا طريقهم إلى شقة من الأرض خالية من المباني بالقرب من جرتينبونيت، ورأى نيلي فرانسي وهي تتبعهم ولم يقل شيئا، لكن أحد الصبيان لكزه قائلا: هاي! إن أختك تتبعنا!
ورد نيلي موافقا: أجل!
واستدار الصبي وصاح في فرانسي قائلا: امضي لشأنك.
وقالت فرانسي: هذا بلد حر.
وردد نيلي القول للصبي: هذا بلد حر.
ولم يعيروا فرانسي اهتماما بعد ذلك، وظلت فرانسي تتبعهم؛ إذ لم يكن لديها شيء يشغلها حتى الساعة الثانية، حينما تفتح مكتبة الحي مرة أخرى.
Неизвестная страница
وكان المسير بطيئا كتبختر الجياد، يتوقف الصبية ليبحثوا عن رقائق القصدير في النفايات، ويلتقطوا أعقاب السجائر يدخرونها ويدخنونها بعيدا عن الأنظار بعد ظهر اليوم الممطر التالي، وقضوا وقتا في مشاكسة صبي يهودي كان في طريقه إلى المعبد، فاحتجزوه عن المضي في سبيله، وراحوا يتجادلون فيما يفعلون به، وانتظر الصبي وهو يبتسم في مذلة، ثم أطلقوا سراحه أخيرا بعد أن زودوه بإرشادات مفصلة عن السلوك الذي يجب عليه أن يتبعه في الأسبوع المقبل.
وأمروه قائلين: لا تظهر فتاتك في شارع ديفو.
ووعدهم قائلا: لن أفعل ذلك.
وشعر الصبية بخيبة أمل؛ فقد كانوا يتوقعون منه مقاومة أكثر من ذلك، وأخرج أحدهم قطعة طباشير من جيبه ورسم خطا متموجا على جانب الطريق، وقال له آمرا: لا تمش فوق هذا الخط.
وصمم الصبي الصغير، وقد عرف أنه ضايقهم لاستسلامه اليسير، على أن يجاوبهم، فقال لهم: ألا أستطيع حتى أن أضع قدما واحدة في البالوعة أيها الرفاق؟ وقالوا له: إنك لا تستطيع أن تبصق في البالوعة.
وتنهد الصبي متظاهرا بالتسليم: وهو كذلك.
وقال واحد من الصبية الأكبر سنا: وابتعد عن البنات من جنسنا، أتفهمني؟
ومضوا في طريقهم وتركوه يحملق خلفهم.
وهمس الصبي وهو يحرك عينيه الكبيرتين الداكنتين: وي! وي!
وكانت الفكرة التي راودت هؤلاء الصبية، وجعلتهم يحسبون أن عوده قد اشتد، فأصبح يستطيع أن يفكر في أية فتاة قد أصابته بالاضطراب، فأخذ يترنح ومضى في طريقه يردد: وي! وي!
Неизвестная страница
ومشى الصبية متباطئين يختلسون النظر في خبث إلى الصبي الكبير الذي أشار إلى البنات متسائلين: هل سيفضي به الأمر إلى حديث قذر؟ ولكن قبل أن يحدث ذلك سمعت فرانسي أخاها يقول: أعرف هذا الصبي، إنه يهودي أبيض.
وكان نيلي قد سمع أباه يقول ذلك عن يهودي يعمل في إحدى الحانات كان يميل إليه، وقال الصبي الكبير: ليس هناك من يسمى باليهودي الأبيض.
وقال نيلي بأسلوبه الذي جمع بين موافقة الآخرين مع الاحتفاظ بآرائه الخاصة مما حبب فيه القلوب: حسنا! لو أن هناك من يسمى باليهودي الأبيض لكان خليقا أن يكونه.
وقال الصبي الكبير: لا يمكن أن يوجد من يسمى باليهودي الأبيض ولو من قبيل الفرض.
ورأوا قبل أن يتعمقوا أكثر من ذلك في علم اللاهوت صبيا آخر، يتجه إلى شارع أينسلي قادما من شارع هامبولت يحمل سلة في ذراعه، وكانت السلة مغطاة بقطعة نظيفة من القماش المهلهل، برزت من أحد أركانها عصا نصب عليها كالعلم الفاتر الحركة، ست فطائر مملحة من فطائر البرتزل، وأصدر الصبي الكبير من زمرة نيلي أمرا فانقض الصبية متكاتفين على بائع فطائر البرتزل، وثبت الصبي في مكانه فاغرا فمه وصاح قائلا: أماه!
وانفتحت نافذة في الطابق الثاني وصاحت منها امرأة، تمسك حول نهديها المسترخيين كيمونو
3
من نوع الكريب الذي يشبه الورق: دعوه وشأنه واتركوا هذا المكان يا أيها الملاعين.
وارتفعت يدا فرانسي لتسدا أذنيها حتى لا تقول للقسيس ساعة الاعتراف، إنها وقفت واستمعت إلى كلمة نابية.
وقال نيلي وعلى وجهه تلك الابتسامة المحببة التي ينال بها دائما رضا أمه: إننا لا نفعل شيئا أيتها السيدة.
Неизвестная страница