وكان رجل من الأشراف اسمه المركيز دي جيجي جالسا على مقربة منهم يسمع حديثهم وينصت لحوارهم، فوضع يده على كتف راجنو، فالتفت راجنو إليه. فقال له: أتستطيع أن تخبرنى من هو سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟ فهز راجنو رأسه كالمستغرب، وقال له: إني لأعجب لأمرك يا سيدي، فهي أول مرة سمعت فيها أن إنسانا في العالم لا يعرف السيد سيرانو! قال: إني أعرف عنه شيئا قليلا، وأريد أن أعلم أنبيل هو أم صعلوك؟ قال: إن كنت تريد من النبل شيئا غير الشرائط والأوسمة والذهب والفضة والحرير والديباج، فهو أنبل النبلاء وأشرفهم؛ لأنه جندي شجاع، جريء في مواقفه ومشاهده، صادق في قوله وفعله، لا يحابي ولا يجامل، ولا يتذلل ولا يتزلف، ولا يخضع في شأن من شئون حياته إلا للحق الذي يعبده ويدين له، ولو عرفته يا سيدي لعرفت أفضل الناس خلقا، وأشرفهم نفسا، وأطيبهم قلبا، وأشدهم عطفا على البؤساء والمنكوبين، وهو فوق ذلك شاعر مجيد، وعالم فاضل، وناقد بارع، أما شكله فمن أغرب الأشكال وأعجبها، حتى لو أراد مصورنا العظيم «فيليب دي شامبيني» أن يرسمه كما هو لعجز عن ذلك أو كاد، فإن الناظر إليه ليعجب كل العجب لمنظر قبعته المحلاة بالريشات الثلاث، وردائه الملون الجميل، وقبائه الواسع المسدس الأطراف، الذي يرفع مؤخره بطرف سيفه، ثم يمشي به مختالا كأنه طاووس يجر ذنبه وراءه، وله أنف هائل جدا، لا يراه الرائي حتى يذعر ويرتاع، ويقف أمامه مدهوشا منذهلا، يعجب لصاحبه كيف استطاع أن يحمله في رقعة وجهه، وكيف لا يلتمس السبيل إلى الخلاص منه، أما هو فراض عنه كل الرضا، لا يشعر بثقله، ولا يفكر في الخلاص منه بحال من الأحوال، والويل كل الويل لمن يرفع نظره إليه، أو تختلج شفتاه بابتسامة العجب منه أو السخرية به، فإن رأسه يطير بضربة واحدة من حد سيفه. فقال له المركيز: كيفما كان الأمر فإنني أستطيع أن أقول لك - وأنا على ثقة مما أقول، إنه أعجز من أن يمنع مونفلوري عن التمثيل؛ بل هو لا يحضر الحفلة الليلة فرارا من وعيده الكاذب. فقال راجنو: وأنا أراهن على حضوره بدجاجة مشوية من مطعم «راجنو» الشهير، ولا أرزؤك دانقا واحدا إن أنا ربحت الرهان! ثم أدار ظهره إليه، وجلس يتحدث إلى لينيير وكرستيان.
وإنه لكذلك إذ لمح رجلا مقبلا على البعد. فقال لصاحبه: ها هو ذا المسيو «لبريه» صديق السيد سيرانو الحميم، فأذنا لي بالذهاب إليه، لعلي أستطيع أن أعلم من شأنه شيئا، ثم تركهما وذهب إليه، فرآه يقلب نظره في الجماهير، ويلتفت يمنة ويسرة، فقال له: لعلك تفتش عن سيرانو أيها الصديق؟ قال: نعم، وإني قلق من أجله جدا. قال: قد فتشت عنه قبلك فلم أجده، ثم انتحى به ناحية من القاعة، وجلسا معا يتحدثان.
روكسان
وهنا ظهرت روكسان في مقصورتها، فضج الجمهور حين رآها ضجيج السرور والابتهاج، وصاح أحد الأشراف الجالسين على المسرح: آه يا إلهي! إن جمالها فوق ما يتصور العقل البشري! وقال آخر: إنها زهرة تبتسم في أشعة الشمس، وقال آخر: إنها روضة يانعة يحمل النسيم رياها العطر إلى القلوب فينعشها، وكان كرستيان مشغولا بأداء ثمن الشراب الذي شربه لينيير، فلم ينتبه إليها؛ ثم التفت فرآها، فارتعد واصفر وجهه وأخذ بيد لينيير وقال له: ها هي ذي، فقل لي من هي؟ إنني خائف جدا يا صديقي، فضع يدك على قلبي فما أحسب إلا أنه يحاول الفرار من مكانه رهبة وجزعا، حدثني عنها واذكر لي كل ما تعلم من أمرها، وارفق بي في حديثك، حتى لا تقضي على الأمل الوحيد الباقي لي من حياتي.
فقهقه لينيير ضاحكا وقال له: بخ بخ لك يا كرستيان! لقد أحسنت الاختيار لنفسك كل الإحسان، وما أحببت إلا أجمل فتاة في فرنسا، فإن كان صحيحا ما تقول من أنها تمنحك من ودها مثل ما تمنحها، وأنها تنظر إليك بمثل العين التي تنظر بها إليها، فأنت أحسن الناس حظا، وأسعدهم طالعا، إنها السيدة مادلين روبان، الشهيرة بروكسان، وهي فتاة عذراء يتيمة، لا أهل لها ولا أقرباء سوى ابن عمها سيرانو دي بيرجراك، الذي كانوا يتحدثون عنه الآن، وهي على فرط جمالها وكثرة محاسنها، عفيفة طاهرة الذيل، عاقلة رزينة، تجلس إلى أذكياء الرجال وتحادثهم، وتفتتن بتصوراتهم وأفكارهم، وتخوض معهم في كل شأن من شئون الحياة حتى شأن الحب، ولكنها لا تأذن لأحد أن يحبها أو أن يعبث بقلبها، فإن حاول ذلك منهم محاول دافعته عنها برقة وأدب، ورفق وحكمة، فسلم لها شرفها وكرمها، ولا عيب فيها إلا أنها من فريق الأديبات المتحذلقات اللواتي أفسد الأدباء المتحذلقون أذواقهن الأدبية، فذهبن مذهب التكلف والتعمل في أحاديثهن وحوارهن، فلا ينطقن بكلمة صريحة خالية من التشابيه والمجازات والإشارات والكنايات، ولا يواجهن المعاني التي يردن الإفضاء بها إلى السامعين مواجهة، بل يدرن حولها دورات كثيرة حتى يصلن إليها، فإذا أردن أن يقلن في أحاديثهن العادية: أشرقت الشمس، قلن: «ذر قرن الغزالة»، أو أقبل الليل، قلن: «هجم جيش الظلام» أو: طلعت النجوم، قلن: «تجلت عروس الزنج في قلائدها الدرية»، أو: ها هو ذا الكرسي فاجلس عليه، قلن: «ها هو ذا الكرسي يفتح ذراعيه لاستقبالك فتفضل بإلقاء نفسك بين أحضانه»، أي إنهن لا يعجبهن من الألفاظ إلا المتكلف المصنوع، ولا من المعاني إلا المجلوب المختصر، ولا من الشعراء والكتاب إلا المتكلفون المتشدقون في أساليبهم وتصوراتهم، وهي سعيدة في عيشها، مغتبطة بحياتها، لا ينغص عليها صفوها غير هذا الرجل الهمجي المتوحش الذي تراه واقفا بجانبها الآن.
فالتفت كرستيان، فرأى رجلا رشيقا متأنقا حسن الزي والهندام، متشحا بوشاح حريري أزرق، متقلدا سيفا عسكريا مرصعا، قد أسند ذراعه إلى ظهر كرسيها كأنه يحتضنها، وظل يحادثها بصوت منخفض كأنه يسارها ويناجيها؛ فقال له وهو يرتجف غيظا وحنقا: من هذا الرجل؟ وكان لينيير قد ثقل، وبدأ يتمتم ويتلعثم. فقال بنغمة الفأفأة: إنه الكونت دي جيش، أحد قواد الجيش الفرنسي، وصهر الكردينال دي ريشلييه وزير فرنسا العظيم، وقد أحب روكسان وأغرم بها غراما شديدا، ولما رأى أن لا سبيل له إليها من طريق المخالة؛ لأنها شريفة مترفعة، ولا من طريق الزواج؛ لأنه متزوج بابنة أخت الكردينال، أراد أن يزوجها من رجل ساقط من أشياعه، لا تحبه ولا تأبه له اسمه الفيكونت «فالفير»، طمعا في أن ينال منها من طريقه ما لم ينل من طريق آخر، فهالها الأمر وتعاظمها، وأبت أن تذعن لرأيه أو تنزل على حكمه، ولكنه لا يزال يلح عليها ويضايقها، وهي تدافعه عنها بلطف وأدب، وحذر واحتياط، وأخاف إن استمرت هذه الحال أن ينتهي بها الأمر إلى الخضوع والإذعان؛ لأن الرجل قوي جريء مدل بمكانه من قيادة الجيش، وبحظوته عند الكردينال، وليس في أنحاء المملكة جميعها من يجرؤ على التفكير في مشادته أو الخلاف عليه، ولقد أثرت هذه الحادثة في نفسي تأثيرا شديدا، وأشفقت على تلك الفتاة المسكينة أن يستبد بها وبمستقبلها رجل حائر متوحش كهذا الرجل، فنظمت قصيدة رنانة شرحت فيها قصته معها، وهجوته فيها هجاء مرا لا أحسب أنه يغتفره لي مدى الدهر، وإن شئت أن تسمع هذه القصيدة فهاكها.
وكان الشراب قد نال منه أقصى مناله، فنهض قائما على قدميه، وأخذ يصوب إلى الكونت نظرة هائلة مخيفة، ورفع الكأس بيده، وحاول أن يتغنى بقصيدته، فأسكته كرستيان وقال له: لا تفعل فإني ذاهب. قال: إلى أين؟ قال: أفتش عن فالفير. قال: ماذا تريد منه؟ قال: أقتله! قال: إني أخاف عليك منه؛ لأنه أقوى منك وربما قتلك. قال: لا أبالي بالموت في سبيلها. قال: انظر، ها هي ذي تنظر إليك، وتحدق فيك تحديقا شديدا، فلا يشغلك شاغل عنها، أما أنا فإني ذاهب لشأني، فإن أصدقائي ينتظرونني في الحان، ولا خير لي في الكأس من دونهم، فأذن لي بالذهاب، فأذن له فانصرف، وظل هو شاخصا إلى مقصورة روكسان، يبادلها نظرات الحب والشغف، ويفضي إليها من طريق الصمت والسكون بما عجز عن الإفضاء به من طريق الكلام.
وكان الكونت دي جيش قد نزل من مقصورتها، ومشى في القاعة يحف به جمع عظيم من حاشيته وأصدقائه، يتملقونه ويداهنونه، وحساده ومنافسوه من نبلاء القوم وأشرافهم يتغامزون فيما بينهم، ويرمونه بنظرات الحقد والحرد، ويسمونه القائد المغرور مرة، والجاسكوني الكذاب أخرى، حتى إذا مر بين أيديهم نهضوا له إعظاما وإجلالا، وانحنوا بين يديه وداروا به يصانعونه ويماسحونه، حتى بلغ مكان المسرح، فصعد إليه هو وأتباعه، وجلس على كرسيه المعد له، ثم التفت حوله وقال: أين الفيكونت فالفير؟ فأجابه: هأنذا يا سيدي. قال: تعال بجانبي لأحدثك قليلا.
وكان كرستيان واقفا مكانه ينظر إليه على البعد نظرات الحقد والموجدة، فما سمع اسم فالفير حتى ثار ثائره، وغلى دمه في رأسه، وعلم أنه قد وجد خصمه، فوثب من مكانه وثبة قوية، وصاح: ها قد عرفته، وسألطمه بقفازي على وجهه لطمة هائلة! ووضع يده في جيبه ليخرج قفازه منه، فدهش حين عثرت يده فيه بيد أخرى غريبة، فقبض عليها بشدة والتفت وراءه، فإذا لص قبيح المنظر، زري الهيئة، يحاول سرقته، فصاح فيه: من أنت؟ وماذا تريد؟ فتضعضع الرجل واستخزى، واستطير عقله خوفا ورعبا، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه واستجمع قواه، وقال له: عفوا يا سيدي، فإني ما أردت سرقتك، وإنما هو تمرين بسيط، فقد تلقيت الساعة أول درس من دروس اللصوصية على أستاذي «بوار»، وقد بعثني إليك كما بعث غيري إلى غيرك، لا لنسرقكم أو نحول بينكم وبين أموالكم، بل لنستوثق من أنفسنا أننا قد حذقنا دروسنا واستظهرناها، فاعف عني واغتفر لي هذه الزلة، واعلم أن في صدري سرا هائلا جدا ينفعك نفعا عظيما إن أفضي به إليك، وهو خير لك مني ألف مرة! فضحك كرستيان طويلا، وقال: أي سر تريد؟ قال: إن صديقك الذي كان جالسا معك منذ هنيهة - وقد نسيت اسمه الآن - هو في الساعة الأخيرة من ساعات حياته، وإن لم تسرع إلى نجدته! قال: أتريد لينيير؟ قال: نعم، فدهش كرستيان، وقال: لم أفهم ما تريد. قال: إنه كان قد هجا منذ أيام عظيما من عظماء هذا البلد بقصيدة مقذعة، فحقدها عليه حقدا شديدا، ورأى أن ينتقم لنفسه منه، فأعد له مائة رجل يكمنون له الليلة في جنح الظلام عند باب «نيل»، في طريقه إلى منزله ليقتلوه، وأنا أحد أولئك الرجال، فاخرج الآن واطلبه في الحانات التي يجلس فيها، وهي المضغط الذهبي، والتفاحة الخشبية، والحزام الممزق، والمشاعل، والأقماع الثلاثة، واترك له بطاقة في كل واحدة منها لتنذره بهذا الخطر الداهم. قال: ومن هو ذلك العظيم الذي دبر له هذه المكيدة؟ قال ذلك سر المهنة لا أستطيع أن أبوح به! فضحك كرستيان وقال: لا حاجة بي إليك فقد عرفته، ثم خلى سبيله فذهب لشأنه، والتفت هو إلى مقصورة روكسان، فرآها متلفتة إليه لا تكاد ترفع نظرها عنه، فألقى عليها نظرة حزينة، وقال في نفسه: وا أسفاه! لا بد لي أن أتركها الآن، ثم ألقى على الفيكونت نظرة ملتهبة، وقال: وأن أتركه أيضا؛ لأني أريد إنقاذ لينيير، ثم ترك الملعب وانصرف ليفتش عن صديقه في تلك الحانات الخمس.
البطل
Неизвестная страница