وكان الأمر كما يقول، فما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى أشرف جيش القائد العام، وهاجم الأعداء من خلفهم، فالتحم الجيشان، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى تم النصر للراية الفرنسية على الراية الإسبانية، ولكن بعد أن تلاشى الجنود الجاسكونيون في المعمعة جميعا!
الفصل الخامس
بعد خمسة عشر عاما
لدير الراهبات بباريس فناء واسع قد غرست في أنحائه بضع أشجار ضخمة باسقة، قد تناثرت من تحتها أوراقها الساقطة الصفراء، ووضع في وسطه مقعد حجري هلالي الشكل، فخرجت الراهبات بعد أداء صلواتهن في محاريبهن، يتمشين في ذلك الفناء، ويتحدثن بأحاديث مختلفة، لا يخلو بعضها من ذكر العالم الدنيوي وشئونه، والحياة ووقائعها، كأن ذلك الحجاب الحجري الذي أسدل دونهن من الأسوار والجدران لم يستطع أن يقطع الصلة بينهن وبين الحياة التي هجرنها واطرحنها، وأقسمن بين يدي الله أن ينسينها أبد الدهر.
فلم يزل بين جوانحهن بصيص ضعيف من تلك الذكرى يلمع من حين إلى حين؛ لأنهن لا يستطعن - مهما بلغن من قوة اليقين ورسوخ الإيمان وثبات العزيمة - أن ينتزعن الطبيعة من بين جنوبهن، كما يرفعن قبعاتهن عن رءوسهن وأرديتهن عن أكتافهن، ويرمين بها وراء تلك الأسوار والجدران، كما أرادت منهن ذلك الشرائع النظرية التي لا صلة بينها وبين حقائق الحياة وطبائعها. فقالت الأخت «مارت» للأخت «كلير»: لقد رأيتك اليوم واقفة أمام المرآة مرتين، ورأيت في يدك مشطا تحاولين أن تمشطي به شعرك، وسأرفع أمرك إلى الرئيسة! قالت: إنك لا تستطيعين أن تفعلي إلا إذا استطعت أن تحدثيني عن تلك الأغنية الغرامية، التي كنت تتغنين بها ليلة أمس في غرفتك بصوت خافت شجي، كأنك تتذكرين بها عهدا قديما! فابتسمت الأخت «مارت» وقالت: إنني إن أعفيتك من الشكوى إلى الرئيسة، فلن أعفيك من الشكوى إلى المسيو بيرجراك عند حضوره! قالت: كأنك تأبين إلا أن نصبح ضحكة الناس وسخريتهم؛ فسيرانو رجل شديد قاس، يكره الحركات النسائية المتطرفة، وينعى عليها نعيا شديدا. قالت: ولكنه يذهب في نقده مذهب التهكم البديع المستطرف، فهو إلى الفكاهة أقرب منه إلى الجد. فقالت الأخت «مارجريت»: الحق أقول يا أخواتي، إنني لم أر في حياتي أظرف من هذا الرجل، ولا أعذب منه لسانا، ولا أحلى مجونا، ولا أطيب قلبا، ولا أنقى سريرة. فقالت لها «كلير»: أصحيح يا أختاه أنه يختلف إلى هذا الدير منذ اثني عشر عاما قالت: بل أكثر من ذلك، مذ هجرت ابنة عمه الأخت روكسان العالم الدنيوي، ونزلت بنا كما ينزل الطير الحزين وسط الطيور البيضاء، ومزجت سواد رهبانيتها بسواد حدادها، وسيرانو هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يعزي نفسها، ويمسح دموعها، ويخفف أحزانها الكامنة في أعماق قلبها. فقالت «مارت»: ولكنه، ويا للأسف غير متمسك بواجباته الدينية، وهو إلى الإلحاد أقرب منه إلى الإيمان. فقالت «كلير»: أظن أننا نستطيع أن نهديه إذا نحن حاولنا منه ذلك.
وهنا أقبلت الرئيسة، وقد سمعت هذه الكلمة الأخيرة، فعلمت أنهن يتكلمن عن سيرانو. فقالت: إني أمنعكن جميعا عن مفاتحته في هذا الأمر، فدعنه وشأنه، والله يتولى أمره. فقالت: «مارت»: ولكنه مكابر عنيد، لا يزال يولع بمحادتي ومغايظتي كلما رآني؛ فقد قال لي يوم السبت الماضي عند حضوره: إنه أكل بالأمس لحما ودسما، فلم أطق استماع ذلك منه وكدت أختصمه، قالت: لا تصدقيه يا بنيتي، فإنه حينما جاءنا في المرة الماضية كان قد مر به يومان لم يذق فيهما طعم الخبز! فدهشت الراهبات جميعا، ونظرن إلى الرئيسة باهتات مذهولات. فقالت لهن: لا يدهشكن ذلك يا بنياتي، فسيرانو رجل فقير معدم، لا يملك من متاع الدنيا شيئا. فقالت لها «مرجريت»: عجيب جدا! من أخبرك بذلك؟ قالت: صديقه «لبريه». قالت: ألا يساعده أحد؟ قالت: لا؛ لأنه لا يريد ذلك.
وإنهن لكذلك إذ أقبلت روكسان من ناحية باب الدير في لباسها الأسود، وبجانبها الكونت دي جيش، وكان قد وصل في مجده الدنيوي إلى الغاية القصوى التي لا غاية وراءها، فأصبح القائد العام للجيش الفرنسي، وأصبح يدعى «الدوق ماريشال دي جرامونت»، وكان قد أشرف في ذلك الوقت على سن الشيخوخة، فهدأت في نفسه تلك العواطف القديمة الثائرة، عواطف الشرور والشهوات، فأخذ نفسه بزيارة روكسان في ديرها من حين إلى حين للتعزية والوفاء والتكفير عن سيئاته الماضية إليها، فلم يزل سائرا معها حتى بلغا ذلك المقعد فجلسا عليه، ثم نظر إليها نظرة حزينة مكتئبة، وقال لها: أهكذا تعيشين دائما يا روكسان في عزلتك هذه، لا تفكرين في شأن من شئون الحياة، ولا تأسفين على عهد من عهودك الماضية؟ قالت : نعم دائما، لا أذكر غيره، ولا يمر بخاطري شيء سواه! قال: وهل غفرت لي ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، أم لا تزال في قلبك بقية من العتب والموجدة علي؟ فاغرورقت عيناها بالدموع وصمتت هنيهة، ثم رفعت نظرها إلى صليب الدير العظيم الماثل أمامها وقالت: ما دمت في هذا المكان، وما دام هذا ماثلا أمام عيني، فأنا أغتفر جميع الذنوب، حاضرها وماضيها. قال: وا رحمتاه لذلك الفتى المسكين! ما كنت أظن أن نفس إنسان في العالم تشتمل على مثل الصفات التي كانت تشتمل عليها نفسه، لولا أنك أقسمت لي على ذلك! قالت: إنك لو عرفته معرفتي إياه لامتلأت نفسك إعجابا به، وإعظاما له، ولكان حزنك عليه عظيما كحزني! قال: وهل لا تزالين محتفظة بكتابه الأخير حتى اليوم؟ قالت: إنه لا يفارق صدري قط، كأنه الكتاب المقدس. قال: أتحبينه حتى بعد الموت؟ قالت: يخيل إلي أحيانا أنه لم يمت؛ لأن مكانه من قلبي لا يزال باقيا كما هو، وكأن روحه ترفرف علي وتتبعني حيثما سرت وأنى حللت، ولا تزال ترن في أذني حتى الساعة تلك النغمة الجميلة التي كان يحدثني بها ليلة الشرفة، كأن لم يمر بها إلا يوم واحد. قال: وهل يأتي سيرانو لزيارتك أحيانا؟ قالت: نعم، يفد إلي دائما يوم السبت من كل أسبوع، في ساعة معينة لا يتأخر عنها ولا يتقدم، فإذا حضر رآني جالسة أمام منسجي، فيجلس على مقربة مني فوق مقعد يعدونه له، ويبدأ حديثه معي بالهزل والمجون والسخرية بي وبمنسجي، ويسميه «الحركة الدائمة التي لا نهاية لها»، فإذا فرغ من ذلك أخذ يقص علي حوادث الأسبوع يوما فيوما كأنه جريدة أسبوعية، واعلم يا سيدي أن ذلك الصديق القديم والأخ الوفي هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يسري عني بعض همومي وآلامي، ويحمل عني الشيء الكثير من أثقال هذه الحياة وأعبائها، ولولاه لمت في عزلتي هذه هما وكمدا.
وهنا فتح باب الدير ودخل «لبريه» فتقدم نحو روكسان فحياها. فقالت له: كيف حال صديقك يا لبريه؟ قال: في أسوأ حال يا سيدتي، فإن غرابة أخلاقه، وشذوذ طباعه، وتهوره في ميوله وآرائه، وصلابة عوده في خصوماته ومناظراته قد بلغت به المبلغ الذي كنت أتوقعه له من عهد بعيد: الفقر والعدم، والشقاء والبؤس، والخصوم الألداء، والأعداء الثائرين المتنمرين الذين يكيدون له ليلهم ونهارهم لا يهدءون ولا يفترون، وهو في غفلة عن هذا كله، لا يعجبه ولا يطربه ولا يلذ له غير الانتقاد المر، والتهكم المؤلم بالأشراف والنبلاء ورجال الدين، والأدباء والصحفيين، والشعراء والممثلين، لا يهادنهم ولا يواتيهم، ولا يهدأ عنهم لحظة واحدة، فينعى على القسيس نظرة واحدة يلقيها عرضا على وجه جميل، وعلى الشاعر معنى بسيطا يسرقه من شاعر متقدم، وعلى النبيل مشية الخيلاء يمشيها في طريقه، وعلى الصحفي نشر إعلان خمر في جريدته أو خبر مكذوب، كأنه موكل بهداية البشر، وتقويم اعوجاجهم وتهذيب أخلاقهم، وكل ما يعتذر به عن نفسه إن لامه في ذلك لائم أنه يقول ما يعتقد، وينطق بما يعلم، كأنما لا يوجد في العالم كله من يعلم ما يعلمه سواه، وما أظن الهيئة الاجتماعية التي يشاكسها ويثاورها، ويزعم أنه قادر على تقويم معوجها وإصلاح فاسدها تستطيع الصبر عليه طويلا، ويخيل إلي أن انتقامها منه سيكون هائلا جدا، وأنه سيموت عما قليل شهيد ذلك الشيء الذي يسميه «الحرية الفكرية والنقد الصحيح».
فقالت روكسان: ولكن سيفه القاطع يحميه من هؤلاء جميعا. قال: ربما يحميه، ولكنني أخشى عليه عدوا واحدا هو أشد عليه من جميع أعدائه. قالت: ومن هو؟ قال: الجوع، فإنه يقاسي من آلامه ما لا يستطيع أن يحتمله بشر، وكثيرا ما قضى الليالي ذوات العدد شادا منطقته على بطنه من السغب، لا يشكو ولا يتبرم، ولا يسمح لنفسه أن يمد يده إلى أحد غير خالقه، إلى أن تتيسر له اللقمة التي يعتقد أنها معجونة بعرق جبينه، فلا يمتن بها عليه أحد، حتى ذبل جسمه، وشحب لونه، وعرقت عظامه، وأصبح أشبه بالهيكل منه بالإنسان!
أما اللباس فقد أصبح عاريا منه إلا قليلا، ولقد باع في الأسابيع الأخيرة جميع ثيابه، فلم يبق له منها إلا رداء واحد من الصوف الأسود يتعهده بالترقيع من حين إلى حين، ولا أدري ماذا يكون شأنه غدا إذا نزل به ضيف الشتاء القادم، فلا يجد في غرفته المظلمة الباردة بصيصا ولا قبسا!
Неизвестная страница