فاكتأب كرستيان وتقبض وجهه، وقال لها: أهذا كل ما جاء بك إلى هنا؟ قالت: نعم، جئت لأستغفرك من ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، فقد أحببتك لأول عهدي بك لجمالك ورونقك وقسامة وجهك، كأن الجمال هو كل فضائلك ومزاياك، فأهنتك بذلك إهانة عظمى، أما الآن فإني أجثو بين يديك، لا بجسمي - فإنك لا تلبث أن ترفعني بيدك - بل بروحي التي لا يمكنك أن تغير مكانها منك أبدا، طالبة صفحك وعفوك عن تلك الجريمة التي اقترفتها، وما أحسبك تضن علي بذلك في هذه الساعة التي نقف فيها جميعا على أبواب الأبدية، ونودع فيها الحياة الوداع الأخير.
فانتفض كرستيان وشخص في وجهها ساعة، ثم قال لها: هذا شأنك في الماضي، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ قالت: كنت بعد ذلك أكثر تعقلا وروية، وأبعد فكرا ونظرا، فامتزج في نظري جمال صورتك بجمال نفسك، فاستحالتا إلى صورة واحدة فأحببتها. قال: والآن؟ قالت: أما الآن فقد انتصرت نفسك عليك انتصارا عظيما، فأصبحت لا أحب منك سواها، ولا أشعر بسلطان لغيرها على قلبي.
فاصفر وجهه اصفرارا شديدا، وأطرق برأسه، وظل يقول بينه وبين نفسه: إنها ما أحبتني في حياتها لحظة واحدة!
واستمرت هي في حديثها تقول: فليهنك ذلك الحب الثمين يا زوجي العزيز، فإن أسعد الناس حالا في هذه الحياة، وأحظاهم بنعمة العيش فيها أولئك الذين منحهم الله نفسا جميلة شعرية تتعشقها القلوب، وتتشربها النفوس، وتهفو لها الأحلام، وتقوم لهم في كل موقف ومقام مقام الجمال الجثماني إن فاتهم، أو نزلت به كارثة من كوارث الدهر، وما الجمال الجثماني إلا سحابة رقيقة تطير بها برودة الهواء، أو هضبة ثلجية تذيبها حرارة الشمس، وما أحب المحبون قط في الصور الجميلة جمالها ورونقها، بل جمال النفوس الكامنة في طياتها؛ ولا أبغض المبغضون في الصور الدميمة قبحها ودمامتها، بل قبح النفوس المستكنة فيها، فإذا اختلف العنوان عن الكتاب في إحدى الحالتين كان الفوز العظيم للجمال النفسي على صاحبه، وإني أعترف لك يا كرستيان بأني ما أحببتك عند النظرة الأولى إلا لجمالك؛ لأني ما كنت أرى في سماء حياتك كوكبا مشرقا سواه، وما هي إلا أيام قلائل حتى أخذ ذلك الكوكب يتضاءل أمام عيني شيئا فشيئا بجانب تلك الأشعة الباهرة، التي كانت تتدفق من ينبوع نفسك الجياشة الفياضة، حتى أصبحت لا أراه ولا أشعر به.
فازداد اضطرابه واصفراره، وظل ينظر إليها نظرا غريبا حائرا. فقالت له: ما لي أراك حزينا مكتئبا، كأنك في شك من هذا الانتصار العظيم الذي تم لنفسك عليك؟ فنظر إليها نظرة ساكنة جامدة، ثم قال: اسمعى يا روكسان، إنني لا أحفل بهذا الحب ولا أغتبط به، ولا أريد إلا أن تنظري إلي دائما بتلك العين التي نظرت بها إلي لأول عهدك بي. قالت: إني أعجب لأمرك كثيرا يا كرستيان، فإن الحب الذي تؤثره وتغتبط به حب تافه لا قيمة له ولا ثبات لظله، أما الآن فإني أحبك لصفاتك الكريمة النادرة التي قلما اجتمعت لمخلوق سواك: أحبك لذكائك الخارق، وفطنتك النادرة، وشرف عواطفك، ورقة شعورك، ولطف حسك، وسعة خيالك، وذلك البيان الرائق الصافي الذي يشف عن جوهر نفسك شفوف الغدير الساكن عن لآلئه وجواهره، أحبك من أجل ذلك كله حبا ثابتا راسخا لا تعبث به صروف الدهر، ولا تنال منه عاديات الأيام، حتى لو استحالت صورتك إلى صورة أخرى غيرها لما نقص حبي إياك ذرة واحدة!
فارتعد كرستيان وشعر أن نفسه قد بدأت تتسرب من بين جنبيه، فمد يده إليها ضارعا وقال: الرحمة يا روكسان! قالت: بل لو ذهب جمالك بحادثة من حوادث القضاء، فأصبحت بشع الصورة دميم الخلقة ...
فقاطعها وصاح: دميم الخلقة؟ قالت: نعم، وأقسم لك على ذلك يا زوجي العزيز، ويا أحب الناس إلي.
فظل يرتعد ويضطرب اضطرابا خيل إليها أنه نشوة الحب وسكرة السرور. فقالت له: أسعيد أنت الآن يا كرستيان؟ فنظر إليها نظرة غريبة لا يعلم إلا الله ما يكمن وراءها، وقال: نعم سعيد جدا، ومن هو أولى بالسعادة مني؟ ونهض قائما يريد الانصراف. فقالت له: إلى أين؟ قال: لم يبق بيننا وبين المعركة إلا لحظات قليلة، ولا بد أن يكون هذا آخر اجتماع لنا، فالوداع يا روكسان وداعا لا لقاء بعده! فاضطربت وقالت: ولم يغلب يأسك على رجائك، ورحمة الله أوسع من أن تضيق بك؟ قال: إن السعادة أضن بنفسها من أن تثبت زمنا طويلا في مكان واحد! فالوداع يا روكسان!
وأخذ يبتعد عنها شيئا فشيئا دون أن يضع يده في يدها أو يقبلها قبلة الوداع، فمشت وراءه وهي تعجب لأمره وتقول: ما بالك يا كرستيان؟ قف قليلا لأقول لك كلمة واحدة ثم اصنع ما شئت، إنك لم تفهم غرضي! وأقسم لك أنك لو فهمته لعلمت أنني أحببتك حبا ما أحبه أحد من قبلي أحدا. قال: حسبك يا روكسان وعودي إلى هؤلاء الجنود المساكين البائسين، فإنهم يفكرون في مثل ما أفكر فيه، ويودعون الحياة كما أودعها، فاذهبي إليهم، واجلسي بينهم قليلا، وعزيهم بابتساماتك العذبة الجميلة عن همومهم وآلامهم، أما أنا فذاهب لقضاء بعض الشئون، وربما عدت إليك بعد قليل.
ثم اختفى عن نظرها.
Неизвестная страница