ففروا من وجهه جميعا يستبقون الباب ويتراكضون، ويهمس كل منهم في أذن صاحبه: إنها وثبة الأسد ما في ذلك ريب، وراجنو يقلب كفيه حزنا وأسفا، ويقول: وا أسفا عليك أيها الفتى المسكين! ما أحسبها إلا لمحة الطرف حتى أراك قطعا متناثرة على مائدتي.
فلما خلا المكان بسيرانو وصاحبه، ظلا يتناظران ساعة في صمت وسكون، لا يفوهان بحرف واحد، وكرستيان ينتظر وقوع الكارثة، ويتأهب لها تأهب الجريء المقدام، ثم ما لبث أن رأى سيرانو يتقدم نحوه رويدا رويدا حتى وقف أمامه، ووضع يده على عاتقه، فارتعد كرستيان ارتعادا خفيفا، وبينا هو ينتظر عاصفة من الشر تهب عليه، إذ سمعه يناديه بنغمة لطيفة هادئة، ويقول له: سيدي كرستيان؟ فرفع طرفه إليه، فرآه باسما متطلقا، فعجب لأمره وقال له: ماذا تريد يا سيدي؟ قال: أريد أن أعانقك وأقبلك أيها الصديق، فتعال إلي، فظل كرستيان ينظر إليه نظرا حائرا متضعضعا، لا يفهم من أمره شيئا. فقال له سيرانو: تعال إلي وقبلني فإني أخوها، وقد بعثتني برسالة إليك فاستمعها، فازدادت حيرة كرستيان، ولم يفهم ما يريد، وقال له: أخو من يا سيدي؟ قال: أخو الفتاة التي تحبها. قال: أي فتاة تريد؟ قال: روكسان! أأنت أخوها؟ وظل يقلب نظره في وجهه كأنه يفتش عن وجه الشبه بين الأخوين فلا يجده، ففطن سيرانو لغرضه وقال: أخوها تقريبا، أي ابن عمها، فتلألأ وجه كرستيان سرورا، وقال: وهل حدثتك عني؟ قال: نعم. قال: وهل أخبرتك أنها تحبني؟ قال: ربما، فازداد سروره واغتباطه وقال له: ما أجمل هذه البشرى التي جئتني بها يا سيدي! وما أعظم شكري لك! فابتسم سيرانو وقال: ما أغرب عواطف النفوس، وما أسرع تقلباتها! فقال: اعف عني يا سيدي فقد أسأت إليك. قال: وما رأيك في تلك الأنفيات التي رميتني بها منذ هنيهة؟ قال: إنني أستردها جميعها وأجثو تحت قدميك معتذرا عنها، معتمدا على كرمك وإحسانك !
قال: الآن أستطيع أن أقول لك: إنها اعترفت لي بأنها تحبك حبا شديدا وشريفا، وتضمر لك في قلبها من الوجد مثل ما تضمر لها، وقد كلفتني أن أقول لك: إنها تنتظر منك اليوم كتابا. قال: وا أسفاه يا سيدي، ذلك ما لا أستطيعه. قال: ولم؟ قال: لأنني رجل عاطل من جميع المواهب والمزايا، لا أملك حلية من حلي الدنيا غير حلية الصمت، فإن عطلت منها هلكت وافتضحت! قال: عجبا لك، ألا تستطيع أن تكتب كتابا؟ قال: لا؛ لأني عيي بليد! قال: إنك مغال جدا، وحسبك من الذكاء أنك تعرف مقدار نفسك، على أن أسلوبك في مقاطعتي ومغايظتي يدل على أنك لم تحرم فضيلة الشجاعة والذكاء!
قال: أستطيع أحيانا أن أكون شجاعا إذا كان الحديث بيني وبين رجل، أما المرأة فإني أضعف الناس منة بين يديها. قال: ولكنك جميل، والجمال قوة يستمد منها اللسان فصاحته وبيانه. قال: لا أنكر أن لنظراتي تأثيرا خاصا على النساء، وأنني ما مررت بهن إلا استثرت بجمالي إعجابهن ودهشتهن، ولكنني أذوب حياء وخجلا إذا جلست إليهن أو جمع الحديث بيني وبينهن، وربما استطعت في بعض الأحيان أن أتحدث إليهن في بعض الشئون العامة التي لا يتحامى فيها أحد أحدا، حتى إذا وصلنا إلى حديث الحب كان الموت الأحمر أهون علي من أن أنطق بحرف واحد فيه! قال: إني لأعجب لأمرك جدا يا كرستيان، ويخيل إلي أنني لو كان لي مثل حظك في الجمال لأحسنت الكلام في الحب. قال: ويخيل لي أنا أيضا أنني لو كان لي مثل حظك في الفصاحة لاستطعت الكلام فيه. قال: ليتني أستطيع إذا جلست إلى النساء أن أستثير بجمالي إعجابهن ودهشتهن. قال: وليتني أستطيع إذا جلست إليهن أن أسترعي ببياني أسماعهن.
وصمت كرستيان لحظة، ثم قال: ولقد حدثوني عنها أنها فتاة ذكية متفوقة، تتعشق في الرجال الذكاء والفطنة قبل أن تتعشق فيهم الحسن والجمال، فماذا يكون شأني معها إذا كتبت إليها كتابا، فقرأته فلم تر بين سطوره إلا عيا وركاكة وضعفا واضطرابا ؟ فقال وهو يصعد نظره في وجهه ويصوبه، ويعجب بجماله ووضاءته: يخيل إلي يا كرستيان أنك لو أعرتني جمالك، أو لو أني أعرتك لساني، لتألف منا إنسان تام المواهب والمزايا! قال: نعم، ما في ذلك ريب. قال: ألا تتمنى أن تكون ذلك الإنسان؟ قال: نعم، أتمنى أن أكونه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن في استطاعتي أن أنفخ فيك روح الفصاحة وأنفث في صدرك سحرها، فإذا أنت أجمل الناس وأذكاهم معا! قال: لا أستطيع أن أتصور ذلك إلا إذا زعمت أنك من الساحرين. قال: ما في الأمر سحر ولا مخرقة، حدثني عن نفسك أولا، هل تعجز عن حفظ ما يلقى إليك من الجمل والكلمات، وإن لم تفهم معناه؟ قال: لا، فإن ذاكرتي قوية جدا، ولكنها كذاكرة الببغاء: تنقل ولا تعقل مما تنقل شيئا، وأظن أني قد فهمت غرضك الآن، وإني لأعجب أشد العجب من اهتمامك بهذا الأمر الاهتمام الشديد، ومن إلحاحك في تلمس الوسائل للوصول إليه هذا الإلحاح كله، كأنه شأن من شئونك الخاصة التي تعنيك.
قال: سأفضي إليك بسر المسألة، فاستمع لما أقول: إن روكسان ابنة عمي وصديقتي، ورفيقة صباي وطفولتي، ليس لها في العالم من صديق ولا معين سواي، ويهمني جدا أن أراها سعيدة في حياتها، هانئة في عيشها، لا يكدر عليها مكدر من عوادي ونكبات الأيام، ولا أكتمك أني أخاف عليها الخوف كله أن تحل بها في هذا الحب الذي اختارته لنفسها نكبة من النكبات العظام، أو فاجعة من الفواجع الجسام تقضي عليها وعلى آمالها، وما أحسبك تتمنى لها إلا ما أتمناه، أو تضمر لها في نفسك إلا العطف الذي أضمره لها، خصوصا أن الصلة التي بينكما ستتحول طبعا إلى عشرة زوجية طويلة، لا يقطع حبلها إلا الموت؛ لذلك أردت أن نتعاقد يدا واحدة على إسعادها وترفيه عيشها، وحماية ذلك الحب في قلبها، وحراسته من أن تغشاه غاشية من وساوس اليأس أو خيبة الأمل، أنت بحسنك وجمالك، وأنا بفصاحتي وبياني، تسمع صوتي ولكن من فمك، وتحس بروحي ، ولكن في جسمك، وتشرب عواطفي ولكن من كأسك، وتطرب لنغماتي ولكن من قيثارتك، أي إنني أتقمص في جسمك، وأتسرب بين حنايا ضلوعك، وأكمن في قرارة نفسك، فنستحيل - نحن الاثنين - إلى شخص واحد، أو تصبح أنت كل شيء، وأصبح أنا لا شيء، وما دامت سعادتها في الحياة تتوقف على أن ترى بجانبها إنسانا يجمع في نفسه بين موهبتي الفصاحة والجمال، فليتألف مني ومنك ذلك الإنسان الذي تريده وتتمناه، ولا تقل: إننا نخدعها بذلك أو نغترها، فإنا لا نريد بما نفعل إلا سعادتها وهناءها، هذا هو الغرض الذي أرمي إليه، ولا أرمي لغرض سواه.
فارتجف كرستيان وقال: إنك تخيفني جدا يا سيرانو، ويخيل إلي أن عقلي يحاول الفرار مني دهشة وعجبا، فإنك تقترح علي أمرا ما سمعت بمثله في حياتي! قال: إنك مغال يا كرستيان، والمسألة بسيطة جدا، ألم تقل لي منذ هنيهة إنك تخاف إن جالستها أو تحدثت إليها أن تملك وتجتويك فتموت عواطف الحب في قلبها، فما الذي يريبك مني وأنا لا أريد إلا ما تريد؟ ولا أرمي إلا إلى بقاء عاطفة الحب حية في قلبها نامية، فتتمتع أنت بعطف الفتاة التي تحبها، وأتمتع أنا بسعادة الصديقة التي أجلها وأحترمها وأحرص على راحتها وهدوئها. قال: وهل تشعر في نفسك أنك سعيد بذلك؟ فانتفض سيرانو انتفاضة خفيفة لم يشعر بها كرستيان، وقال بصوت خافت: سعيد! وصمت لحظة، ثم قال بصوت متهدج مرتعش: نعم سأكون سعيدا يا كرستيان؛ لأنني شاعر، والشاعر ممثل بفطرته؛ يلذ له دائما أن يلبس ثوبا غير ثوبه، ويتراءى في صورة غير صورته، فيمثل دور المجنون وهو عاقل، ودور الشجاع وهو جبان، ودور السعيد وهو شقي، ودور العاشق الولهان، وما في قلبه ذرة واحدة من الحب والغرام، فاسمح لي أن أمثل دور العاشق الولهان، فهو الدور الذي يلذ لي تمثيله أكثر من غيره، وكن أنت المسرح الذي أمثله عليه، وأخطر في أرجائه جيئة وذهوبا، كن اللسان وأنا الفكر، كن الجسم وأنا الروح، كن الجمال وأنا العقل، كن الزهرة وأنا العطر، كن العين وأنا النور المنبعث منها، كن القلب وأنا حبته الكامنة فيه، فلا تكتب إليها إلا ما أمليه عليك، ولا تحدثها إلا بما ألقنك إياه، وليكن ذلك سرا بيني وبينك لا تعرفه روكسان ولا يعرفه أحد من الناس.
فهدأ كرستيان وسري عنه، واستقر في نفسه أن الرجل صادق فيما يقول، ولكنه لو استطاع أن يفهم الحقيقة كما يفهمها بقية الناس لأدرك أن سيرانو عاشق مثله لتلك الفتاة التي يحبها، وأنه لما أخفق في حبه وساء حظه فيه، وعجز عن أن يفضي إلى حبيبته بذات نفسه وسريرة قلبه وجها لوجه، أراد أن يتخذ منه بوقا يهتف في جوفه بأناته وزفراته؛ لتصل إلى آذانها فتسمعها من حيث لا تراه ولا تشعر بمكانه، لا يرجو من وراء ذلك غرضا ولا غاية سوى أن يرفه عن نفسه بعض همومها وآلامها بالمناجاة والشكوى، كما يرفه المريض عن نفسه آلامه وأوجاعه بترديد الأنات وتصعيد الزفرات!
فقال له كرستيان: ولكن ما العمل في الكتاب الذي قلت لي إنها تريد أن أرسله إليها اليوم؟ فمد سيرانو يده إلى صدره، وأخرج تلك الرسالة التي كان يريد أن يقدمها إليها في الصباح فلم يفعل، وأعطاه إياها وقال له: ابعث إليها بهذه الرسالة، فهي تامة لا ينقصها غير التوقيع، فدهش كرستيان وعاودته وساوسه وهواجسه، وقال له: وهل كتبتها من أجلي؟ وما الذي دعاك إلى ذلك؟ قال: لم أكتبها من أجلك، ولا من أجل أحد من الناس، ولكننا معشر الشعراء لا تخلو جيوبنا غالبا من أمثال هذه الرسائل الغرامية الخيالية، فإننا - وإن كنا محرومين سعادة الحب وهناءه - نتخيل أحيانا صورا وهمية لا وجود لها في الخارج، نخاطبها ونناجيها كما يناجي المحب محبوبه؛ لنستطيع إمداد الفن الذي نشتغل به بحقائق الحياة وصورها، ولقد أودعت هذه الرسالة جميع ما يمكن المحب المفتتن أن يضمره في نفسه من لواعج الحب وخوالج الغرام، ولقد كانت أناتي وزفراتي قبل اليوم طائرة هائمة في أجواز الفضاء، لا تجد لها مستقرا ولا مهبطا، أما الآن فقد وجدت على يدك المستقر الذي تتطلبه وتسعى إليه، وستقرأ روكسان هذه الرسالة بعد ساعة، وسترى أنها الصورة الحقيقية لعواطفك وشعورك لا ينقصها شيء، حتى روح الإخلاص وجوهره. قال: ألا نحتاج لتغيير شيء فيها؟ قال: لا. قال: أخاف أن ترتاب بها. قال: كن على ثقة من أنها ستعتقد حين تقرؤها أنها ما كتبت إلا لها، وأنها هي التي أوحت بها إلى نفس كاتبها!
فتناول كرستيان الرسالة طائرا بها فرحا، وترامى على عنق سيرانو يقبله ويلثمه ويضمه إلى صدره ويقول: آه يا صديقي الكريم! ما أعظم شكري لك واغتباطي بصحبتك! وظل على ذلك هنيهة، وكان القوم وقوفا أمام باب المطعم، ينتظرون إذن سيرانو لهم بالرجوع، وهم يسمعون ضوضاء الحديث بينه وبين صاحبه، فيتوهمون أنه الجدال العنيف والخصام الشديد، حتى شعروا بذلك السكون الذي ساد بينهما، فريعوا وخيل إليهم أنه سكون الموت، فدفع راجنو الباب قليلا وأطل من فجوته فرأى هذا المنظر، فذعر وخيل إليه الرعب الذي لحقه أنه يرى منظر الموت، وأن كرستيان صريع بين يدي سيرانو، فظل يرتجف ارتجافا شديدا، فهمس القوم في أذنه: ماذا ترى؟ قال: دعوني، فإني لا أجرؤ على النظر وأكاد أموت خوفا ورعبا! فدفعوا الباب جميعا ودخلوا، ففهموا الحقيقة التي ما كانوا يتصورونها ولا يقدرونها في أنفسهم، ورأوا أن ذلك الصراع الذي كانوا يتوهمونه بين خصمين متباغضين، إنما هو عناق طويل بين صديقين مخلصين، فدهشوا دهشة كبيرة، وظل بعضهم يهمس في أذن بعض: إنه يعانقه ويلتزمه كأنه أصدق أصدقائه، وقال «كاربون دي كاستل»: أحمد الله تعالى فإن شيطاننا قد اهتدى، وصاح آخر: عجبا لك يا سيرانو! لقد أصبحت مسيحيا تقيا: إذا ضربك أحد على أحد منخريك أدرت له الآخر، فلم يغضب سيرانو هذه المرة، ولم يكترث، بل ابتسم له وتطلق.
Неизвестная страница