هزيمة
مرت سنوات قليلة، والمعتمد هانئ البال مستقيم الأمر، يصرف شئون الدولة، ويقيم مراسيم الملك في عظمة وجلال، حتى هابته الملوك وأحبته الرعية، وأصبح اسمه يدوي في الأندلس مقرونا بالثناء محفوفا بالإكبار.
أجزل إلى الشعراء العطاء فانتجعوا ساحته من أقاصي الأندلس يتسابقون إلى مديحه وجوائزه، ويذيعون أينما ساروا فضله ومكارمه، وحاط الرعية بعطف اجتذب إليه النفوس، وجمع على حبة القلوب، وعظم العلماء والفقهاء وأعلى مجالسهم، والعلماء في الأندلس - وربما كانوا في غيرها - عقدة الصلة بين الملك وشعبه، غير أنه مع كل هذه الخلال التي أنست الرعية ويلات أبيه، كان مولعا بمجالس الشراب، مفتونا بالحسان، كأن شيئا من ذلك جزء من مقومات حياته لا يكاد يعيش بدونه، وكان من عيوبه مع هذه الخلال، انقياده لآراء بعض الموالسين المخادعين من بطانته.
قابل الهوزني يوما ابن عمار بعد أن أصبحا صديقين، وقال: لم لا تطلب أبا بكر من الملك أن تذهب بجيش لأخذ مرسية، فقد طابت الثمرة وحان قطافها، فإذا أخذتها أصبحت ملكا عليها. فقال ابن عمار: سأخاطبه الليلة في مجلس أنسه وأنا واثق من أنه سيجيب طلبي؛ لأنه يتحرق شوقا إلى الغزو، فقال الهوزني: هذا حسن، وسأكون عضدك في الوصول إلى أمنيتك.
ثم ذهب إلى داره ودعا عبده سهما وقال: أتعرف الطريق إلى طليطية؟ فقال: نعم يا مولاي، إنها على مسيرة ثلاثة أيام للمجد. فقال: خذ خير أفراسي، واذهب مستخفيا إلى قصر المأمون بن ذي النون حاكمها، وقل له: إن الريح تهب على مرسية ... لا تقل له غير هذا ... اركب الآن.
كان المعتمد بعد أيام من هذه الحادثة، يطل من إحدى شرفات قصره، واعتماد إلى يمينه، وأرماندا إلى يساره، فنظرت الرميكية إلى النساء وهن يملأن جرارهن من النهر، ويمشين حافيات في الطين، وقد بدت سوقهن إلى ما فوق الركب بيضا نواصع، فقالت: وددت يا حبيبي لو مشيت في الطين حافية كهؤلاء.
فقالت أرماندا: ما أجمل وما أبهى!! إنما الجمال الحق في الرجوع إلى الطبع، فقال المعتمد: إن هذا أهون ما يكون، فقالت أرماندا: ولكن الأميرة لا تمشي في الطين، إنما تمشي في خليط من المسك والكافور، فقالت اعتماد: نعم ما رأيت يا فتاة ... أسمعت يا مولاي؟ فقال المعتمد: وأطعت ...
ودعا بأحمد العامري، وأمره ألا يترك بإشبيلية مسكا أو كافورا أو أي نوع من الطيب عند عطار، وأن تجمع ورود إشبيلية، ويستخرج ماؤها، وأن تعمل في الحديقة بركة واسعة، طينها الطيب، وماؤها ماء الورد؛ لتمشي بها الأميرة حافية بين جواريها، فأطاع أحمد العامري مطرقا، وكانت أرماندا تنظر إلى اعتماد مبتسمة، وتقول: آه ما أسعدك؟؟ ... إنه الحب ... إنه الحب.
وبعد أيام عملت البركة.
وكان المعتمد جالسا في قصره، متكئا على وسادته، وجاريته جوهرة تهز المروحة فوق رأسه، في يوم اشتد حره، وأرماندا تغمزه في يده غمزة خفيفة، وهي تناوله الكأس، وحبيبته وزوجه اعتماد، تسلط عليه سحر عينيها الناعستين فتسقيه خمرا من صنف جديد ربما كان أحلى وألذ نشوة من الخمر، والجواري جائيات ذاهبات في خدمته، كأنهن اللؤلؤ المكنون، والمغنية تطلق صوتها في أرجاء الحديقة فضيا لؤلؤيا فتكاد تردد صداه الأطيار، وكانت تغني قول المعتمد:
Неизвестная страница