فر وهو يعتقد أنه مائت لا محالة لو بقي في عرين هذا الأسد، فاختفى بعيدا عن إشبيلية أياما، ثم علم أن أباه قد غاب عن القصر، وذهب إلى حصن الزاهر. فعاد إسماعيل إلى إشبيلية، واقتحم القصر وأخذ كثيرا من ذخائره، واستكثر من المال والمتاع ومضى مع بعض الجند الموالين له إلى الجزيرة الخضراء، ومر في طريقه بقلعة ابن أبي حصاد فاستجار به فأجاره، ولكنه بادر بالكتابة إلى المعتضد سرا يخبره بنزول ابنه عنده، فأرسل إليه المعتضد من أعاده إلى إشبيلية، فاعتقله المعتضد، وبقي أياما يقلب الرأي في أمره.
حتى إذا كانت ليلة - والمعتضد أرق يتقلب على سريره لما دهمه من الهم والنكد - لمح رجلا يتسور عليه القصر، فنظر، فإذا هو ابنه مع طائفة من الجند كانوا يمالئونه، فهم المعتضد وهم معه حراسه، وقبض على إسماعيل ابنه، وحدثت ضجة في القصر استيقظ لها النوام، وجاءت أم إسماعيل حاسرة عن رأسها باكية مولولة، فسقطت على قدمي المعتضد صائحة: بحقك يا مولاي إلا ما وهبته لي ... فزمجر المعتضد وقال، وقد نحاها عنه: يكفي أن أهب لك نفسك، فقد سئمت الموالسة والمخالسة، ولن أكون كالمتوكل العباسي الغر، الذي ما زال يغمض عينيه عن الخطر، ويستجيب للحنان الكاذب - حتى صرعه ابنه، والآن فليهنأ برثاء البحتري! لا. لا ...
ثم قام إلى إسماعيل فحز رأسه بسيفه وهو يقول:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .
ولو أن كفي لم تطعني قطعتها
وألقيتها للكلب يقضمها حولي
عبث
وكرت الأيام وتوالت الشهور، والقصر في صمت القبور، والوزراء والأمراء والخدم يمشون فيه واجفين مطرقين، ومحمد بن عباد - بعد أن جعله أبوه ولي عهده ولقبه بالمعتمد - أصبح لا يكاد يؤدي واجب تقبيل يد والده كل صباح، حتى يفر إلى أخدانه من أبناء كبار الساسة والأدباء والشعراء، وكان يطيب له اللهو بالزاهي، وهو قصر عند باب العطارين بإشبيلية، فيه كان يخلع عذراه، ويرسل لطبعه الشعري عنانه؛ ففي يوم دعا جماعته إليه، وطاب المجلس، وغنت القيان، ودارت الراح ... وكان بينهم الداني الشاعر، وأبو بكر بن زيدون، وأبو القاسم الهوزني، ثم شرعت «نشوة» المغنية تغني بشعر المعتمد:
ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مد الظلام رداء
Неизвестная страница