Андалузский поэт и мировая премия
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
Жанры
والشعر الصادق إنما يعرف بعطفه العميق وتياره الزاخر وسبحاته الفطرية إلى ما وراء الطبيعة، وإذا قيل إن الناقد العليم أعمق من الشاعر المبدع، فالقائلون لذلك ينسون أن العمق أنواع وضروب؛ فهناك عمق الإدراك، وعمق الفكر، وعمق التخيل، وعمق الشعور، إلى غير ذلك من ضروب الأعماق. ومن قال ذلك فمثله كمثل من يقول إن البطيخة أعمق من الوردة، ولا وجه للمقارنة بين غير الأشباه التي تقبل المقارنة، فقد يكون الأدب غنيا بالعمق في الأسلوب وفي الصور والتشبيهات والأشباح والمجسمات، إلا أن هناك أعماقا أعمق وأبعد غورا من ذاك، هناك أعماق لا يسبر لها غور، ولا يدرك لها قرار؛ لأنها بغير قرار.
ولما كان الأدب يستمتع بالطنين الفخم ويشبه الأرستقراطية من هذه الوجهة؛ فلا عجب يتراءى بريش الطاووس وريش الببغاء، ويترك الشاعر البسيط يقنع بريش البلبل الذي أفلت من القفص، وهو البلبل الذي قال بعض الشعراء إنه ولد قبل مولد الأفعال والأسماء والحروف.
وليس في الوسع أن نستطرد في هذا الموضوع لأنه موضوع لا يؤدي الاستطراد فيه إلى نهاية، فليكن ختام الحديث تلخيصا لما قلت في كلمات معدودات، فأقول إن الأدب حالة من حالات الثقافة المصنوعة، وإن الشعر سمت لا كلفة فيه، يسبق التثقيف المصنوع ويتلوه.
التجديد في الأدب
كل من تقدم في مطلب من مطالب التهذيب، كالشعر - مثلا - أو الفقه، أو الفن، أو العلم، وغيرها وغيرها؛ فإنه متقدم لا محالة في سائر المطالب، وإن لم يعتبرها من مطالبه التي يعنى بها ويتفرغ لها. فإذا أراد أن يضيف مطلبا منها إلى مطالبه المحصلة فإنه سيبلغ فيه الطبقة التي ارتفع إليها في سائر المطالب، ولعله لا يحيط بالمطلب الجديد إحاطته بما عنده من قبل، ولكنه ولا شك يعامله ويخوله من الحق مثل ما تعوده مع فنه الذي توفر عليه؛ فإن الرجل المتقدم ينظر إلى العالم كله نظرته إلى مرتقى واحد، يستريح إلى صعوده، ويفرح برياضة نفسه عليه لإحساسه بقدرته على ارتقائه وإحساسه - مع هذه القدرة - بأن ارتقاءه هو الارتقاء العالمي في جملة نواحيه، ومن دأب الإنسان المطبوع على التقدم أن يدفع العالم إلى الأمام، وإن لم يخطر له أن يفعل ذلك، وهذه هي عقيدتي منذ صباي، ومنذ صباي عملت على تحقيق ما اعتقدت.
إن الشاعر المتقدم - أي الشاعر المتجدد - ابن عصره وأوانه إنما يصلح كذلك - أولا - بفضل روحه، لا بفضل بيئته العلمية أو الفنية على الإطلاق، ولا بفضل الموضوع الذي يشتغل به في عمله، وإنما يحدث التغيير في البيئة، أو في موضوع العمل أفقيا، ولا يحصل صعودا وارتقاء، ولا تزال الصنعة كفيلة بارتقاء التكوين المادي، دون أن تجاوز ذلك إلى ما بعده، وأن الشاعر ليستطيع أن يترنم كل يوم بلذة من لذات الحب المادية، كما يستطيع أن يترنم بلذة من لذات الطعام والمعدة، دون أن يرتبط ذلك بوشيجة من الوشائج الروحية أو الذهنية، أو الظواهر المثالية، أو يكسبه نصيبا من الثقة والكرامة، وإذا أخفق إنسان في إثبات نفسه بوسيلته الذاتية، فليس في الوسائل العالمية ما يعينه على إنتاجه وخلقه. والشاعر الذي لا عمل له إلا أن يحقق الواقع اليومي من شئون معيشتنا بغير تطلع إلى الأمور الموجودة أو المفقودة التي تخلقها بصيرته الأخلاقية بكهربائها النافذة، أو بغير الواقع الذي لا يكون على الأقل إلا من قبيل الواقع السحري؛ فليس في وسعه أبدا أن يصبح شاعرا جديدا.
وتقول حكمة إسبانية إن الواقعي يعني السلفي - الكلاسيك - يعني «الأبدي الخالد». فعلى الشاعر أن يكون أبدا جديدا؛ لأن الجدة هي الاستمرار بلا انقطاع، ومن العسير أن تتصور البقاء والدوام بغير تصور الحاضر الراهن، وأن الدوام - وإن تفرق في كل وجهة - لن يهرم ولن يرى نفسه هرما؛ ومن ثم يقال عن الأبدية مجازا إنها الوجود الذي لا يشيخ ولا يفنى، وإنما الشاعر تقدم باطني وخارجي في مجرى فترة من الزمان والمكان، ومن أحس أن الزمن أو الأبد قديم، فهو ذلك الذي لا يحس بزمنه،ولا يحس بما في استطاعته أن يدركه من دوام الخلود، أو هو ذلك الذي لا يحس برسالته في الحياة، وربما كان الشاعر التقليدي شاعرا حسنا يحسن المتاع بشعره، ولكنه لن يؤدي رسالته التي تعطي النور، وتنقل المشعل في يده من أمسه إلى يومه إلى غده، أو تنقل المشعل منه إلى غيره، وما كانت أسطورة الرجعة الأبدية، أو أسطورة الربيع الأبدي، إلا الشعر نفسه في الصميم.
والحياة إن لم تكن طموحا إلى الخلود ماتت، وهي تحيا وقتلتها الواقعية الراهنة في إبانها؛ ولهذا ترى كثيرا من الموتى راضين بأنهم موتى، راضين بموتهم لرضاهم بالحصر بين جدران أنفسهم، لا يتوقون إلى الخروج منها، ولا يتطلعون إلى التقدم في بواطنهم، ولا إلى التقدم في غيرهم، ولا بد لمن يريد أن يكون حيا وأن يستحيي نفسه أبدا وأن لا يزال جديد أبدا؛ أن يدرك ذلك بغريزة تسمو إلى المثالية الروحية وإن كانت لا تغفل عن تهذيب يوم بعد يوم وساعة بعد ساعة، وإلا فهو ناكص عن الصف الأول إلى الصفوف التي تليه.
وإنما الروح دوام في حركة لا تنقطع، ولن تفهم الحياة إلا أن تكون حركة تنتقل من الكينونة إلى الصيرورة، كأنها أمواج البحر التي لا تهدأ دون أن تفارق ماءها ودون أن تفارق سواحلها، وإنما هي جديدة لأنها لا تكف عن الحركة ولا تنثني عن التقدم، والشاعر الروحاني الذي يفهم الناس ويفهم نفسه بما في طويته من إشراق يسمو بذاته، ويسمو بموضوعه هو وحده الذي ينفذ ببصره إلى دخائل الحياة، ويوفق بين جوانبها ويسيطر عليها.
وقد بالغت الإنسانية خلال هذه الأعصر الأخيرة في «الواقعية» مما يرادف قولنا إنها شاخت وفقدت سجية الدوام وانحصرت في الزمن الذي هي فيه.
Неизвестная страница