إسلام معاذ بن جبل
إنه شاب صغير من شباب الصحابة ﵃، شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، يا سبحان الله! فمتى استطاع أن يخط على جبين الزمن هذا المجد، ومتى استطاع أن يسطر على صفحات التاريخ هذا الخلود، وهذه السيرة العطرة العبقة.
أقول: شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، أعيروني القلوب والأسماع لنعيش مع هذا البطل، لنعيش مع هذا الشاب التقي النقي الحيي الكريم.
ففي ليلة من ليالي مكة، الليل دامس، والصمت مخيم، والظلام شامل، والسكون يضفي على الخيام في منى هيبة وإجلالًا ووقارًا، وإذ بكوكبة مضيئة من الأنصار ﵃، يتسللون بين خيام منى تسلل القطا، يتلفتون وكأنهم قد سرقوا الإيمان سرقة، إلى أين أيها الأخيار الأطهار؟ إلى العقبة.
لماذا؟ لمقابلة النبي ﷺ.
من أجل ماذا؟ من أجل البيعة.
ويلتقي هذا الصحب الكريم بالنبي ﷺ، ويقولون له: على ما نبايعك يا رسول الله؟ فيقول الحبيب ﷺ كما ورد في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي رواه البيهقي وابن إسحاق بسند صحيح، فيقول ﵊: (تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم وأزواجكم ولكم الجنة) فيقول البراء بن معرور ﵁ كما في حديث كعب بن مالك وهو حديث صحيح، يقول البراء ﵁: [والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أسرنا، فبايعنا يا رسول الله فإنا والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر] ويقطع القول أبو الهيثم بن التيهان ﵁ وأرضاه، فيقول للحبيب ﷺ: [يا رسول الله! إن بيننا وبين القوم -أي: اليهود حبالًا- وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله جل وعلا أن ترجع إلى قومك وتدعنا] .
فقال النبي ﷺ: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم) فقال البراء بن معرور: [ابسط يدك يا رسول الله نبايعك] وبسط الحبيب يده الكريمة، يمينه المباركة، وامتزجت القلوب والأيدي في مهرجان حب وولاء لم ولن تعرف البشرية له مثيلًا، ومن بين هذه الأيدي الكريمة تمتد يد صغيرة وضيئة لشاب كريم المحيا، براق الثنايا، يبهر الأبصار بهدوئه وسمته، فإذا ما تكلم ازدادت الأبصار انبهارًا وتقديرًا وإجلالًا واحترامًا.
هذه اليد الكريمة المباركة تمتد من وسط هذه الأيدي الكريمة لتبايع النبي ﷺ بيعة العقبة الثانية، أتدرون يد من هذه؟ إنها يد مقدام العلماء، إنها يد إمام الحكماء، إنها يد سيد الدعاة الأتقياء، إنها يد القارئ القانت، إنها يد المحب الثابت، إنها يد السهل السري، إنها يد السمح السخي، إنها يد معاذ بن جبل، وما أدراك ما معاذ؟! إنه الشاب الذي نقدمه اليوم لشباب الصحوة قدوة، إنه الكوكب الذي نقدمه اليوم للبشرية مثلًا أعلى، الذي أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، وبالرغم من ذلك أقول: إنه خط هذا المجد على جبين الزمان، كان غرة في جبين الإسلام، وكان تاجًا بين الصحب الكرام، وكان شامة وعلامة، وكان شعلة من شعل الهداية، وكان داعية من دعاة الحق، إذا تكلم كأنما يخرج من فيه لؤلؤًا ونورًا.
3 / 3