المصدر الأول: القرآن الكريم
القرآن الكريم فهو النبع الأول، والمعين الصافي الذي ينبغي أن يكون مصدرًا أولًا للمناهج التربوية الإسلامية الحديثة الصحيحة، لماذا؟ لأنه كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، الذي يعلم ما يصلح خلقه وما يفسدهم، فلا بد من العودة إلى هذا النبع الكريم الصافي المبارك، القرآن بين أيدينا هو مصدر التربية الأول لجيل الصحابة وللرعيل الأول، وما زال القرآن بحروفه وألفاظه ورسمه لم يتغير منه حرف، ولم تتبدل منه كلمة، ولم تحذف منه آية، هو القرآن الذي ربى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لا زال نوره وحرفه بين أيدينا.
وإن للقرآن منهجه التربوي الفريد في لمس القلوب، وتحريك العواطف، واستجاشة الوجدان، ولقد بدأ هذا القرآن -لحكمة من الله جل وعلا- يتنزل ليربي على فترات: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) [الإسراء:١٠٦] يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: فالفرق مقصود، والمكث مقصود لحكمة من الله جل وعلا: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء:١٠٦] كان القرآن يتنزل بحسب المشاكل والحاجات ليربي الصحابة تربية عملية واقعية سلوكية، وهم بدورهم حولوا القرآن إلى منهج عملي، وإلى مجتمع متحرك مرئي، ومنظور ومسموع.
القرآن الكريم الذي بدأ يربي الصحابة وكانت أولى خطواته في التربية: ترسيخ العقيدة، ومن ثم -أيها الدعاة، والشباب، والمدرسون، والآباء- إنني اليوم لا أخاطب فئة واحدة، ولكني أخاطب كل من نصبه الله لمهمة التربية، أخاطب الدعاة والعلماء، وأخاطب الشباب والآباء، وأخاطب المدرسين والمدرسات، أخاطب الأمهات، أخاطب كل من أمنه الله هذه الأمانة العظيمة، أمانة التربية.
لقد بدأ القرآن أول ما بدأ -ليربي الصحابة- بترسيخ العقيدة في القلوب؛ لأنه والله لا تصح تربية على الإطلاق إلا إذا تربى الناس على العقيدة الصحيحة، وعرفوا ابتداءً من خالقهم، ومن رازقهم، ومن إلههم، ومن الذي ينبغي أن تصرف العبادة له؟ من الذي يستحق أن يسأل؟ ومن الذي يستحق أن يذكر؟ هذه أول لبنة من لبنات التربية التي لا بد أن تؤسس على بينة ووضوح وجلاء.
بدأ القرآن بترسيخ العقيدة في القلوب، فعرفهم خالقهم، وللقرآن -كما ذكرت- أسلوبه بدون تعقيد، بمنتهى البساطة والوضوح، وانظر معي هذه الآيات من سورة النمل كيف حركت قلوب هؤلاء، واستجاشت عواطفهم، ولامست وجدانهم، وعرفتهم -في النهاية- بخالقهم ورازقهم وإلههم ومعبودهم جل وعلا، اسمع معي -أيها الحبيب- يقول الحق ﵎: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل:٦٠-٦٤] آيات عجيبة، تخاطب القلب، تخاطب أعماق الفطرة: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل:٦٠] حدائق ذات بهجة، ذات جمال، ذات نضرة.
فللواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسي
سل الروض مزدانًا سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدًا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل:٦٠] لا رب غيره، ولا معبود سواه.
الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت صخور الصم قدسه والنحل يهتف حمدًا في خلاياه
والناس يعصونه جهرًا فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج:١٨] .
﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:٣٣-٤٠] .
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل:٦٠] .
يا أحمد بن حنبل ما الدليل على وجود الله؟ فقدم ورفع البيضة، وقال: هذا حصن حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره وخرج منه حيوان سميع بصير.
القرآن له أسلوبه، ولذا خاف المشركون على أنفسهم من أسلوب القرآن في التربية، وحذر بعضهم البعض الآخر: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت:٢٦] بل والله لتعجبون -أيها الأحباب الأطهار الخيار الكرام- أن الحبيب المصطفى ﷺ في السنة الخامسة من البعثة المباركة، في مكة زادها الله تشريفًا وتكريمًا، خرج ليصلي في الكعبة المشرفة، ووقف النبي ﷺ يقرأ القرآن، ومن بين يديه جلس المشركون، وجلس صناديد الكفر والشرك، وقرأ سورة النجم، وفي أواخر السورة قرأ قوارع تطير لها القلوب والأفئدة: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم:٥٧-٦٢] وقام الحبيب ﷺ وخر ساجدًا لله فلم يتمالك المشركون أنفسهم فقاموا خلفه وخروا سجدًا لله جل وعلا، وهم على الشرك والكفر.
وقصة سجود المشركين خلف رسول الله ﷺ رواها الإمام البخاري في صحيحه، وعنون لهذا الباب بعنوان: باب: سجود المسلمين مع المشركين، ورواه مختصرًا من حديث ابن عباس (أن النبي ﷺ قرأ بسورة النجم وسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر:٢١] إنه جلال القرآن، إنه كلام الحق جل وعلا، هذا هو مصدر التربية الأول، عرف القرآن الإنسان مَنْ خالقه؟ وبعدما أجابه على هذا السؤال، عرفه على مصيره، ما هو مصيره؟ وما هي الغاية؟ وما هو الهدف؟ ولماذا تعيش؟ وما هذه النتيجة؟ أجاب بمنتهى الوضوح، وعرفه بأنه لا بد أن يأتي يوم سيقف فيه بين يدي الله ليسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:٧-٨] أجاب القرآن، وهذا هو الأسلوب التربوي الصحيح، أن يجيب المنهج على كل تساؤل واستفسار، إجابة مقنعة وواقعية ومنطقية، إجابة تريح القلب والعقل، وتريح الوجدان والفؤاد.
ولذا أنادي الآن أساتذتي وأحبابي من المدرسين والمدرسات ألا يضيق صدره بسؤال طالبه، وإنما ينبغي أن يفتح صدره لطلابه وأن يجيب عليهم، وأن يحاول أن يقنعهم بالجواب، وأن يربطهم بالجواب ربطًا واقعيًا عمليًا سلوكيًا حت
1 / 8