Серия амбиций - Прелюдия
سلسلة علو الهمة - المقدم
Жанры
علو الهمة في العبادة والاستقامة عند السلف الصالح رحمهم الله تعالى
وندلف الآن إلى مجال آخر من مجالات علو الهمة، وهو علو الهمة في العبادة والاستقامة، وخاصة علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
فقد فقه سلفنا الصالحون عن الله ﷾ أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرهم إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف، فلا تراهم إلا صوامين قوامين باكين والهين.
وقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم.
قال الحسن رحمه الله تعالى: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره.
أي: من نافسك في دينك فنافسه؛ لأن هذا النوع من التنافس أمر الله به فقال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:٢٦]، فأمرنا ﷿ بالتنافس في أعمال الخير.
أما في الدنيا فقد نهانا الرسول ﷺ عن التنافس في الدنيا فقال: (ولا تنافسوا).
وهناك مشكلة، هي أن الدنيا أحيانًا تلتبس بالدين، بمعنى أن بعض أغراض الدنيا تأخذ صورة الدين، وهي في الحقيقة دنيا، فينبغي للإنسان أن يتفطن لذلك.
مثلًا: حب الزعامة والرياسة والشهرة والجاه، فهذا في الحقيقة من أغراض الدنيا ومن مقاصد الدنيا، فمن نافسك فيها فألقها في نحره، ولا تحرص على الظهور والرياسة والزعامة، وإنما ينبغي أن يميز الإنسان غضبه وحركته وسكنته هل ذلك لله ولدينه أم لنفسه.
لأن بعض الناس قد يدعو إلى الله ﷿، ثم يطرأ عليه هذا النوع من التلبيس، فتتحول الدعوة إلى الله إلى دعوة إلى النفس وليس إلى الله ﷾.
فهذه خطورتها أنها تحبط العمل، والشرك يستوجب العقوبة، كما في حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار.
وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني -وهذه عبارة عجيبة جدًا منه-: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه.
فانظر كيف يطبق التنافس في الآخرة! وانظر إلى علو همته! وقال أحد العباد: لو أن رجلًا سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غمًا ما كان ذلك بكثير.
أي: لأن الآخر يطيع الله أكثر منه، فيحس بالحسرة على تقصيره بالنسبة إليه، ولهذا يحق له أن يموت من الحسرة والغم! وأما الآن فنحن نتحاسد على الدنيا، وعلى المال، وعلى أعراض الدنيا وزينتها، وهذا هو الذي يثير حفيظة المسلمين إزاء إخوانهم اليوم، ولا يكاد يوجد فينا شعور بأن إنسانًا يكاد يموت من الغم لأنه بلغه أن هناك رجلًا أطوع لله منه.
وقيل لـ نافع: ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليله، وأعتق رقبة.
واجتهد أبو موسى الأشعري ﵁ قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك.
فلم يزل على ذلك حتى مات رضي الله تعالى عنه.
وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلًا إلا مثل رجل على خشبة في البحر، وهو يقول: يا رب يا رب لعل الله أن ينجيه.
فهذا هو شأن المؤمن في بحر الفتن الذي يغرق فيه الناس.
فالشخص الذي وجد خشبة فتعلق بها ولجأ إلى الله ﷾ أن ينجيه ليصل إلى الشاطئ، أو يبعث إليه من ينقذه كيف تكون حالته وخوفه من الهلكة؟! وهكذا تكون حال المؤمن في مثل هذه الفتن.
وعن أسامة قال: كان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: يا رب! سلم سلم.
وعن جعفر قال: دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جدًا واجتهادًا.
ثم بكى! وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمها الله ورحمه- قالت: ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه، ولا أحدًا أشد فرقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاء.
وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاةً وصيامًا من عمر بن عبد العزيز، ولكني لم أر من الناس أحدًا قط كان أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ، ويفعل مثل ذلك ليلته أجمع! وعن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: ألا تخبريني عن عمر؟! قالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استخلف.
وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: لمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد.
وكان يصوم حتى يخضر جسده، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا: إن الله ﷿ لم يأمرك بكل هذا! فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به.
وقيل لـ عامر بن عبد الله: كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟! فقال: هل هو إلا أني تركت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار، وليس في ذلك خطير أمر.
وكان إذا جاء الليل يقول: أذهب حر النار النوم، أذهب حر النار النوم.
فما ينام حتى يصبح.
وعن الحسن قال: قال عامر بن قيس لقوم ذكروا الدنيا: أئنكم لتهتمون؟! أما والله لئن استطعت لأجعلنهما همًا واحدًا.
قال: ففعل -والله- ذلك حتى لحق بالله.
وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي، فوالله لأزحفن بك زحفًا حتى يكون الكلل منك لا مني.
فإذا دخلت الفترة -الكسل أو التعب- تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي.
وكان يقول: أيظن أصحاب محمد ﷺ أن يستأثروا به دوننا؟! كلا، والله لنزاحمنهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا! وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجل أصيب بمصيبة -أي: من خشيته لله- منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطب العين، إن حركته جاءت عيناه بأربع -أي: بأربع قطرات من دموع-، ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟! تبكي الليل عامته لا تسكت! لعلك -يا بني- قتلت نفسًا! لعلك قتلت قتيلًا! فيقول: يا أماه! أنا أعلم بما صنعت نفسي.
وقال هشيم -وهو تلميذ منصور بن زاذان -: كان منصور لو قيل له: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل.
أي: لأنه أتى بأقصى ما يستطيع في العبادة.
وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: القيامة غدًا ما وجد مزيدًا، وكان يقول: اللهم! إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا.
وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط لصدقتكم! أي: كان مشغولًا بنفسه، إما أن يحدث، وإما أن يقرأ، وإما أن يسبح، وإما أن يصلي، فكان قد قسم النهار على هذه الأعمال.
وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! فيقول: يا ابنتاه! إن أباك يخاف البيات.
وعن إبراهيم قال: قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد.
يعني أن الذين عاشوا معه لم يروه تكلم بكلمة مدة عشرين سنة عاشروه فيها إلا بكلمة تصعد إلى الله ﷾؛ لأنها من الكلم الطيب.
وعن بعضهم قال: صحبت الربيع عشرين عامًا ما سمعت منه كلمة تعاب.
وقال مالك: رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين، فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعدًا في فناء زمزم، فكان إذا ذكر النبي ﷺ عنده يبكي حتى أرحمه.
أي: كان كلما أتى ذكر النبي ﵊ يبكي من شدة حبه وشوقه إلى رسول الله ﷺ.
قال: فكان إذا ذكر النبي ﷺ عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه.
وقال سلمة بن علقمة: جالست يونس بن عبيد فما استطعت أن آخذ عليه كلمة.
يعني: يخطئ فيها.
وعن أبي هارون موسى قال: كان عون يحدثنا ولحيته ترتعش بالدموع.
وقال أبو علي بن شهاب: سمعت أبا عبد الله بن بطة -الإمام الشهير المعروف- يقول: أستعمل عند منامي أربعين حديثًا رويت عن رسول الله ﷺ.
يعني: أوظف عند المنام أربعين حديثًا ما بين أدب وذكر.
وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلًا عندنا بالمحصب، وكان له أهل و
10 / 16