حول بيتنا في بيروت - الآن وقد جاء الصيف - أرى في كل صباح السجاد يتدلى على بلكونات الجيران، وأسمع أصوات العصي تنهال على السجاد تطرد منه الغبار. إني كلما أرى الخادمة تهوي بالعصا على السجادة أشعر كأن تلك العصا نزلت على رأسي، وأذكر ذلك اليهودي في مانيلا «الفلبين» الذي عريت قاعته من السجاد، وازدانت حيطان صالونه بوصولات التبرع للجمعيات الصهيونية. واليوم ذلك اليهودي له دولة، وأصحاب السجاد بعضهم على الحصيرة، وبعضهم على أحقر من الحصيرة.
ونحن لو احترمنا الناس لا بسبب الأوتوموبيل الذي يركبون، ولا المأدبة التي بها يسخون، ولا الكرافتات التي بها يزدانون، ولا السجاد الذي به بيوتهم يفرشون، بل لأجل المساهمة بمثل هذه الأعمال النبيلة التي قام بها هذا المعهد، وهذا الميتم، لاغتصبنا النبل والعمل الكريم، ولطغت قيم الروح على قيم المادة.
أعود إلى نظاراتي فأذكر أن من مظاهر الكهولة إبداء النصح.
أود أن أستميحكم عذرا فأقدم لهؤلاء الفتيان الأحباء لا نصيحة واحدة، لا جملا واحدا بل قافلة جمال.
فأولا:
ليتعلم الواحد منكم مهنة أو حرفة وليتقنها. في نظر الله وفي نظر أشراف البشر العمل طبقة واحدة. سائق الترامواي وطبيب الأسنان، أستاذ المدرسة ومصلح الأحذية، الممرضة وخادمة البيت، كلهم عند الله وعند الراقين من الناس في صف واحد. أتقنوا عملكم. كثيرون من الإخوان يأتون في طلب عمل. تسأل الواحد ما الذي في وسعك أن تعمل يجيب: «إشمكان.» إن الذي يطلب «إشمكان» يحصل على عمل في الحياة اسمه «إشمكان.» الصخر بضاعة غير رائجة، الحجر المنحوت تقدرون أن تبيعوه.
ثانيا:
ليس لكم من عدو. ابن العائلة الثانية ما هو بعدوكم. ابن الضيعة المجاورة ما هو بعدوكم. ابن الطائفة الثانية ما هو بعدوكم. إن الذي يبيعكم العداء والخصام والمشاكسة يبيعكم سما ويتجر بجهلكم. بضاعة العداء تدر الربح على بائعها فقط. وحين ترفضونها لن يجدوا لها مشتريا. لن تجنوا من العداء والبغضاء إلا الجريمة والخسارة. حين وصلت «الفلبين» عام 1925 جاءني نسيب لي رحمه الله فهمس في أذني أن لي هناك عدوين كامل حمادة وزوجته، فصدقت لأنني كنت قد صحبت من هنا «ستوك» من سقط المتاع، ما يسميه التجار «جوبا» من البغضاء. وصرنا إلى يوم أصبح فيه كامل حمادة وزوجته أحب إلي من أهلي، وصرت أحب إليهم من أهلهم. وجنينا كلنا من هذه الألفة ربحا ماديا، وما هو أثمن من الربح المادي: هو الشركة الروحية؛ إذ يشاطر الإنسان أخاه الإنسان ضحكاته ودموعه. امش نحو هذا الذي تتوهمه عدوك خطوة وابتسم، تر أنه هو الآخر كذلك مشتاق إلى أخوتك والتعاون معك.
ثالثا: - أي الجمل الثلاث - اشتروا البضاعة الجيدة حيث وجدتموها. بعض البضائع الجيدة لا تباع في «الأوكازيون» ولا يعلن عنها. من أقبح التعابير التي اخترعتها الصحف هو اصطلاح «الطبقة المثقفة»، وبشاعة هذا التعبير هو أن يخلق من المثقفين «طبقة»؛ هذه الطبقة قد لا تطلب البضاعة إلا في الأسواق الشهيرة؛ حيث عمرت الثقافة. قصب السكر دسم وشهي في «الدامور»، وهو كذلك دسم وشهي في «أنطلياس». اقرءوا كتب الفلسفة وطالعوا سير العظام، وقولوا لي هل تجدون الإيمان والتقوى والقناعة والنزاهة أعمر وأصلب في أي مكان من الدنيا، منها ها هنا في قلوب أجاويد الدروز؟
النصيحة الرابعة، الجمل الرابع: هو نصيحة سلبية. لقد وهبنا الله فصاحة في النطق وبلاغة في التعبير وكياسة في السلوك. كل هذا نفخر به ولكننا فيه مسرفون. ليس من الضروري إن تزوج واحد منا أو مات منا رجل أن يحضر العرس أو المأتم كل أهل الأرض.
Неизвестная страница