الفصل الثالث عشر
اعتقالات
لم تنتظر زوجة «خينارو روداس» وصول الخبز قبل أن تهرع خارجة من بيتها. ولا يعلم إلا الله ما إذا كانت أرغفة الخبز ستوزع اليوم عليهم. تركت زوجها ممددا على السرير بملابسه الكاملة، منهكا كالخرقة البالية، كما خلفت وليدها في السلة التي تقوم له مقام المهد. وكانت الساعة السادسة صباحا.
ودقت ساعة كنيسة «لامرسيد» في نفس الوقت الذي كانت هي تدق فيه على باب منزل الجنرال كاناليس. وقالت لنفسها وهي تمسك مطرقة الباب، على وشك أن تدق بها ثانية: أرجو أن يغفروا لي إيقاظهم هكذا في هذه الساعة المبكرة. ولكن أما من أحد يفتح لي الباب؛ لا بد أن يعلم الجنرال بأسرع ما يمكن ما قاله «لوسيو فاسكيز» لزوجي الأحمق في ذلك البار المسمى «صحوة الأسد».
وتوقفت عن الدق وانتظرت أن يفتح الباب. وجال في خاطرها: «لقد ألقى الشحاذون مسئولية جريمة «رواق الرب» على الجنرال. سوف يحضرون ويقبضون عليه هذا الصباح. وأسوأ ما في الأمر أنهم ينوون اختطاف ابنته!» ورددت في نفسها وهي لا تكف عن دق الباب: «يا له من غدر! يا له من غدر!» وتزايدت ضربات قلبها: «إنهم إذا قبضوا على الجنرال، حسنا، إنه رجل على كل حال ويمكنه احتمال مصاعب السجن. ولكنهم إذا خطفوا السيدة الصغيرة، فليساعدنا الله! لن يكون هناك علاج لهذه المصيبة. إني أراهن بكل شيء أن هناك واحدا من أولئك الأوغاد قليلي الحياء هو السبب في كل هذا الذي يحدث، واحد ممن ينتقلون من الجبال إلى المدينة لممارسة مكائدهم البشعة المشينة.»
ودقت الباب مرة أخرى. وردد المنزل والطريق والهواء الطرقات كأنها دقات طبول. وامتلأت يأسا حين لم يفتح لها أحد. وعمدت لقتل الوقت إلى قراءة عنوان الحانة الواقعة عند الناصية: «الخطوتان». كانت كلمة واحدة مكونة من حروف قليلة. ولكنها لاحظت عند ذاك صورتين لشخصين كل واحد منهما على أحد جانبي باب الحانة: صورة رجل على اليمين، وصورة امرأة على اليسار. ومن فم المرأة تخرج عبارة مكتوبة هي: «تعال ارقص في حانة «الخطوتان».» ثم يأتي الرد عليها من الرجل الذي كان يمسك زجاجة في يده: «كلا شكرا، إني أفضل رقصة الزجاجة!»
وحين كلت يدها من دق الباب، فهم إما ليسوا في الداخل أو أنهم لن يفتحوا لها الباب، دفعت بيدها الباب فانفتح. كيف أنه لم يكن مغلقا بالرتاج؟ ولملمت شالها المطرز حول كتفيها ودخلت الردهة يغمرها إحساس عميق بشر متوقع، ومضت نحو البهو وهي لا تكاد تعرف ما هي فاعلة. واخترق المنظر الذي رأته أمامها عينيها كما تخترق طلقة رصاص جسد الطائر، وتجمد الدم في عروقها، وتركها لاهثة الأنفاس، غائرة العينين، مشلولة الأطراف: كانت ثمة مزهريات محطومة وريش طيور متناثر على الأرض، وستائر ممزقة ونوافذ ومرايات مكسورة، وخزائن مبقورة، وأقفال محطمة، والأوراق والملابس والأثاث والسجاد كله قد عاث فيه الخراب، كل شيء قد شاخ في ليلة واحدة، كل شيء قد استحال خليطا لا قيمة له من نفاية قذرة لا حياة فيها ولا روح.
وكانت المربية العجوز «لاتشابيلونا» تدور في أنحاء المنزل كالشبح بحثا عن سيدتها الصغيرة، ورأسها مفتوح بالجراح. كانت تقول وهي تضحك: ها، ها، ها، هي، هي، هي! أين تختبئين يا فتاتي كميلة؟ إنني قادمة، لا تردين؟ قادمة! قادمة! قادمة!
كانت تتخيل أنها تلعب «عسكر وحرامية» مع كميلة، فظلت تبحث عنها مرات عديدة في نفس أركان الغرفة، بين أصص الزهور، تحت الأسرة، وراء الأبواب، وهي تقلب كل شيء عاليه سافله كأنها الزوبعة. - ها ها ها، هي هي هي! أوه أوه أوه، قادمة، قادمة. اخرجي يا كميلة، لقد سلمت. اخرجي يا كميلتي، لقد تعبت من البحث عنك. ها ها ها! اخرجي. إنني قادمة. هي هي هي، أوه أوه أوه!
وفي أثناء بحثها عن كميلة صادف أن توجهت إلى النافورة، وحين رأت خيالها المنعكس على صفحة المياه الساكنة، صرخت كالقرد الجريح، وأخذت ضحكتها، تتحول إلى لغو مخيف، وشعرها يغطي وجهها، ويداها تمسكان بشعرها، وطفقت تنهار رويدا رويدا إلى الأرض كيما تهرب من هذه الرؤيا المخيفة. وغمغمت بعض أعذار متقطعة كأنما هي تطلب السماح من نفسها على كونها بمثل هذا القبح وهذه الشيخوخة وهذه الضآلة وهذه الهيئة المشوشة. وفجأة، بدأت تصرخ مرة أخرى. فمن خلال شلال شعرها المنفوش، ومن بين أصابعها المتفرقة، لمحت الشمس تقفز فوقها من أعلى، وتلقي بظلها على أرض الفناء. وأعماها الغضب فنهضت وهاجمت ظلها وصورتها المنعكسة، وأخذت تضرب صفحة المياه بيديها والأرض بقدميها. كانت تريد أن تدمرهما. وطفق ظلها يتلوى وينثني كأنه حيوان يجلد بالسياط. ولكنه ظل باقيا برغم ضربات قدمها المحمومة وركلاتها، وتحطمت صورتها نثارا في خضم المياه التي ضربتها بيديها، ولكنها عادت مرة أخرى حالما سكن الماء. وأخذت تصرخ كالحيوان المتوحش غاضبة لعدم قدرتها على تدمير هذا الراسب السخامي المنتثر على الأحجار، والذي يهرب من ركلات قدميها كأنما يفر حقيقة من الضربات، وعلى تحطيم ذرات الغبار المضيء التي تطفو على سطح المياه وبها سمكة لها نفس صورتها.
Неизвестная страница