لأني أغني لهن دائما؛
أغنية زهرة المقهى!
واعتدل في جلسته فجأة وأدرك أن الخنزيرة ليست معه، فتوقف عن الغناء وصاح بين نوبات الفواق: «إذن لقد ذهبت «الخنزيرة»، أليس كذلك أيها الأفاقون؟ إنها مشغولة، أليس كذلك أيها الأفاقون؟ إذن أنا ذاهب، أقول لكم إني ذاهب، أ ... قو ... ل لكم إني ... ذاهب، ذاهب ... حسنا، ولماذا لا أذهب؟ ... أقول لكم إني ذاهب ...»
ونهض بصعوبة وهو يستند إلى المنضدة التي قد تمدد عليها، وإلى المقاعد والجدران، ومشى مترنحا ناحية الباب. وجرت الخادمة تفتحه له. - «أقول ... لكم ... إني ذاهب! سوف تعود هذه العاهرة، أليس كذلك يا سيدة «تشون»؟ ولكني ذاهب! لم يعد أمامنا نحن العسكريين المحترفين إلا أن نموت من السكر، وعندها يكون بوسعهم أن يستقطروا الخمر منا بدلا من أن يدفنونا! يعيش يخني لحم الخنزير، وتعيش الجماهير!»
ولحق به ذو الوجه الملائكي على الفور. كان يسير على حافة الطوار مترنحا كالبهلوان، يقف مرة وقدمه اليمنى في الهواء، ومرة قدمه اليسرى، ثم مرة أخرى قدمه اليمنى، والآن قدماه الاثنتان ... ولحق نفسه قبل أن يقع وقال ملاحظا: «هكذا ... كما قال البغل للجام.»
وكانت ثمة نوافذ مفتوحة في ماخور آخر تلقي بأضوائها في الطريق، وعازف بيانو طويل الشعر يعزف صوناتة ضوء القمر لبيتهوفن. ولم يكن هناك من أحد ينصت له في الغرفة الخالية سوى المقاعد التي اصطفت كالنظارة من حول البيانو الضخم المتهالك، الذي لم يكن يزيد في ضخامته عن حوت يونس. وتوقف ذو الوجه الملائكي جامدا وقد بهرته الموسيقى. وأسند الميجور - ذلك الدمية المطواعة - إلى الحائط، واقترب كيما يخضع شذرات فؤاده المحطوم للألحان: كان يعود إلى الحياة وسط الأموات رجل ميت ذو عينين مشتعلتين معلق بعيدا بعيدا فوق الأرض، بينما كانت عيون مصابيح الطريق تنطفئ واحدة بعد أخرى، وقطرات الندى الليلي تتساقط من الأسطح كالمسامير التي تصلب السكارى أو التي تندق في ألواح النعش الخشبية. وكان كل مفتاح صغير داخل الصندوق المغناطيسي للبيانو يجذب رمال الألحان الموسيقية الدقيقة، وبعد أن يحبسها في جوفه فترة، يطلقها مرة أخرى على شكل أصابع للنغمات الوترية، مضاعفة كيما تسكر باب الحب المغلق على الدوام؛ نفس الأصابع دائما، ونفس اليد دائما. وكان القمر يجنح عبر سماء ممهدة تجاه الحقول الغافية، مخلفا وراءه أحراجا تخيم عليها الظلمة، مرعبة للطيور، ولأولئك الذين يجدون الدنيا قد انقلبت رحيبة واسعة كأنما بفعل السحر حين يولد الحب، وضيعة فارغة حين يموت الحب.
واستيقظ «فارفان» ليجد نفسه راقدا على نضد حانة صغيرة، تهزه يد أحد الغرباء كما يهزون الشجرة حتى تسقط ثمارها الناضجة. - ألا تعرفني يا ميجور؟ - أجل ... لا ... حالا، حالا سأعرفك ... - ألا تذكرني؟ - آ آ ... أوه. تثاءب فارفان وهو ينهض من على النضد الذي كان راقدا عليه، وقد بلله العرق كبغال الجمر. - «إني ميغيل ذو الوجه الملائكي، في خدمتك.»
وحياه الميجور بالتحية العسكرية. - «أرجو أن تعذرني، فإني لم أتعرف عليك. ولكن، أجل، بالطبع، إنك من يرى دائما مع السيد الرئيس.» - حسنا! لا تندهش لإيقاظي إياك، يا ميجور، على هذا النحو المفاجئ. - لا أهمية لذلك بالمرة. - ولكن لقد حان الآن وقت عودتك إلى الثكنات، وكان يجب أن أحادثك على انفراد، ومن المصادفة أن كانت صاحبة هذه ... فلنقل هذا المقهى، غائبة الآن. لقد بحثت عنك في كل مكان، كالإبرة في كومة من القش، أصيل أمس، في الثكنات، في شقتك. يجب أن تعدني بألا تبوح لشخص بما سوف أقوله لك الآن. - كلمة شرف.
وشد المحبوب على يد الميجور بحرارة وقال له بصوت خفيض وعينه على الباب: إنني في مركز يمكنني أن أعرف أنه قد صدرت أوامر بالتخلص منك. لقد أرسلت تعليمات إلى المستشفى العسكري بأن تعطي لك جرعة منومة قاتلة في أول مرة تدخل هذه المستشفى عقب إحدى سهراتك الصاخبة. لقد أبلغت العاهرة التي تصاحبها في دار «النشوة اللذيذة» السيد الرئيس عن نوباتك الثورية.
وتصلب «فارفان» في موضعه من وقع كلمات المحبوب إليه. ثم رفع قبضته في الهواء صائحا: آه، الكلبة!
Неизвестная страница