وبعد خمسة عشر يوما عاد المهدي إلى الأبيض ومعه الغنائم التي أودعت بيت المال، وكانت هذه الغنائم تحتوي مبلغا كبيرا من النقود غير المدافع والبنادق، ومع ذلك قد نهب العرب شيئا كبيرا من هذه الغنائم، على الرغم من العقوبات الوحشية التي كان يعاقبهم بها أحمد واد سليمان. وقد كان من المألوف أن تقطع يد السارق اليمنى وساقه اليسرى، أما الزنوج المكرة فقد سرقوا كمية وفرة من الذخائر خبئوها في الغابات وفي معسكرهم، وأفادتهم بعد ذلك فوائد عظيمة.
وكان دخول المهدي إلى الأبيض دخول الظافر الذي يستقبل بضروب الحفاوة الوحشية؛ فقد كان الناس يترامون أمامه ويكادون يعبدونه، وليس شك في أن انتصاره في شيكان قد جعل السودان بأجمعه طوع أمره؛ فكان الأهالي من النيل إلى البحر الأحمر ومن واداي إلى كردوفان ينظرون إلى هذا الولي ويترقبون حركاته، وكان أولئك الذين آمنوا قبلا بهدايته يستمسكون بإيمانهم وينشرون نفوذه أكثر من ذي قبل، أما أولئك الذين استرابوا أولا في دعوته فقد ثابوا إلى اليقين بعد هذه الانتصارات العظيمة المتوالية. وأولئك الذين كانوا يعرفون في قلوبهم أن هذه المهدية غش ومكر، رأوا أنه يجب عليهم أن ينضموا إلى المهدي ما دامت الحكومة غير قادرة على تثبيت سلطتها حتى في مديريات النيل.
وقد عرف في هذا الوقت عدد كبير من الأوروبيين وبعض المصريين المقيمين في المدن خطورة الموقف، ولم يتوانوا في الخروج من القطر السوداني، أو على الأقل في إرسال ما يخشون عليه من أمتعتهم ومنقولاتهم إلى الشمال، وقد أيقنوا أنه لا بقاء لهم بعد الآن في السودان الذي بسط عليه المهدي نفوذه.
الفصل التاسع
سقوط دارفور
في ذلك الوقت كنت قد شفيت من مرضي - الدودة السودانية - وشعرت بأني أقوى على الخروج في تجريدة أخرى، ولكن عدد أتباعي المخلصين كان قد نقص نقصا سيئا، وأيضا قلت ذخيرتنا، وكان سيد بك جمعة يرسل إلي بأنه غير قادر على أن يسعفني بما أطلب من الذخائر، واحتج في ذلك بأن عرب الزبدية والمهرية قد بدا منهم شيء من العصيان، حتى إنهم استولوا على مواشي بعض الناس المقيمين في جوار الفاشر، وعندما طلب منهم ردها رفضوا.
وكانت كل آمالي معلقة الآن بنجاح جيش هكس باشا، وكان من حسن حظي أني كنت أجهل الطريق الذي اتخذه، كما كنت أجهل أيضا الحالة المعنوية السيئة التي كان فيها الجيش، وكان قد مضى علي الآن نحو عام لم أتسلم فيه أية رسالة من الخرطوم، وكنت قد لجأت إلى الحيلة لكي أحتفظ بحماسة رجالنا؛ فادعيت بأنه جاءتني أخبار عن انتصارات الحكومة، وقد أذعت هذه الأخبار في شكل رسائل ملفقة قرئت علنا على الجيش وقوبلت بإطلاق المدافع وهتاف الجنود، والحقيقة أني أنا الذي لفقت هذه الأخبار، ومن الحق أن أقول إني تسلمت في هذا الوقت رسالة صغيرة من علاء الدين باشا، يقول فيها إن الخديو قد عينني قائدا عاما لجيوش دارفور، وإن الحكومة قد عزمت على إرسال قوة لمعاقبة الثائرين، وأرسلت نسخا عديدة من هذه الرسالة إلى الفاشر وكبكبية، وأمرت بإذاعتها بين الجمهور وإطلاق النار عند قراءتها، واحتفلت بمقدم حامل هذه الرسالة احتفالا كبيرا وأثقلته بالهدايا، وأعلن أمامنا أنه عندما غادر الخرطوم كانت الحكومة تهيئ التجريدة التي قال عنها إنها لا بد منصورة، وكان الواقفون على الحالة مترددين في تصديق هذه الأقوال، ولكنهم سروا مع ذلك لهذه الأخبار.
وبعد أيام قليلة عاد إلي خالد واد إمام، الذي كنت أرسلته إلى كردوفان ليأتيني بصحيح الأخبار، وأفضى برسالة شفوية من زوجال، يقول فيها إن الحكومة تهيئ تجريدة لمقاتلة المهدي. ولكن بعد أيام قبض على رجل قريبا من شقة ومعه خطاب من خالد للمادبو يطلب منه أن يستعد للقائه قريبا لكي يساعده في إتمام مشروع، فلم يبق عندي شك في أن خالدا قد انضم إلى زوجال وصار خادمه المخلص.
وللحال أمرت بالقبض على خالد وإحضاره إلي، فاعترف بأن زوجال قد أمره بأن يأخذ زوجاته إلى مكان مأمون خارج عن منطقتي، وأن يحضر زوجتين منهن إليه في كردوفان، وهذا هو سبب كتابته تلك الرسالة للمادبو.
فأمرت بالقبض على أسرة زوجال وتقييد خالد، ثم استصفيت أملاكهما وضممتها إلى بيت المال، وأقمت حراسا على أملاك المقبوض عليهم الآخرين.
Неизвестная страница