وهل غاب عنهم أن هذه البنادق قد صارت إلى أيدي رجال ماهرين يعرفون كيفية استعمالها، وأن من هؤلاء الرجال من كان يستخدم البازنجر ويصد الفيلة والنعام، وأنه قد تألفت تحت أيديهم فرق حربية ماهرة؟ ثم ألم ينضو إلى راية المهدي آلاف من الجنود النظاميين وغير النظاميين الذين كانوا في خدمة الحكومة قبلا؟ وهل خطر لهم أن هؤلاء الرجال كانوا ينوون ترك الانضمام إلى هكس باشا عند رؤية جيشه؟
لقد جهلت الحكومة في القاهرة كل ذلك وخاطرت بحياة الألوف لجهلها هذا، وأظن أنه كان بين أعضاء الحكومة من كان يعرف السودان ويعرف المثل القائل «اللي بياخد أمي هو أبويا»، والمهدي قد استولى على البلاد ويمكن أن نقول مجازا إنه تزوجها؛ لذلك نظر إليه السكان كما ينظرون إلى مولاهم وحاكمهم، ولم يكونوا يبالون وقتئذ بما نالوه من رعاية في الحكم السابق، ولا أنكر أن هناك شواذ ولكن ملاحظاتي هنا تنطبق على الكثرة.
وكانت تجريدة هكس مؤلفة من عشرة آلاف رجل تسير في هيئة مربع في وسطه ستة آلاف جمل، وكان سيرها في أعشاب ونبات يزيد طولها عن قامة الإنسان، فلم يكن في مقدور الجنود أن يروا إلى أبعد من مائتي ياردة إلى ثلاثمائة، وذلك في الجهات المزروعة المكشوفة، حيث يقطن بعض الناس ويكشفون بعض الأرض للزراعة، وكان عليهم أن يكونوا مستعدين على الدوام لملاقاة عدو أكثر منهم عددا وعدة وتجربة بالحروب، وقد اشتهر رجاله بالفوز والشجاعة والاندفاع، ولم يكن في طريقهم سوى آبار قليلة وإن كان بها مستنقعات عديدة.
ولو أنهم كانوا أخذوا الطريق الشمالي، طريق جبروة وبارة، لوجدوا الأرض مكشوفة أمامهم والماء وفيرا في عدة أماكن، وهذا الماء إذا لم يكن يكفي الجيش، فإنه باستعمال الوسائل الحديثة في الاستقاء واستنباط الماء كان يكفيه، وفي هذه الحالة كان يمكن الاستعانة بقبائل الكبابيشي في مقاتلة المهدي، وكان يمكن عندئذ الاستغناء عن عدد كبير من الرجال والحيوانات التي استعملت في النقل.
وكانت الجمال في وسط الجيش تؤلف غابة كثيفة من الأعناق والرءوس، وكان من المستحيل أن يطلق العدو عيارا واحدا دون أن يصيب أحد هذه الجمال، فإنه إذا أخطأ أحدا من الأمام لم يخطئ الإصابة في الوسط أو المؤخرة.
وكان يمكن ترك هذه الجمال مع الحرس في دويم أو في الشط، ثم إرسال فصائل من الجيش لإعداد الطريق في الشمال أو الغرب أو الجنوب، وإنشاء مراكز حربية في البلاد التي تخضع، وبدهي أن هذا العمل كان يحتاج إلى عام ولم يكن في ذلك من بأس؛ إذ لم يكن ثم داع للعجلة، ثم يجب أن نذكر أن الخلاف بين هكس والضباط الأوروبيين كان عظيما، كما كان هناك أيضا خلاف بين علاء الدين باشا وبين الضباط المصريين.
ثم كان هذا الجيش مؤلفا في الأغلب من جيش عرابي المنحل الذي انهزم أمام الإنجليز، ولا شك في أن الجنرال هكس كان يعرف هذه الأشياء، وقد سئل مرة في الدويم عن الموقف فقال: «أنا مثل المسيح بين اليهود.» ومع ذلك سار في طريقه، وربما كان يعتقد أنه إذا رفض السير فإن شرفه يجرح.
وأخذت هذه الكتلة المؤلفة من البشر والحيوان تسير سيرا بطيئا، وكان السكان الذين يقطنون في طريق الجيش قد فروا، وكان العرب يظهرون فجأة ثم يختفون من وقت لآخر، وكان هكس ينظر خلال نظارته في إحدى المرات فرأى فرسانا مختبئين بين الأشجار، فأمر بالوقوف وأنفذ قسما من الخيالة لكي يتقدم، وبعد دقائق عاد الخيالة وهم في ارتباك شديد بعد أن فقدوا عددا من رجالهم وجرح عدد آخر، ورووا أنهم رأوا قوة كبيرة، فأنفذ هكس الجنرال فاركار ومعه نصف أورطة لكي يذهب إلى مكان المناوشة ويعاين الحالة هناك، فعاد وقال إنه رأى ستة مقتولين وقد جردوا من كل شيء ولكنه لم ير أحدا من العدو، وكان هناك آثار عشرة من حوافر الخيل، فكأن قسم الخيالة قد انهزم أمام هؤلاء العشرة.
وفي اليوم التالي ظهر ثلاثة من الفرسان فهجم عليهم فاركار وليس معه سوى خادمه، فقتل اثنين وقاد الثالث أسيرا. وقد أخبرني عن هاتين الحادثتين بعض من بقي من التجريدة، وكانوا يصفون سير الجيش وهو في هيئة المربع كأنه سلحفاة تزحف، ولم يكن من الممكن وهو في هيئته هذه أن تسرح الجمال للرعي؛ فلم تأكل هذه الجمال سوى ما وجدته وهي محصورة في هذا المربع، وكان ما وجدته قليلا، فكان ينفق منها كل يوم مئات، وكانت تأكل بطانة الرحال المحشوة بالتبن، ولما خلت الرحال من التبن لصق الخشب بلحمها فآذاها أذى كبيرا، ومع ذلك كانت هذه الجمال تجر سيقانها وتسير حاملة أثقالها وأثقال من يقع من أخواتها.
ولا شك في أن فاركار والبارون شكيندورف والماجور هيرلت وغيرهم من الضباط الأوروبيين وبعض كبار الضباط المصريين؛ كانوا يجهدون جهدهم لكي يساعدوا هكس باشا في هذه الظروف الحرجة، ولكن معظم الجيش كان يجهل تماما الأخطار الموشكة أن تقع به، وكان فيزتلي المسكين يرسم صوره، وكان دونوفان يكتب مذكراته، ولكن أين ذلك الذي يمكنه إرسالها إلى بلادهما؟
Неизвестная страница