Меч и огонь в Судане

Салатин Баша d. 1351 AH
146

Меч и огонь в Судане

السيف والنار في السودان

Жанры

كان سكان أم درمان موزعين في مساكنهم تبعا لقبائلهم؛ فكان العرب التابعون للقبائل الغربية يسكنون غالبا في المحلات الجنوبية. أما القسم الشمالي فكان مخصصا لسكان وادي النيل، ورغم وجود المحتسبين والمحافظين الرسميين على نظام المدينة، كان مفروضا على كل قبيلة أن تعين من بين رجالها من يقومون بحفظ الأمن والسلام في القبيلة ذاتها، على أن يبلغ أولئك عن أي اضطراب أو خلل في القبيلة إلى رجال الحفظ المعينين من قبل الحكومة.

إذا استثنيا الشوارع المنتظمة التي أنشأها وخططها الخليفة عبد الله إرضاء لراحته ومزاجه فحسب، وجدنا المدينة عبارة عن منحدرات وعطفات مملوءة بقاذورات. وبطبيعة الحال أجد شخصي عاجزا عن وصف الأضرار الصحية المنبعثة من تلك القاذورات الكريهة الرائحة في الأماكن الوبائية التي تجمعت فيها كل أوساخ أم درمان. ويكفيني القول بأن جثث الخيول الميتة ترمى في تلك النواحي، وأن الجمال والحمير والماعز تزحم الطرق الضيقة وتملأها بأوساخها وقاذوراتها، وكل ما يعمله الخليفة هو أن يصدر أوامره قبل أيام أعياد مخصوصة في كل سنة باكتساح هذه الأوساخ وتنظيف الطرق الضيقة، فلا يتعدى التنظيف حد إلقاء الجيف المنتنة في زوايا الحارات، فإذا ما جاء فصل الشتاء الممطر حمل الهواء - المشبع بالروائح الكريهة المنبعثة من تلك الأوساخ والجيف - بعض أمراض وبائية تعمل على قتل المئات من السكان المساكين.

كانت المدافن قبل عهد الخليفة عبد الله قائمة وسط المدينة، ولكن تبرم الأحياء وتذمرهم من الروائح التي أصيب بها السكان من ذلك النظام، اضطر عبد الله إلى إنشاء مكان فسيح خاص وإعداده لدفن الموتى، وقد وقع اختياره على الصحراء الواقعة شمال مكان استعراض الجنود.

سهل على القارئ أن يتصور انتشار الأمراض في السودان، بعد أن عرف الشيء غير القليل عن الروائح الكريهة وأوساخ البهائم في جميع نواحي أم درمان تقريبا، إلا أن ذلك الانتشار لا يمنعنا من تخصيص الأمراض الخطيرة السائدة هناك، فنقول إن الحمى والدوسنطاريا هما شر ما يبلى به ساكنو أم درمان، ولا تكاد تنقطع حمى التيفوس الوبائية بين نوفمبر ومارس من كل عام.

نتكلم الآن قليلا عن مياه أم درمان، فنقول إن الآبار المفيدة والينابيع المعدة لجلب المياه الصحية أنشئت قبيل عام 1895، وتلك العيون الصحية أقيمت في الناحية الشمالية من المسجد الكبير. أما الآبار المحفورة في نواحي أم درمان الجنوبية، فماؤها أجاج في غالب الأوقات، وهي في مجموعها تختلف في العمق بين ثلاثين وتسعين قدما، وقد تم حفرها بواسطة المسجونين تحت رقابة الحراس الغليظي القلوب. ومما يذكر في صدد السجن والحراس، أن المرء في أم درمان يسمع كثيرا من المارة قولهم «لقد أخذوا صاحبنا إلى السعير»، ومعنى السعير عندهم هو السجن الذي يلاقي فيه المغضوب عليه عذابا شديدا، إن مجرد لفظ هذه الكلمة (السعير) يولد الاضطراب والفزع في نفوس جميع سامعيها. أما السجن فقائم في الناحية الجنوبية الشرقية من أم درمان على مقربة من نهر النيل، وهو مسيج بحائط ضخم، وللسير إلى السجن يمر الإنسان بردهة خارجية فسيحة، يحرسها نهارا وليلا جنود من السودانيين المخيفين، فإذا ما عبر المرء تلك الردهة وصل إلى ساحة داخلية مكونة من غرف طينية لإقامة المسجونين المنكودي الحظ، الذين اعتادوا - وهم في السلاسل والأصفاد الثقيلة - قضاء سحابة اليوم في ظل ذلك البناء وهم في سكون وجمود كاملين، لا يتخللهما من الأصوات سوى رنين السلاسل والأوامر القاسية الصادرة من الحراس الغلاظ القلوب، وصراخ وتأوهات بعض المسجونين المضطهدين من جراء ما ينزل على أجسامهم من سياط الجلد والتأديب، والويل كل الويل لمن تعرض لسخط الخليفة ومخالفة أمره، فأمثال أولئك يرسفون في أثقل الأغلال، بعد أن يحتم عليهم مراقب السجن البقاء في أصغر الغرف والامتناع عن الاختلاط بباقي المسجونين.

وفي الغالب كانوا يأخذون من الطعام ما يكفي لبقائهم أحياء؛ أي إن أمر مراقب السجن كان صادرا ببقائهم دائما في حالة الجوع الشديد التي لا تعرضهم للموت مقابل الكمية القليلة التي يتناولونها للغذاء. أما المسجونون العاديون فلا يتناولون مقدارا منظما من الطعام، ومن المسموح لهم جلب الطعام من منازلهم. وقد حدث في كثير من الأحيان أن الحراس السلابين النهمين التهموا الجزء الأكبر من الطعام الوارد من منزل أحد المسجونين قبل إيصاله إلى غرفة المسجون. وفي أحيان أخرى كان أولئك المسجونون التعساء يحرمون من كل ما يرد إليهم من بيوتهم الخاصة عند حلول الليل.

كان السجانون يقودون المسجونين كقطيع من الغنم إلى غرفهم الحجرية التي كانت خالية من النوافذ خلوا كليا، وبالتالي كانت محرومة من الشمس والهواء النقي، ولم يكن أولئك السجانون القساة يسمعون تضرعات أو توسلات من المسجونين، فكانوا يسوقونهم ليلا إلى الغرف الحجرية شذر مذر، وفي الحقيقة كان أولئك المنكوبون يساقون إلى قبور لا فرق بينها وبين قبور الموتي سوى أن النازلين فيها أحياء أشقياء، يجور قويهم على ضعيفهم رغم كونهم في المصاب سواء. وقد كان الحراس في كثير من الأحيان يذهبون في الصباح المبكر إلى تلك الغرف السوداء المظلمة فيجدون بعض المسجونين التعساء قد ماتوا مختنقين؛ لعدم وجود ذرة من الهواء في غرفهم المغلقة من جميع نواحيها ولعدم تمتعهم بالغذاء الكافي من الناحية الأخرى.

وإنه لمن المفزع حقا أن يشاهد المرء عشرات من أولئك «الموتى في أجسام الأحياء» خارجين من كهوفهم إلى فضاء السجن كل صباح، بعد أن قضوا ليلتهم منهوكي القوى غير قادرين على النوم في ذلك الوسط المخيف المضر بالصحة.

إذا ما بزغ نور الصباح خرجوا من غرفهم الصغيرة وهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة، واستظلوا بظل حيطان السجن، وقضوا بقية النهار في السعي إلى راحة أجسامهم من ألم الليلة السابقة، وعمدوا إلى اكتساب قوة جديدة يستطيع بها كل مسجون مواجهة ما ينتظره في يومه من أتعاب وآلام.

من المعقول جدا أن كلا من أولئك الأحياء التعساء كان يفضل الموت على تلك الحياة الشاقة المؤلمة، ولكن الواقع خلاف ذلك؛ فقد سعى كل إلى البقاء في الحياة مهما قاسى من ألم وضنك، وقد كانت دعواتهم إلى الله محصورة في إنقاذهم من الشدة التي انتابتهم. ومع أن السجن كان مزدحما ومعرضا المسجونين للاختناق، ومع أن المسجونين كانوا يلاقون من العسف أهوالا ومصائب وآلاما مبرحة؛ مع ذلك لم أسمع مدة إقامتي في السودان أن واحدا من المسجونين سعى إلى الانتحار.

Неизвестная страница