ولم يكن ثم متسع من الوقت لتأجيل، فأمرت حسن أفندي رفقي بأن يعد مائتي جندي نظامي وعشرين فارسا للقيام في الحال معي إلى جوى.
وما انتصف الليل حتى كان قد أعد كل شيء، وودعت الدكتور زربوخين وقلت له إني أؤمل أن أراه بعد أربعة أيام أو خمسة، وخرجت متوجها نحو الجنوب الغربي، وكنت شابا قويا في اشتياق إلى الحرب، وإني أذكر الآن مقدار فرحي الشديد للقاء السلطان هارون ومناجزته، ولم يخطر ببالي شيء عن المشاق، وإنما كل ما كنت مشتاقا إليه أني كنت أرغب في أن أبين لجنودي أني قادر على قيادتهم، وفي الصباح حططنا رحالنا، وكان جميع الجنود زنوجا حتى ضباطهم، أما الجنود الراكبة فكانوا من الأتراك والمصريين، وخطبتهم جميعا وقلت لهم إني الآن غريب عنهم، ولكن عليهم أن يعرفوا أني مستعد لأن أشاركهم مشاقهم في كل وقت، وإني أرجو أن يكونوا ممتلئين حماسة وأن نسرع للقاء العدو، وكانت خطبتي بسيطة ولكن كان لها وقع في نفوس الجند، وعندما انتهيت منها رفعوا أسلحتهم في الهواء فوق رءوسهم على الطريقة السودانية، وصاحوا بأنهم لن ينثنوا عن الظفر أو الموت.
وفي الظهر حططنا قرب قرية فأخذت أراقب رجالي وأفحصهم، وكانوا كلهم على أهبة ومعهم ذخيرة كافية، وكان مع كل جندي زمزمية من جلد المعز أو الغزال، واسمها سن - وجمعها سنين - ولكن لم يكن معهم طعام، ولما سألت عن سبب ذلك قيل لي: «أينما ذهبت في دارفور تجد الطعام.» فذهبت إلى شيخ القرية وطلبت منه تقديم كمية من الدخن، وكانوا ينقعون الدخن في الماء ثم يعصرونه ويمزجونه بالتمر الهندي ثم يأكلونه، أما العصارة فكانوا يشربونها وكانت لمزازتها تطفئ الظمأ، والغالب أن الأوروبيين لا يستطيعون هضم هذا الطعام ولكنه مغذ جدا، والجنود السودانيون لا يأكلون تقريبا شيئا غيره وهم سائرون إلى القتال، وقد اعتدت تناوله بالتدريج، ولكني وجدت أنه إذا لم يكن الإنسان في صحة تامة فإنه يعقبه سوء هضم شديد، وأحضر لنا شيخ القرية الدخن ومعه عصيدة وزعت على الرجال، وبينما هم يأكلون دعوت الضباط لأن يأخذوا شطرا من اللحم المحفوظ بالعلب الذي كان معي، فأخذوه واستطابوه قائلين إنه أفضل من الدخن والعصيدة. وبعد ذلك طلبت من الكاتب أن يكتب لشيخ القرية صكا بمقدار ما تسلمناه منه من الدخن لكي يحط ثمنه من مقدار ما يدفعه لجابي الضرائب، ولكن هذا الرجل رفض قائلا إن إطعام الجنود ليس فقط من واجباته بل إن أصول الضيافة والكرم تقتضيه، فقلت له إني أعرف أن أهالي دارفور أسخياء ولكني أجد أن طعام 200 نفس يعدو حدود السخاء، وإنه لذلك يجب عليه أن يتسلم ثمن طعامه، فرضي أخيرا واطمأن إلى حديثي، وقال إنه لو سار الجنود على هذا المبدأ لسر السكان، ولكن لسوء الحظ قد اعتاد الجنود اقتحام المنازل وأخذ ما فيها؛ حتى إن الأهالي صاروا يخشونهم، وعندما ينزلون قراهم يجتهدون في إخفاء ما عندهم، فشكرت للشيخ قوله هذا ووعدته بأني سأصلح هذه الحالة.
وعند غروب الشمس وصلنا إلى بير جوى وكان بها حامية غير نظامية عددها 120 رجلا يقودهم أحمد قاطنج وجبر الله، وقد أخبراني بأنهما بعثا جواسيسهما لكي يعرفوا حركات السلطان هرون، وأنهما لا يظنان أنه قد نزل بعد من جبل مرة إلى الوادي، وكنت في غاية الإعياء وقد تملكني النعاس فذهبت إلى فراشي لأنام، ولكن اطراد قرع الطبول إكراما لي وضربان رأسي منعاني من النوم، وفي الصباح شعرت أني مريض، ولما جاءني أحمد ورأى ما أنا فيه قال لي: «يمكننا معالجة هذا بأيسر سبيل، عندي رجل يقف ضربان الرأس في الحال، وهو أفضل من الدكتور الذي في دارة والحقيقة أنه ليس في دارة دكتور وإنما هو صيدلي يقال له دكتور على سبيل التأدب والتجمل.»
فقلت: «ولكن كيف يمكنه أن يعالجني؟»
فقال: «هذا شيء بسيط، يضع يديه على رأسك ثم يقول شيئا فتبرأ، بل تعود أحسن مما كنت قبل أن تمرض!»
فقلت: «إذن ادعه الآن.»
وكنت شابا وجاهلا في تلك الأيام، وخطر ببالي أن أحد هؤلاء العرب ربما قد زار أوروبا وعرف شيئا عن العلاج المغنطيسي، وأنه قد أرصد حياته لفائدة الناس وشفائهم، وإني أعترف بأني شعرت بشيء من القلق لما قاله أحمد لي، وبعد دقائق قليلة أدخل أحمد إلى غرفتي رجلا طويلا أسود له لحية بيضاء، يظهر عليه أنه من سكان بورنو، وقال لي: «هذا هو الطبيب الذي سيشفيك من ضربات الرأس.»
ولم يتردد الطبيب لحظة بل وضع يده على رأسي وضغط صدغي بإبهامه وسبابته، ثم تمتم جملة كلمات لم أفهمها وبصق في وجهي! فهببت واقفا لهذه الفظاعة وضربته ضربة ألقته على الأرض، وكان أحمد واقفا بجانبي متكئا على عكازته، فرجاني ألا أنظر للمسألة هذه النظرة، وقال لي: «ليس بصقه قلة أدب، بل هو جزء من العلاج وستستفيد منه.» ولكن الطبيب المسكين الذي زايلته ثقته بنفسه وقف بعيدا عني وقال: «وجع الرأس من الشيطان ويلزمني أن أطرده، وفي القرآن آيات تدل على إمكان طرده بالنفث، وبذلك يقف عمله السيئ في رأسك.»
ولم أتمالك من الضحك على الرغم من مضايقتي وقلت: «وأنا إذن علي عفريت! وعلى كل حال أرجو أن يكون عفريتا صغيرا، وأن تكون قد نجحت في طرده.» ولم أسمح له بإعادة الرقية وأعطيته ريالا وأمرته بالخروج، فخرج وهو يدعو لرأسي بالشفاء، ولكن بقي - على الرغم من هذا الدعاء - يؤلمني.
Неизвестная страница