سخط الشاعر وسبك بالأوزان والأسجاع على نحو ما يكون سباب الشعراء، ولكنه إذا كان شاعرا صميما فما يلبث أن يهدأ سخطه، ويفكر في شعوب جائعة تنتظر منك إرواء غليلها وضمانة قوتها.
ولكن لعل الشاعر كان مصريا فما استطاع أن يرى فيك ما تراه شعوب ليس في ديارها نيل كريم يفيض بدموع الآلهة فيغنيها عن منافعك وأضرارك؟
يحق لبعض المصريين، من جانب آخر، أن يقروا الشاعر القديم في قوله: «وليس عليك يا مطر السلام»، يحق لهم ذلك إذا ما رأوا الأحياء غير الأوروبية في هذه المدينة. والأحياء الأوروبية وغير الأوروبية من الأمور التي تسوسها مصلحة التنظيم. ومصلحة التنظيم - كما تعلم أو كما لا تعلم أيها المطر - دائرة من دوائر الحكومة، فإذا ذكرناها بغير الثناء والتعظيم والتبجيل كان نصيبنا منها نصيبك من شاعر ليلى على الأقل!
بين الأدب والصحافة
1916
تساءل مستر برسي هوايت في إحدى محاضراته الأخيرة بالجامعة المصرية: هل الأدب والصحافة واحد؟ وما لبث أن أجاب نفسه قائلا: «كلا ليسا واحدا. قد تلامس الصحافة الراقية، في بعض موضوعاتها، المعاني الأدبية العالية فتوسم بوسمها وتؤثر تأثيرها، لكن الصحافة، بوجه الإجمال، تختلف عن الأدب من حيث الغرض والمرمى والتأثير.»
بينما كان الأستاذ يبسط رأيه كنت أضاحك نفسي قائلة: قد يكون هذا رأيكم أيها الغربيون، لكن الأمر عندنا على غير ما تذكرون؛ عندنا إذا كتب المرء مقالات قليلة في الزراعة مثلا، حاز دفعة واحدة جميع الألقاب الكتابية المدونة في القاموس فأصبح: كاتبا مجيدا، أديبا أريبا، مفكرا مبتكرا، شاعرا فذا، خطيبا مفوها، سياسيا محنكا، عالما علامة وبحرا فهامة. وإذا أردت معرفة ألقابه الأخرى فعليك «بنجعة الرائد» لليازجي (صفحة 2 الباب السادس من الجزء الثاني).
الأدب فن التعبير عن العواطف والميول والتأثيرات نثرا ونظما، فالشعر فرع من الأدب. والشرط الجوهري للكاتب الأدبي هو أن يكون ذا إحساس قوي يتأثر بجميع الحوادث، فإذا نقص هذا الشرط تلاشى الكاتب الأدبي.
وكيف يؤثر من لا يكون متأثرا! ألا إن الذكاء يتعب، والعلم يعذب، والحرية الفكرية تقلق النفس. ولئن عرفت كيف تضرب على أبواب القلوب سمعت الجواب دوما، تجاوبك الدموع؛ دموع التعزية في الغالب، ودموع الألم أبدا.
أما الصحافة ففي نشر الأخبار السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية، فهي إذن مختلفة عن الأدب كل الاختلاف. إذا احتاج الأديب إلى شعور قوي فلا حاجة للصحافي إلى ذلك، وما عليه سوى نقل الأنباء التلغرافية ونشر الحوادث المحلية، فإذا فعل أجاد وكان عند ربه وعند الناس مرضيا.
Неизвестная страница