رسائلنا اليوم وبالأمس
1915
بعض الأوامر السلطانية تستوقف نظر الأديب برشيق أسلوبها وبليغ إيجازها، منها الأمر الذي صدر بتعيين صاحب العزة محمود فخري بك
1
أمينا أول لعظمة السلطان. وما دامت سراي عابدين تهتم بأساليب الإنشاء فحق لمحبي الأدب أن يرجوا. ولو كنت رجلا وجاز لي البحث فيما يختص بالرجال لتمنيت لدواوين الحكومة أن تحذو حذو السراي السلطانية فتتوب عن اللغة والأسلوب السقيمين المستعملين في أوامرها ومراسلتها.
أسمعك مزمجرا يا سيدي الرقيب، وقد اقترب قلمك من جملتي هذه يقصد الفتك بها، فأصغ إلي غير مأمور، لا أنت جندي ألماني ولا أنا جندي فرنسوي، ولا هذه الصفحة كنيسة ريمس؛ فكن حليما ولا تحذف منها شيئا. ثم أرجو أن تذكر أني بدأت تلك الجملة بكلمة «لو»، وهل أنت من يخفى عليه قول الفرنسيس بإمكان وضع باريس في زجاجة إذا ما استعملت كلمة «لو»؟ ولا أظنك محتجا على وضع باريس في زجاجة، على شريطة أن تكون الزجاجة غير ألمانية تملأ بالغازات السامة. وإني لموافقة على ذلك. وكل هذا الكلام أقوله لأنسيك شطب تلك الجملة الأثيمة، أنساكها الله! •••
لقد تحسن فن الإنشاء في أيامنا، بالأمس كانوا يكتبون طويلا دون أن يقولوا شيئا؛ إذ لم يكن معظم الرسائل غير استعارات محفوظة وأسجاع مرصوصة، فبعد «غب الشوق» الأصولية كان مراسلك يبعث إليك «بسلام، لو كان ذا أجسام لملأ الأرض بالتمام» دون أن يترك للأرض هامشا! و«بتحيات أزكى من النعامى (أو من «نفس النعامى» لا أدري) بين ورق الخزامى.» كذلك يبدأ الخطاب بالسلام والتحيات والأشواق ويختمه بالأشواق والتحيات والسلام.
أما الآن فأخذنا نكتب لنعبر عن شيء نريد أن يفهمه من نخاطب، فإذا اطلعت على رسالة تيسر لك الحكم على ذوق كاتبها ومعارفه ودرجة تربيته ومكانته الاجتماعية، فأخذ ينطبق علينا مبدأ «الإنشاء هو الشخص».
غير أن أهل الذوق وجدوا في كل آن وزمان. وبينما كان المجموع يملأ صحيفة الرسالة بالمبالغة والإغراق كانت الخاصة تكتب كتابة الإيجاز والبلاغة. كل منا يعرف رسالة المتنبي إلى صديق كان يعوده في مرضه فانقطع عنه بعد الشفاء فكتب إليه المتنبي يقول: «وصلتني - وصلك الله - معتلا، وقطعتني مبلا، فإن رأيت أن تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله.»
وتحسب هذه الكلمة من بدائع الإنشاء.
Неизвестная страница