75

وتشعب الحديث، وتفتحت مغاليق الأسرار من الجانبين، وفي غير مناسبة ظاهرة سألته وفي عينيها خبث كخبث الأطفال المناوئين: كم عمرك يا همام؟

قال همام: دعي هذه المحرجات يا بنية، فإن أبيت إلا الإلحاح فسأخبرك على شريطة واحدة، وهي أن تخبريني أنت - بداءة - لماذا تسألين؟

قالت: ولم؟ أيتغير عمرك بتغير أسباب السؤال؟ على أنني لا أنوي أن أدعك تطيل التخمين، وأريد أن أفرض لك اثنتين وثلاثين سنة إذا كنا متفقين في نسبة السن كما اتفقنا في غيرها من المقارنات ... فإنني أنا في الثالثة والعشرين، وينبغي أن يكون عمر المرأة نصف عمر الرجل مضافا إليه سبع سنوات.

قال: بل تسمحين أن يكون عمرك خمسا وعشرين ليتفق الحساب من الطرفين، وأقسم لك أنني ما أسقطت يوما واحدا، وأنك أسقطت السنتين الناقصتين! •••

من الواجب أن نعرف لأيام النعيم وداعا غير وداع الأسى والأنين الذي اصطلح عليه شعراء الاصطلاح في بعض العصور العربية.

فمن الخيانة للسرور عند هؤلاء الناس أن تلوح له ساعة وداعه بمنديل غير مبلول، وأن تفرغ منه شبعان راضيا عن الشبع شاكرا للزاد، خاليا بذكرياته للتملي به والتأمل فيه.

وشعراء الاصطلاح جهلاء بالإنسان، لا يدرون ما الأسى ولا يدرون ما السرور، فالواقع أن الإنسان ليرحب بالشبع من النعيم وهو شاكر كما يرحب بالشبع من المائدة وهو شاكر، وترتفع المائدة فلا يحزنه أن ترتفع بعدما استوفى صنوفها وروى أحشاءه من آكالها وأشرباتها وهنأ حواسه جميعا بما استطاع أن يلتهم من دسمها وحلواها، ومن شبع من الروضة زهرا ولونا وأريجا وظلا فلا بد أن يشوقه أن يغمض عينيه ليشبع منها خيالا ومراجعة، ويضع لها صورة مجملة يتأملها ويستبقيها، ويفسح لها مكانا من متحف النفس تأوي إليه أبد الآبدين بنجوة عن الواقع وطوارق الأحداث؛ انتهى السرور الظاهر فليبدأ السرور الباطن، وذهب السرور العابر فليبق السرور الدائم، وتم السرور الذي يملكنا ويؤثر فينا فلننظر في السرور الذي نملكه ونؤثر فيه.

وهكذا ودع همام يومه شبعان جد الشبع، قانعا أوفى ما يكون القنوع في تركيب أبناء الفناء، مستريحا إلى الوداع كما يستريح الشاكر المكتفي لا كما يستريح السائم الملول، وأغمض عينيه على فراشه تلك الليلة يستعيد ويستجمع ويستمرئ ويتحدى النوم وهو مقبل إليه: أيها النوم، أتحدى أحلامك أن تعطيني فوق ما أخذت اليوم في صحو اليقظة ... وأنا كاسب الرهان على الحالين ... •••

وتوالت المواعيد بعد الزيارة الأولى على تباعد بينهما في مبدأ الأمر، ثم على تقارب يوشك أن يكون بلا انقطاع.

إلا أنهما اتفقا على أن ينذرا سحابة يوم الجمعة لخلوة كاملة لا مشاركة فيها ولا يعوقهما عنها عائق.

Неизвестная страница