فلوح سانين بيده تلويح الضجر وقال: «لا تقل لي! لو أن رجلا قطع أصبعك لآلمك الأمر أكثر مما يؤلمك لو أنه كان أصبع روسي آخر. هذه حقيقة. أليس كذلك؟» - «أو أنانية» يريد نوفيكوف أن يتهكم فيخرف. - «ربما. ولكنها الحقيقة على كل حال. ومع أنه ليس في روسيا ولا في كثير غيرها دستور ما، بل ليس فيها أضأل دليل على وشك ميلاد الدستور- فإن حياتك المملة هي التي تقيمك وتقعدك لا عدم وجود الدستور. وأقول لك أكثر من ذلك» وهنا لمع في عينه بريق السرور «إنك مكروب - لا من جراء حياتك بل لأن ليدا لم تمل إليك بالحب بعد، والآن أليس الأمر كما أقول؟» «أي هذيان هذا؟» وصار وجه نوفيكوف كقميصه حمرة وبلغ من ارتباكه أن الدموع وثبت إلى عينيه الفاترتين الرقيقتين. - «كيف ترى قولي هذيانا وأنت لا ترى غير ليدا في الدنيا؟ إن الرغبة فيها مسطورة بأحرف جليلة على جبينك.»
فاضطرب نوفيكوف اضطرابا محسوسا وأخذ يسرع في خطواته جيئة وذهوبا، ولو أن امرءا غير أخيها كلمه على هذه الصورة لتألم أبلغ الألم، ولكن هذه الكلمات من فم سانين أذهلته. والواقع أنه لم يكد يفهم ما يقول في أول الأمر.
فتمتم قائلا: «اسمع إما أنك تتكلف أو ...» - «أو ماذا؟» وابتسم.
فلوى نوفيكوف وجهه وهز كتفيه وصمت. وكان الذي جرى في ذهنه غير التكلف هو أن يعد سانين رجلا مستهترا خبيثا، غير أنه لم يستطع أن يصارحه بهذا الخاطر إذ كان منذ أيام الدراسة في الكلية يخلص له الحب ويصدقه إياه، ومحال أن يكون نوفيكوف قد اختار لصداقته امرء سوء. وكان وقع هذا الكلام كريها مذهلا، وأوجعته الإشارة إلى ليدا، ولكنها كانت معبوده فلا يسعه أن يحس الغضب لأن سانين ساق ذكرها وسره هذا، ولكنه آلمه كأن يدا متقدة أمسكت بقلبه وضغطت.
وصمت سانين قليلا وهو مبتسم منشرح ثم قال: «أتمم كلامك. فلست أتعجلك!»
فظل نوفيكوف يجيء ويروح كما كان مجروح النفس لا شك في ذلك. ودخل في هذه اللحظة الكلب يعدو وحك جسمه بركبتي سانين كأنما يريد أن يرى الناس مبلغ سروره هو الآخر فلاطفه سانين وهو يقول: «يا لك من كلب طيب!»
وحاول نوفيكوف أن يجتنب اتصال الحديث وأشفق أن يعود إليه سانين وإن كان أحب موضوع إليه وألذه وأنداه، وكل ما لا شأن له ب«ليدا» عبث عنده لا يطاق.
ثم راح يسأل سانين عفوا «وأين ليدا بتروفنا؟» وإن كان مع ذلك يكره أن يلقي السؤال البارز في ذهنه. - «ليدا؟ وأين يمكن أن تكون؟ تتنزه مع الضباط حيث كل الفتيات في هذه الساعة من النهار.»
فسودت الغيرة وجه نوفيكوف وهو يقول: «كيف تنفق فتاة مثلها براعة وتهذيبا وقتها مع هؤلاء الحمقى الفارغي الرءوس؟»
فقال سانين باسما: «يا أخي، إن ليدا فتاة جميلة موفورة الصحة مثلك بل هي فوق ذلك. إذ كانت قد أوتيت ما ينقصك - أعني الرغبة الحادة في كل شيء وهي تريد أن تعلم كل ما يعلم وأن تجرب كل أمر - هذه هي آتية وما عليك إلا أن تنظر إليها لتفهم هذا. أليست بالله جميلة؟»
Неизвестная страница